وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

يوتوبيا الدولة الفلسطينية تحديات الكورونا والتطبيع

نشر بتاريخ: 25/10/2020 ( آخر تحديث: 25/10/2020 الساعة: 23:39 )
يوتوبيا الدولة الفلسطينية  تحديات الكورونا والتطبيع

ثمة إرهاصات في النظام العالمي ربما تقود لتهميش مفهوم الدولة والدخول لحالة "ما بعد الدولة"، والتي ستقود لتشكَل نظام عالمي جديد يُدار بحكومة عالمية. ويبدو أن الدولة الحديثة التي انبثقت قبل أربعة قرون تتعرض اليوم لامتحان عسير بعد بروز معضلات دولية كبرى لا قدرة للدول منفردة على مواجهتها، ما يتطلب وجود تنظيمات عالمية عابرة للدول للتعامل مع هذه المعضلات. قفد تفاقمت في العقود القليلة الماضية المشاكل البيئية التي تُهدِّد كوكب الأرض، وكذلك التحديات التي يطرحها الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة وغير ذلك. ولكن التحدي الجديد المتمثل بانتشار الجوائح وعلى رأسها الكورونا فاق في تأثيره كافة التحديات السابقة، والذي بات يَطرح بشكل ملح ضرورة وجود إدارة عالمية لهذه الأزمة الخطيرة. وإذا كانت شعوب العالم وفق هذا السيناريو تستعد للدخول في عالم "ما بعد الدولة"، فما هو حال الشعب الفلسطيني الذي سيدخل الحقبة الجديدة بلا دولة. وبناء عليه فإن الفضاءات السيادية للشعوب ستقدِّم تنازلات لصالح الحكومة العالمية المستقبلية من أجل إدارة كفؤة للأزمات الدولية المشتركة، ومما لا شك فيه فإن مفهوم السيادة على الإقليم الخاص بها (بالشعوب) لن يختفي أبداً في المدى المنظور للتاريخ. ويبدو أن الوضع الاستثنائي للشعب الفلسطيني المفتقر للسيادة سيزداد تعقيدا مع بزوغ بوادر النظام العالمي العتيد. سوف تدخل دول العالم هذا النظام العالمي المستقبلي بأقدام راسخة لامتلاكها بناء مؤسساتي مكتمل إداريا وسياسيا واقتصاديا، بينما لن يكون بمقدور الشعب الفلسطيني الذي يعيش ويلات الإحتلال والمؤامرات وعديد التحديات أن يجد له مكانا في هذا النظام لعدم قدرة مؤسساته الرخوة على البقاء في هذا الفضاء التنافسي. ولهذه الأسباب سيتم ترحيل كافة الأزمات التي ظلت تعصف بالشعب الفلسطيني ولفترات طويلة من الزمن.

ربما يكون التحدي الذي تطرحه جائحة الكورونا تحديا عالميا ستواجهه كل شعوب الأرض بما فيها الشعوب الغربية، ولكن ثمة تحدّ يعصف بقوة بالشعب الفلسطيني اليوم ألا وهو تحدي التطبيع الذي يتفاقم يوما بعد يوم. فالاستشراف المستقبلي لعملية التطبيع، الجارية حاليا بوتيرة متسارعة، يشير إلى تشكل نظام إقليمي تكون إسرائيل قلبه النابض بإمكانياتها التكنولوجية المتقدمة وقاعدتها الانتاجية المتطورة وتفوقها الأمني. وعليه فإن تشكل هذا النظام لن يكون أقل خطورة على الشعب الفلسطيني من النظام العالمي الجديد، خاصة أن بعض الاستشرافات المستقبلية تشير إلى أن هذا النظام الإقليمي الشرق أوسطي سيكون مكونا من مكونات النظام العالمي الجديد، الذي سيضم في الأغلب تكتلات إقليمية من كافة قارات العالم. مرة أخرى سيتم ترحيل أزمات الشعب الفلسطيني المزمنة لهذا النظام الإقليمي وسط أجواء سياسية واجتماعية مشحونة بالعدائية. لو استعرضنا تاريخ المحاولات السابقة لتشكيل النظام الشرق أوسطي فسوف نكتشف بسهولة أن كافة المحاولات السابقة لانبثاق هذا الإقليم كانت مرتبطة بشكل مباشر بدرجة التفوق الإسرائيلي العسكري في الإقليم، حيث كان هذا المشروع يتراجع مع كل هزيمة عسكرية أو استراتيجية تتعرض لها إسرائيل، ويتقوى مع كل تفوق عسكري أو استراتيجي لها. وبعد كل المد والجزر الذي تعرض له هذا المشروع خلال العقدين الأخيرين، يعود هذه الأيام وبقوة مع الزخم الجديد الذي وفرته أجواء التطبيع. ويبدو أن عرّابي هذا المشروع عادوا من جديد للنسخة الأصلية التي انبثقت من كتاب شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد" الذي دعا فيه إلى التطبيع بين إسرائيل والدول المحيطة. يُعد التطبيع مع إسرائيل الركن الأساسي في تَشكُّل الشرق الأوسط الكبير. ويبدو أن هذه المسألة حاضرة وبقوة لدى إدارة ترامب هذه الأيام وفي الدائرة المقربة منه. ثمة ربط واضح بين عمليات التطبيع الجارية حاليا ومشروع الشرق الأوسط الكبير. ويمكن ملاحظة إدارة ترمب وقد خرجت عن كل السياقات التي اعتادت الإدارات الأمريكية السابقة التعامل من خلالها مع هذا الملف. وعندما نستقرئ الأحداث التي مرَّت بها منطقتنا العربية خلال العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة فسوف نكتشف بوضوح أن كل هذه الأحداث كانت تصب في نهاية المطاف في خدمة هذا المشروع.

لقد كان الربيع العربي الذي نفذته إدارة أوباما يهدف بشكل واضح إلى تفكيك الكيانات السياسية العربية من خلال تفكيك مفهوم الدولة والتعويض عنها بأممية إسلامية تحت قيادة الإخوان المسلمين. وكانت كل المؤشرات في ذروة أحداث الربيع العربي تشير إلى وقوع الدول العربية تحت سيطرة الإخوان واحدة تلو الأخرى. وإذا ما علمنا أن الإخوان لا يعترفون بفكرة الدولة الوطنية وسيادتها، فإن هذا السيناريو كان يقود بالضرورة إلى تفكيك قلب النظام العربي المتمثل بالدول الأساسية مثل مصر وسوريا وتونس والجزائر والعراق والإبقاء على الدول الهامشية التابعة. إن أي استقراء لملف القضية الفلسطينية يثبت بجلاء أن هذه القضية لن تموت ما دام هناك عمق عربي لها، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي. ومن أكبر المؤامرات التي تعرضت لها القضية الفلسطينية هي مؤامرة فلسطنة هذه القضية. فمن أخطر المصطلحات التي ظهرت مؤخرا في القاموس السياسي العربي هو مصطلح "الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي" الذي حل محل مصطلح "الصراع العربي الصهيوني". وقد أصبح هذا المصطلح دارجا ويتم تداوله حتى على ألسنة الزعماء العرب المؤتمنين على مستقبل الأمة ومقدراتها. فمصطلح الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مصطلح ماكر وخدَّاع، لأن الاستراتيجيات الإسرائيلة الأخيرة المدعومة أمريكيا تُثبت بجلاء أن المشروع الإسرائيلي الطموح لم يتأسس من أجل فلسطين، بل من أجل التغلغل والهيمنة على العالم العربي، وما فلسطين إلا ركيزة لهذا المشروع لا أكثر. ففلسطنة القضية الفلسطينية يقضي تماما على كل الآمال بإقامة كيان وطني فلسطيني مستقل، حيث ظهرت مؤخرا خطط إسرائيلية بديلة بالتزامن مع مشروع التطبيع، منها الرجوع لمشروع روابط القرى، الذي هو نسخة محدثة عن مشروع قديم كانت تنفذه حكومة الانتداب البريطاني من أجل تفتيت الوحدة الوطنية الفلسطينية. ولهذا فإن المشاريع المطروحة حاليا من قبل الإسرائليين حول الضفة الغربية وقطاع غزة تندرج في إطار العودة إلى تشكلات ما قبل الدولة، والتي ترتكز على الولاءات العشائرية والقبلية والإثنية والطائفية. هذه الولاءات التي اندثرت من المشهد السياسي وحل محلها مبدأ المواطنة والولاء للوطن تعود بقوة اليوم من خلال المشاريع الإسرائيلية المدعومة من إدارة ترمب. لقد تم إسقاط مشروع روابط القرى منذ أربعة عقود بفضل الوعي الفلسطيني الشعبي والرسمي لخطورة هذا المشروع الذي قاده أحد المشبوهين بالتعاون مع الإسرائليين، وحقق بعض النجاح في الخليل وحاول الانتشار في رام الله وبقية المناطق. ولكن هذا المشروع يعود اليوم ويتم التحضير لإنتاج قيادات فلسطينية عشائرية بديلة وتهميش القيادات السياسية والنضالية التي تقف في وجه القوى التي تروم تصفية القضية الفلسطينية. ويبدو أن الرجوع لحالة ما قبل الدولة هو السيناريو المفضل لدى الإدارة الأمريكية في الوطن العربي. لقد نجح هذا السيناريو بشكل ملفت في العراق، حيث بدأت سلطة الدولة العراقية بالتراجع لصالح قيادات العشائر، وبدأت في العراق عودة قوية للنظام القضائي العشائري في إدارة الحياة اليومية للعراقيين بديلا عن القانون والدستور.

إن المتتبع للأحداث في منطقتنا يكتشف بوضوح سيناريو القضاء على الدولة في الوطن العربي. لقد نجحوا نجاحا ساحقا في العراق وليبيا، ونجحوا جزئيا في سوريا. وبعد أن حقق هذا السيناريو نجاحا في دول عربية عريقة، فإن الجهود الإسرائلية الأمريكية تتجه اليوم للقضاء على السلطة الوطنية الفلسطينية التي تقوم مقام الدولة. صحيح أن الشعب الفلسطيني لا يمتلك اليوم دولة بالمفهوم الحقيقي للدولة، ولكنه يمتلك سلطة استطاعت القيام بالأعباء الإدارية المطلوبة منها وبقدر معقول من الكفاءة. هذه السلطة مستهدفة اليوم من خلال محاربتها على كل الأصعدة، وأهمها تجفيف مواردها المالية حتى تصبح غير قادرة على الوفاء بالتزامتها المالية. كل هذه الإجراءات الموجهة ضد السلطة الوطنية الفلسطينية تتزامن اليوم مع محاولات مستميتة لخلق قيادات فلسطينية بديلة وتقديم دعم مالي لها من أجل سحب البساط من تحت أقدام السلطة الوطنية الفلسطينية ورموزها. فما تفعله إسرائيل وأمريكا اليوم هو حجب الأموال عن السلطة الوطنية الفلسطينية تمهيدا لإسقاطها، وإغداق الأموال على القيادات العشائرية البديلة من أجل استمالة الشعب الفلسطيني نحو القيادات البديلة وربط مصالحها وشؤونها الحياتية بهذه القيادات. هذا السيناريو الخطير إن لم نستعد له ونقف بوجهه بكل قوة وإقتدار فإنه سيكون كفيلاً بالقضاء على فكرة الدولة الفلسطينية في الزمن التاريخي المنظور. وأعتقد أن قيادات السلطة الوطنية الفلسطينية يدركون أكثر من غيرهم أن المشروع الإسرائيلي الحالي يعني النهاية الحتمية للسلطة، وهذا ما يُفسر السياسة الحازمة للسلطة وقياداتها في التعامل مع مشروع التطبيع.

وهكذا، فإن حالة غياب الدولة ستلاحق الشعب الفلسطيني في السيناريوهين السابقين، الإقليمي والعالمي. وسيكون هناك دعوات لإلحاق الكيان الفلسطيني بشعبه وأرضه بهذا الكيان أو ذاك، أو تقاسم إدارته بين قوى إقليمية أو عالمية، وكأن هذا الشعب عاجز عن إدارة دولة خاصة به، مع أن صيرورة التاريخ العربي الحديث في القرن المنصرم تشير بلا مواربة أن الكثير من الدول العربية قامت على أكتاف هذا الشعب المتقدِّم.