وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

هـي الجغـرافــيا السـياســية

نشر بتاريخ: 29/07/2020 ( آخر تحديث: 29/07/2020 الساعة: 03:06 )
هـي الجغـرافــيا السـياســية

الكاتب: فراس ياغي

إرتبطت فلسطين ومنذ الحضارات القديمة ما قبل الميلاد وبعده بميزة جغرافية جعلت منها مطمعاً ومركزا مهما لكل الإمبراطوريات المتعاقبة، كونها حلقة الوصل بين قارة أفريقيا وآسيا من جهة وتقع على حوض المتوسط المرتبط بقارة أوروبا، لذلك لها أهمية كبرى في مفهوم الطرق التجارية والتواصل الجغرافي، ولاحقا لذلك ومع ظهور مفهوم الأديان أصبحت أيضا مركزا جوهريا في العقائد الدينية وبالذات لدى الرسائل السماوية الثلاث، فمن "البطاركة" الأوائل حيث التاريخ الملتبس الذي رافقهم وما قرّرته توراة "عزرا" في نهاية القرن الأول قبل الميلاد وتثبيت تواجدهم ومكانهم في فلسطين والوعد الإلهي للنبي "موسى" عليه السلام "أرض المعياد" و "الأرض الموعودة من الرب يهّوة لقبيلة بني إسرائيل" إلى كون فلسطين مهد سيدنا "المسيح" عليه السلام حيث إستشهد فيها، وما بعد ذلك من المباركة الإلهية لها وعروج سيدنا "محمد" عليه ألف صلاة وسلام من مركزها مدينة "القدس" ومن مسجدها "الأقصى" بالذات للسماوات السبع.

إنّ الهالة المقدسة التي إرتبطت بالجغرافيا الفلسطينية أساسها "الجيوبولتيك" الجغرافيا السياسية أكثر من أي شيء آخر، فأوروبا المسيحية وجدت في المبررات الدينية والمعتقدات المستشرية بين مسييحييها منطلقا لإستعمار فلسطين وسورية الكبرى بإعتبارها تتوسط القارات الثلاث القديمة وطرق التجارة منها وإليها، ولاحقا ومع بروز ما عرف بإسم "المسألة اليهودية" وظهور الحركة "الصهيونية" تم إستدعاء الديني "اليهودي- الإنجيلي" المسيحي لتغيير الجغرافيا السياسية وتأسيس دولة "إسرائيل" كبؤرة وجبهة متقدمة للسيطرة على غرب آسيا ومنع الوحدة بين مكونات شعوبها وعزلها عن علاقاتها وإمتدادتها في شمال أفريقيا بالذات، خاصة أن هذه المنطقة التي تم تقسيمها وفق "سايكس-بيكو" مع دول شمال أفريقيا تُشكل مجتمعة خطراً حقيقيا على الغرب الإستعماري إقتصادياً وسياسياً، وبعد هزيمة عام 1967 تم إستدعاء البعد الديني الإسلامي بقوة وصلاح الدين الإيوبي ومعركة "حطين" كثقافة للمقاومة والصمود وكرد على إستدعاء البعد الديني "الصهيو-إنجيلي".

اليوم نستطيع وفقا لمفهوم "الجيوبولتيك" أن نلمس مدى الضياع الذي تُعاني منه شعوب المنطقة ككل والشعب الفلسطيني والعربي بالذات، وللتحكم بالمعطى الجغرافي ولتعزيز السيطرة ومنع أي إمكانية لوحدة شعوب المنطقة وجد الغرب الإستعماري وبالذات عقلية الإمبريالية "البريطانية" شريكة الوحش "الأمريكي"، أن الحركة الصهيونية ودولة "إسرائيل" لا تستطيع لوحدها تنفيذ السياسات الغربية وأن لا قدرة لها على إبقاء "الجيوبولتيك" وفقا لرؤية وثيقة "كامبل "1907"، لذلك قامت بإستدعاء مفاهيم تاريخية موروثة متأصلة لدى شعوب المنطقة أساسها الإثنية والطائفية والمذهبية، وبدأت في العقد الثاني من القرن العشرين في خلق أحزاب دينية-سياسية، فتأسس حزب الإخوان المسلمين على يد "حسن البنا" عام 1928، وتم تأسيس حزب "التحرير" عام 1953، وكانت مهمة الحزبان هي خلق حالة صدامية مع النهوض القومي العربي بالأساس ومحاربة فكرة "الشيوعية" التي دعمت كل حركات التحرر في مواجهة الإستعمار الغربي الرأسمالي، وبعد إنهيار "الإتحاد السوفيتي" وظهور الثورة "الخمينية" بدأ الغرب الإستعماري بإستدعاء رصيده "الوهابي" وخلق ما عرف بإسم "القاعدة" و"داعش" وغيرها من فصائل إرهابية قتلت من المسلمين أكثر من غيرها، وإستعارت مفاهيم مذهبية تحت عناوين "سنة" و "شيعة" قامت بتغذيتها ونشرها أحزاب الأسلمة السياسية بشكل كثيف بين شعوب المنطقة، طبعا ترافق ذلك مع قيام تلك الأحزاب بالتحريض وطرد وقتل مسيحيي الشرق وكل الإقليات الدينية والمذهبية إضافة لتسعيير الصراع الإثني وبالذات مع الأخوة "الأكراد"، كل ذلك هدفه دعم قاعدتهم الغربية الإستعمارية دولة "إسرائيل" من جهة، ومن الجهة الأخرى الإبقاء على السيطرة التامة على "الجيبولتيك" وثرواته الهائلة في أيدي الغرب الرأسمالي وأدواته من شركات رأسمالية متوحشة عملاقة.

ضمن مشهد الجغرافيا السياسية الحالي ظهر ضياع إستراتيجي وتكتيكي وعدم وضوح للبوصلة لدى قيادة الشعب الفلسطيني وبالأساس قواه المركزية متمثلا في ممثله الشرعي والوحيد "منظمة التحرير" وبجانبها حركة "حماس" ذي الولاءات الإخوانية، ويظهر ذلك في عدم وجود قراءة دقيقة لِ "الجيوبولتيك" القائم والتركيز فقط على شعار "العلاقة مع الكل لخدمة الأهداف الوطنية الفلسطينية" وشعار "العلاقة مع الدول وفق معيار قربها أو بعدها من القضية الفلسطينية"...للوهلة الأولى فإن هذا الشعار بشكل عام يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، لكن الواقع الحقيقي مُختلف جذريا، فالجغرافيا السياسية في الإقليم تفرض نفسها بقوة على السياسية الفلسطينية وعلى قياداتها المتعددة.

ونظرة على الإقليم ككل سترى أن هناك محورين أساسيين تتقاطع فيما بينها وتتحالف في بينها وتتصارع فيما بينها، والقضية الفلسطينية يتجاذبها المحورين ووفقا لمصلحة كل محور، هناك محور غربي "أمريكي" إستعماري، ومحور أوراسي يتبلور "صيني روسي"، وضمن ذلك سنجد أن هناك ثلاث مشاريع في داخل هذين المحورين، مشروع "إسرائيلي" مدعوم بقوة من الإمبريالية الأمريكية والغرب الإستعماري، ومشروع "تركي" يستدعي الموروث العثماني الإستعماري والفكر الإخواني ويحظى بدعم من أحزاب الأسلمة السياسية "السنية" وعلى رأسها حزب الإخوان المسلمين، وهو جزء من "الناتو" حلف الإمبريالية الأمريكية والغرب، والمشروع الثالث هو "إيراني" يستدعي المفهوم المذهبي الشيعي وشعار المقاومة ومواجة الإستكبار الغربي والأمريكي بالذات، ويدعمه دوليا "الصين" و "روسيا" إلى حد ما ومجموعة أحزاب ومليشيات شيعية وفلسطينية سنية وعلمانية تحت مفهوم "محور المقاومة".

ضمن المشاريع أعلاه يتم التعاطي مع القضية الفلسطينية خاصة مع غياب واضح وفراغ لوجود مشروع "عربي" كما كان زمن الخالد "جمال عبد الناصر"، ورغم أن البوصلة الفلسطينية يجب أن تكون للجميع بلا إستثناء واحدة ومرتبطة بمواجهة مشاريع الإستعمار وعلى رأسها محاولات تصفية القضية الفلسطينية "خطة ترامب"، إلا أنها وكنتيجة لإرتباطات مصلحية إقتصادية وأيديولوجية نراها تاءهة غالبا ومرتجلة أحياناً.

القضية الفلسطينية ورغم عدم وجود مشروع عربي واضح يجب أن يبقى عمقها عربي بالأساس لأن غالبية الشعوب العربية وقفت ولا تزال إلى جانبها، لذلك طبيعة "الجيوبولتيك" القائم إقليميا يتطلب الحذر في أخذ المواقف وفي العلاقة معه وفقا لمشاريعه الثلاث، خاصة أن البعض الذي يرتكز لشعارات دينية موروثة يستغل القيادة الفلسطينية وحزبيها الرئيسين "فتح وحماس" والقضية الفلسطينية ككل لمواجهة ليس المشاريع الأخرى "الإسرائيلية" و "الإيرانية"، بل ضد عمقها العربي وتحت حجة تحالف تلك الدول مع المشروع "الإسرائيلي"، رغم أنه يتحالف ويعمل على تحقيق المشروع الغربي الإستعماري-الإسرائيلي مقابل حصولة على شراكة في النفوذ والثروة، ونجد سياساته في "سوريا" و "ليبيا" و "العراق" وتدخله في الشأن "المصري" يأتي في سياق مفهوم المحاصصة والمصلحة الخاصة المرتبطة أصلا بسياسة الإمبريالية الأمريكية العدو الأول للقضية الفلسطينية.

"تركيا-قطر" ليست سوى جزء من سياسة أمريكية في منطقتنا يتبناها بالأساس الحزب الديمقراطي الأمريكي ومتحالف معها، وتتعاطى معها سياسات إدارة "ترامب" وفقا لمصلحتها ومصلحة "إسرائيل" في مواجهة المحور "الأوراسي" وهدفها تحويل العلاقة الإستراتيجية "التركية-الإسرائيلية" من أمنية إلى تشاركية ومناطق نفوذ إقتصادية حيث يتم إستدعاء الدين السني والعثمانية لخدمة ذاك الهدف، ولكن أساسها الحقيقي منع قيام أي مشروع نهضوي وقومي عربي قادر على مواجهة الغرب الإستعماري وقاعدته "إسرائيل" وبما يؤدي لإنتزاع الحقوق الوطنية الثابته للشعب الفلسطيني.

القضية الفلسطينية يتآلب عليها "الجيوبولتيك" ويتقاذفها ويشدها هنا وهناك ويجعل من قياداتها مطيّة للإستخدام في مشاريع لسنا سوى أداة فيها تُستخدم حين اللزوم، لذلك علينا أن نعمل للتأثير في الجغرافيا السياسية ورفض أن نكون أداة لها، والبوصلة في ذلك وبشكل طبيعي تتجه للمحور "الأوراسي"، محور يوازن ويعادل المحور الأمريكي الذي يعمل على إستغلال تلك الجغرافيا السياسية لتمزيق العرب وتدمير العروبة مرة بإسم "العثمانية" وأخرى بإسم "الفارسية"، القضية الفلسطينية فوق "العثمانية" و "الفارسية" وهي قضية العرب المركزية ويجب أن تبقى كذلك، والبوابة لذلك هي "سوريا" و "مصر" و "الجزائر"، فالأمن القومي العربي ومواجهة مشاريع التقسيم وتوزيع النفوذ اساسه القضية الفلسطينية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وضمن مفهوم مواجهة الإحتلال والضم ومبدأ الدولتين المُجمع عليه دوليا والمدعوم بقرارات واضحة لا لبس فيها من المجتمع الدولي وعلى رأسها قرارات الأمم المتحدة.