وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

من أجل إحياء ثقافة المقاومة... فيصل دراّج: الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن الحق والقيم والأخلاق والجمال

نشر بتاريخ: 22/09/2020 ( آخر تحديث: 22/09/2020 الساعة: 14:02 )
من أجل إحياء ثقافة المقاومة... فيصل دراّج: الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن الحق والقيم والأخلاق والجمال

في ثلاث ندوات متتالية، نظمت خلال الثلاثة شهور الأخيرة، اتضح بشكل جلي أهمية الاهتمام بالثقافة في الوقت الحالي الذي تواجه فيه القضية الفلسطينية تحديات وتهديدات وجودية، تمثلها ما تسمى ب"صفقة القرن"، وما ارتبط ويرتبط بها من مخطط ضم وعمليات تطبيع مع الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. ففي ندوة عبر الانترنت نظمها معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي بالتعاون مع موقع "اليوم الثامن" في شهر تموز الماضي، تحت عنوان "دور الثقافة الفلسطينية في مواجهة صفقة القرن والضم"، أكد الفيلسوف والمفكر الفلسطيني أحمد نسيم برقاوي أن الثقافة الفلسطينية التي تمثل ثقافة وجود هي دفاع عن الحق في مواجهة ثقافة الاستعمار التي تمثل اللاّحق، وان الثقافة الفلسطينية بدون كونها ثقافة حق ودفاع عن الحق لا يمكن أن تتحول الى سلاح قوي لمواجهة النقيض، ألا وهو اللاحق الذي يمثله الضم والسلب الاستعماري، أي مواجهة ثقافة المستعمر والاحتلال. وفي ندوة نظمها مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية في أيلول الماضي، أكد الروائي والكاتب الياس خوري أن الثقافة هي التزام أخلاقي وحب، موضحا أن الفعل الثقافي كفعل تحرير، غير منفصل عن فعل البندقية، فهو مشروع ثوري تحرري انساني، لا بد للمثقف فيه من أن يتماهى مع الضحايا، وأن يتصرف بصفته ضميرا حرا ومستقلا، يعبر عمن لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ويشكل أداة وصوتا لهم. أما الندوة الثالثة، فكانت لقاء اذاعيا على صوت فلسطين مباشر أدارها الكاتب والأديب أحمد زكارنة مع المفكر والناقد الكبير الدكتور فيصل دراّج، الذي أكد أن الثقافة هي ممارسة أخلاقية لخدمة البشر، وأن دور المثقف ليس القراءة والكتابة، بل عليه أن يدافع عن الحقيقة والحق والأخلاق والجمال، وان الدفاع عن فلسطين، هو دفاع عن قضية مقدسة، دفاع عن الحق والقيم والأخلاق والجمال.

من خلال المشاركات والتعليقات على الندوات الثلاثة عموما، والندوة الأخيرة مع دراج بخاصة، يتبين بشكل جلي وجود عطش وظمأ لدى فئات واسعة من الفلسطينيين للاستماع الى مثل هذا الخطاب، المعبر عن فهم متميز للثقافة والمثقف، وهو عطش وظمأ لا يخفي، مطلب حماية الثقافة الوطنية وضرورة تعزيز صمود الجبهة الثقافية وإحياء ثقافة المقاومة، في وقت يزخر فيه المشهد بهزائم وتراجع وانتكاسات ومآسي على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي دفعت البعض للحديث عن هزيمة الثقافة.

ثلاثتهم، البرقاوي وخوري ودراّج، رفضوا قبول فكرة هزيمة الثقافة، واعتبروا ان الهزيمة الماثلة هي هزيمة سياسية، وأن ما له صلة بالثقافة وهزم، هو الثقافة الزائفة والوعي الزائف والآيديولجيا الزائفة والظلامية، التي أفضت بدورها الى ما يمكن أن يطلق عليه مجازا "ثقافة الهزيمة"، والمتجلية مؤخرا بفكر وقيم وسلوك المطبعين والمستسلمين لإرادة المحتل وإملاءات المعتوه ترامب. واعتبر ثلاثتهم، ان ما نشهده من تراجع لدور الثقافة سببه الاستبداد والبترودولار. وفي هذا السياق اوضح فيصل دراّج ان ثقافة الهزيمة هي شيء عابر، لا علاقة له بالسياق وهو ليس معطى مفتوح، وليس معطى شعبي مجتمعي. واعتبر ان الأمر يشير الى التدهور المتصاعد للدور النقدي للثقافة العربية بسبب سلطة المال النفطي والاستبداد والتضييق على حرية المثقفين ودورهم وبسبب النزعات الظلامية التي استشرت في الفترة الماضية، مما أدى إلى انحسار نسبي للثقافة التنويرية، المدافعة عن الحق. ورفض دراّج الزعم أن الدين هو سبب طغيان الآيديولوجيات الظلامية، مطالبا بضرورة التمييز بين الدين كفعل ايمان ودعوة الى الخير، وبين الدين السلطوي، الذي هو ضد الخير العام ونصير للاستبداد، وبالتالي فإن المسؤول عن الآيديولجيات الظلامية هي سلطات الاستبداد، التي تقوم بالتجهيل وتغيير المثقفين والثقافة عبر أجنداتها التعليمية والإعلامية والآيديولجية، وبالتالي تخلق الوعي الزائف، الذي يؤدي في استطالته الى استضعاف الشعوب.

سلطات الاستبداد هذه في المنطقة العربية، كما يوضح فيصل دراّج، هي أنظمة تبعية، أنظمة كرتونية أو طائفية، حريصة على مصالح الخارج، تعتمد على الخارج على أمل وَهْم تأمين ديمومة سلطوية طويلة لها، وهي بالتالي يصدق عليها حكم أنها مجموعة من المجازات السلطوية الناقصة التي تدار من الخارج. ولذا ليس مستغربا أن تقدم على ما أقدمت عليه من إقامة علاقات علنية سافرة مع دولة الاحتلال. ويرفض دراّج أن يطلق على هذا الفعل مصطلح تطبيع، فبرأيه لا يوجد تطبيع، وإنما يوجد استسلام. ويعتبر دراّج أن كلمة التطبيع توحي الى ضرورة الاعتراف بإسرائيل، وبالتي فهي تساهم في تمييع الخطاب العربي والفلسطيني. وبالعودة الى كتابات دراّج، المنشورة سابقا، نستوضح أن رأيه هذا مستمد من فكرته عن أن التطبيع هو اعتراف متبادل بين طرفين، أما وأن "الإسرائيليين" لا يعترفون بنا اليوم، ولن يعترفوا بنا في المستقبل، فكلمة التطبيع ليس لها معنى، ولذا فليستخدم بديلا لها كلمة الاستسلام أو التخاذل أو أي كلمة أخرى.

ان ظاهرة الاستسلام والتخاذل العربية هذه، التي نشهدها اليوم، يرجعها الدكتور فيصل دراّج، الى أم الهزائم، او الهزيمة الأكبر في تاريخ العرب في القرن العشرين، ألا وهي هزيمة حزيران عام 1967، التي برأيه تناسلت منها الهزائم المتلاحقة. فهزيمة 1967 مثلت هزيمة ساحقة للنظام الرسمي العربي وللحركة القومية العربية، أدت الى تدهور متصاعد للدور النقدي للثقافة التنويرية الوطنية والقومية العربية، وإلى تبدل الأولويات انطلاقا من الوهم والهشاشة الفكرية والأخلاقية التي تولدت جراءها.

هل يمكن تجاوز هذه الهزيمة وما ولدته من مظاهر؟

جواب فيصل دراّج على هذا السؤال، والمنسجم كليا مع كل اسهاماته الفكرية والنقدية، وانحيازه المطلق للثقافة كممارسة أخلاقية لخير البشر، وكدفاع عن الحق والقيم والأخلاق والجمال، هو بالتأكيد نعم. وحسب دراج، نعم يمكن تجاوز الهزيمة، بل والتغلب عليها والانتصار للحرية والكرامة والوطنية والتاريخ.

كيف يمكن ذلك؟

لمواجهة الهزيمة والتغلب والانتصار عليها، يؤكد دراّج، أن علينا التسلح بالأمل الذي يواجه صناعة ثقافة اليأس ويجعلنا نتعامل مع المستقبل كفضاء تاريخي مفتوح. وهنا يأتي الدور المأمول من المثقف، أي الدور الممكن والمحتمل الذي يجب أن تقوم به الطليعة للنهوض بالإنسان العربي والقيام بعملية تغيير الواقع. وبهذا المعنى يعتبر دراّج أن المثقف علاقة اجتماعية بميزان القوى، وبالتالي فهو يميز بين مثقف عضوي، يدافع عن الحقيقة والحق، ومثقف متكسب بالمعرفة همه ذاته ومصلحته أو رتبته الأكاديمية، فالمثقف العضوي المناط به دور الطليعة بالنهوض والتغيير هو الذي يتمتع بوعي فاعل يستطيع أن يحرك البشر، لأن الثقافة أصلا هي سلوك وقيم ومواقف. وقد أوضح دراّج هذا المعنى بما أنشأه سابقا بقوله "أن لا وجود لما يُسمى مثقفًا إن لم يكن مشاركًا في الشأن العام، ولا وجود لمثقف إن لم ينقد الماضي، ولا وجود لمثقف إن لم يقترح شيئًا ما مفيدًا من أجل المستقبل، فالإنسان يصبح مثقفًا من خلال اندراجه في الشأن العام وانخراطه في مشروع سياسي ثقافي غايته الارتقاء بالمجتمع". ولا يمكن ان يتحقق التغيير والارتقاء بالمجتمع الا عبر انتاج الكتلة الاجتماعية الفاعلة المناط بها التغيير المنشود، وهي كتلة لا يمكن بناؤها عبر الخطابات النظرية المعبرة عن ارادوية مرتاحة، بل من خلال الدفاع عن حاجات ومصالح ومطالب الناس اليومية، أي من خلال الحقل الاجتماعي والديمقراطية.

بهذا الفهم يربط الدكتور فيصل دراّج بين الثقافة والسياسة. فالثقافة هي عمل سياسي والسياسة عمل ثقافي، وبدون عمل سياسي نقدي طليعي فاعل، لن ترى إلا مثقفين فلسطينيين فرادى، ومن الصعب مع ذلك أن تتحدث عن جبهة أو مشهد ثقافي عربي و/أو فلسطيني. من المفترض بالثقافة كسياسة، ان تعمل لخلق الكتلة الشعبية الفاعلة التي تقوم بتجسير العلاقة بين ما هو سياسي وثقافي. وبهذا المعنى يؤكد دراّج ان المثقف الأكبر هو الشعب بالمعنى المادي والثوري. وبهذا المعنى، تتبدى الثقافة كثقافة مقاومة وتغيير، وكنمط حياة وسلوك تدافع عن الحرية وكرامة الوطن والانسان وعن الحق والقيم والأخلاق والجمال. وبهذا تكون الثقافة نقدا مقاتلا، وايمانا والتزاما أخلاقيا لخير البشر، فتكون انتصارا أكيدا لقضية فلسطين المقدسة.

فهل ننتصر لفلسطين، ونحيي ثقافة النقد المقاتلة، ثقافة المقاومة والتغيير؟؟؟

انه سؤال برسم الجواب من جميع النخب المثقفة التي تزعم الدفاع عن الحق والحقيقة والحرية والكرامة، وبرسم جواب الجهات المعنية بصياغة السياسات الثقافية. وثمة في فلسطين إمكانيات كثيرة متوفرة للقيام بإعادة بناء المشروع الثقافي الوطني، القادر على مواجهة الاستسلام الحاصل، الأمر الذي لن يتأتى الا من خلال مشروع سياسي وطني متفق عليه يقوم على تأمين الوحدة الوطنية. فلا مشروع ثقافي بإمكانه المقاومة واحداث التغيير المطلوب بدون مشروع سياسي قادر على مجابهة الآخر، وهو ما يحتاج ليس لجهود فردية، بل لجهد جماعي.