وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

رواه البخاري

نشر بتاريخ: 04/07/2020 ( آخر تحديث: 04/07/2020 الساعة: 17:24 )
رواه البخاري

يُروىَ أنَّ أحدَ مشاهيرِ القُرّاءِ المصريين أخطأَ فيْ تلاوةِ القرآنِ الكريمِ، فعوتبَ فيْ ذلكَ، فردَّ مُدافعاً عنْ نفسهِ، "هوَّ أنا غلطتُ فيْ البخاري" ، فذهبتْ العبارةُ مثلاً يُقالُ عندما يُلامُ أحدُ الناسِ علىْ قولٍ أوْ فعلٍ خطأ، للتهوينِ منْ حجم خطئهِ، والتخفيفِ منْ وزنِ غلطتهِ، والعبارةُ دليلٌ علىْ عُمقِ التعظيم وقوةِ التمجيدِ لصحيحِ البخاري، كإيمانٍ راسخٍ فيْ العقلِ الجمعي، يتوارثهُ المسلمون جيلاً بعدَ جيل، وكيقينٍ متجذرٍ فيْ الوجدانِ الشعبي، يتشّربهُ الصغارُ منْ الكبارِ، بمختلفِ مستوياتهمْ الثقافيةِ، ودرجاتهمْ العلمية، والتزاماتهمْ الدينية. فقدْ كبرناْ، وتشكلتْ عقولناْ، وبُنيتْ ثقافتنا، ونحنُ نسمعُ ونقرأُ أنَّ صحيحَ البخاري أصحُّ كتابٍ بعدَ كتابِ اللهِ، فارتبطَ شرطياً بالقرآنِ الكريمِ، وكأنّهما فيْ مرتبةٍ متقاربة تقديساً، ومنزلةٍ متشابهةٍ تنزيهاً، وجملةُ (رواه البخاري) أكبرُ دليلٍ علىْ ذلكَ التقديسِ والتنزيهِ، فكثيراً ما أنهتْ الجدالَ بالضربةِ القاضيةِ عندما يكونُ موضوعهُ صحة حديثٍ نبويٍ ما، فتُسكتُ الجملةُ المتجادلين فلا تسمعُ إلاَّ همساً، وتُصمتُ المتناظرين فلا تكادُ تسمعُ لهمْ رِكزاً.

(رواه البخاري)، أنهتْ نقاشاً لمجموعةٍ منْ الزملاءِ المعلمين، كانَ كاتبُ المقالِ أحدَهمْ، وموضوعهُ الحديثُ النبوي "إنَّ الميتَ يُعذّبُ ببكاءِ أهلهِ عليه"، وتفاصيلهُ محاولةُ التوفيقِ بينَ ما يُفهمُ منْ معناه تحريمُ البكاءِ علىْ الميتِ، وما يُفهمُ منْ معاني نصوص أحاديثِ نبوية أُخرى بإباحة البكاء على الميتِ كتعبيرٍ عن انفعالِ الحزنِ الإنساني الطبيعي. وكذلكَ محاولة التوفيق بين ما يتضمنه نص الحديث منٌ تحميلِ الميت لمسئوليةِ عملٍ لم يعمله، مُخالفاً للقاعدة القرآنية الموجودة في الآية " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" كأهم قواعد العدل الإلهي. فذهبَ الزملاءُ فيْ تأويلاتهم وتفسيراتهم كلَّ مذهب آخذين من أقوال العلماء حيناً، ومجتهدين بآرائهم حيناً آخر، حتى قال أحدُهمْ: ربما كانَ الحديثُ موضوعاً أو ضعيفاً! ، وسرعانَ ما أجابَ عليه معلمُ الدين غاضباً: وكيفَ ذلكَ والحديثُ (رواه البخاري)، فتدخلَ كاتبُ المقالِ قائلاً: إذنْ قدْ يكونُ الخطأُ فيْ صحيحِ البخاري، فربما حدثَ خطأٌ فيْ نقل متن (نص) الحديث النبوي في سلسلةِ رواة البخاري، ولمْ يكدْ يُنهي جملتهُ حتى انهالَ عليه التوبيخُ والتقريعُ منْ كلِّ حدبٍ وصوبٍ، ولمْ يوقفهُ إلاَّ جرسُ نهايةِ الفُسحةِ مُنهياً النقاش بين الزملاء، دونَ أنْ ينهيهُ في عقل الكاتب.

غابَ عنّا آنذاك موقف أم المؤمنين السيدة عائشة – رضي الله عنها – عندما ذُكرَ الحديثُ أمامها مرّوياً عن الخليفةِ الراشد الثاني عمر بن الخطاب – رضي اللهُ عنه – فقالتْ: "رحمَ اللهُ عمرَ، واللهِ ما حدّثَ رسولُ اللهِ (أنَّ الميتَ يُعذّبُ ببكاءِ أهلهِ عليه)، ولكن قال: (إنَّ الله يزيدُ الكافرُ عذاباً ببكاءِ أهلهِ عليهِ)، حسبكم القرآن (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). " . وموضع الحديث والنقاش حوله يشيرُ إلى وجودِ إشكالية منهجية في التعامل مع كتب الأحاديث النبوية، خاصة كتب الصحاح الستة، وبالتحديد كتاب (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) لصاحبه الإمام محمد بن اسماعيل البخاري، المعروف اختصاراً بـ (صحيح البخاري)، وهذه الإشكالية محددة بمدى التطرف في تقديس صحيح البخاري وكأنه معصوم من الخطأ كالأنبياء والرسل، وهذا التطرف مدخل لمنع استمرار الاجتهاد في تصحيح الأحاديث النبوية، وكأنَّ كتب الصحاح آخر العلم وكماله، وهذا بدوره مدخلٌ لوقف تجديد الخطاب الديني، وبابٌ لاستغلال بعض الأحاديث للإساءة لصورة الرسول – صلى الله عليه وسلم، وتشويه صورة الإسلام لا سيما فيما يتعلّق بالنساء والدماء. ورغم اتفاق غالبية العلماء بأنَّ صحيح البخاري هو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، فهذا لا يمنحه العصمة من الخطأ، فقد اختار الإمام البخاري بطريقة علمية دقيقة حوالي سبعة آلاف حديث نبوي نصفها تقريباً مُكرر، من بين مئات آلاف الأحاديث الأخرى التي جمعها، ومن الجائز عقلاً وشرعاً، وعلمياً ومنطقياً، وجود أحاديث صحيحة قد تركها، وأحاديث غير صحيحة قد أخذها بغض النظر عن عددها.

فرضية الخطأ في صحيح البخاري نابعة من طبيعتة البشرية غير المعصومة من الخطأ والنسيان والنقص في العمل البشري، دون أن تُبطلَ الأصل في صحة الكتاب بجملته بما اُنبعُ في جمعه من منهجية علمية مُحكمة، وفرضية الخطأ موّجهة إلى العمل الذي قام به البخاري، وغير موّجهة بالطبع إلى نصوص الأحاديث النبوية عندما يثبت صحتها سنداً ومتناً. فلا يجوز تقديس الرواية المنسوبة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – بمجرد نسبتها إليه بجهد بشري غير معصوم من الخطأ والنسيان، أو الغفلة والنقصان، وهذا ما أشار إليه العلاّمة المحدّث ناصر الدين الألباني في فتاويه "... أثناء البحث تمر معي بعض الأحاديث في الصحيحين، أو في أحدهما، فينكشف لي أنَّ هناكَ بعضُ الأحاديث الضعيفة!، لكن من كان في ريب مما أحكم أنا على بعض الأحاديث فليعد إلى فتح الباري فيسجد هناك أشياء كثيرة وكثيرة جداً ينتقدها الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني". وتأكيداً لأهيمة ثبوت صحة السند والمتن جاء في كتاب (الفروسية) لإبن قيم الجوزية "فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن لاحتمال أن يصح الإسناد ويكون في المتن شذوذاً أو علة تمنع صحته"، وهذا ما أكده العالم محمد الغزالي في كتابه (تراثنا الفكري في ميزان الشرع) بقوله : "إنّ الحديث يُعرض على معايير نقد المتن حتى لو كان صحيح السند"، ولهذا استنبط الدكتور مصطفى السباعي في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) معايير لنقد المتن أهمها: ألا يكون ركيك اللفظ، ومخالفاً لبديهيات العقول، وحقائق العلم والتاريخ، وصريح القرآن، ومُحكم السنة، ومقاصد الشرع...

إذا كانَ إنكار فرضية الخطأ في صحيحي البخاري تطرفاً باتجاه الحق، ويحجبُ بعضَ الصواب، فإنَّ إنكار صحة كتاب البخاري بالجملة كمصدر ثانٍ للدين الإسلامي- ومعه كل كتب الأحاديث النبوية- تطرفاً اتجاه الباطل، ويحجبُ معظم الصواب، وهذا التطرف يمثله بعض التيارات الفكرية قديماً وحديثاً، ولعلَّ أحدثها ما يُسمى بتيار (القرآنيون)، الذين يرون في القرآن الكريم المصدر الوحيد للإيمان والتشريع في الإسلام، باعتباره الكتاب الوحيد الذي تكفل الله بحفظه، وأجمع المسلمون على صحته، بينما الأحاديث النبوية فيها اختلاف كبير على صحتها، خاصة أنها كُتبتْ وصححت بمنهجية غير علمية وغير موضوعية، وبعد أكثر من قرنين من وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد تناقلها شفوياً عبر سلسلة طويلة من الرواة، معرضون للخطأ والنسيان والغفلة والزيادة والنقص، وهذا التيار لا يعترف بوحي ثانٍ مع القرآن الكريم، زاعمين بأنَّ كلام النبي خارج القرآن ليس وحياً من الله، وبالتالي غير مُلزم للمسلمين. ويرى كبيرهم الدكتور أحمد صبحي منصور في مقاله (السم الهاري في تنقية صحيح البخاري) المنشور في فبراير 2010، أنَّ ما أسماه (السنة البخارية)، تناقض (السنة القرآنية). وخطورة هذا التيار أنّه لا يدعو إلى منهجية علمية جديدة لمراجعة وتصحيح كتب الاحاديث، بل يستبعدها جملة، وفي ذلك هدم للسنة النبوية كمصدر ثانٍ للإسلام، مما يفتح المجال لهدم الدين كله.

فصل المقال إذا كانت الفضيلة وسط بين رذيلتين، والاعتدال وسط بين تطرفين، فالفضيلة والاعتدال في الوسط بين استبعاد الخطأ في صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاح، وبالتالي رفض مراجعته وتصحيحه بمنهجية علمية محكمة، وبين استبعاد الصواب في صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاح، وبالتالي رفض التعامل معه كمصدر ثانٍ للدين الإسلامي. ويعبر عن هذا الفهم العلاّمة المحدّث ناصر الدين الألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) بقوله : "جهل بعض الناشئين الذين يتعصبون لصحيح البخاري، وكذا صحيح مسلم تعصباً أعمى، ويقطعون أنَّ كل ما فيهما صحيح!، ويُقابل هؤلاء بعض الكتاب الذين لا يقيمون للصحيحين وزناً، فيردون من أحاديثهما ما لا يوافق عقولهم وأهواءهم" وحال الفريقين كحال الخوارج والأمويين في تمردهم المسلّح على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب- كرّم الله وجهه – واصفاً حالهم: " ليس من أراد الحق فأخطأه كمن أراد الباطل فأدركه". ورحم الله الإمام مالك القائل "كلُّ يؤخذ منه ويُرد إلاّ صاحب هذا القبر"، وهذا هو مفتاح تجديد الخطاب الديني، وكلمة السر لنهضة الأمة ورقيها.