وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

في إطار استدعاء الإيجابي: محطات في التجربة الديموقراطية الفلسطينية

نشر بتاريخ: 02/03/2021 ( آخر تحديث: 02/03/2021 الساعة: 14:53 )
في إطار استدعاء الإيجابي: محطات في التجربة الديموقراطية الفلسطينية




هناك محطات كبيرة وغنية في التجربة الفلسطينية لم يتم تأريخها وتوثيقها بالشكل الذي يليق بمكانتها ودورها، حيث اكتفينا بالحديث الشفوي وتناقل الأخبار والحكايات والمآثر ما بين الناس المعاصرين كما حدث في ثورة العام 1936 التي ماتت النسبة الأكبر من قصصها وأحداثها بموت أبطالها ومعاصريها، لأننا لم نُحسن عملية التأريخ، بل لم يكن لدينا ثقافة التأريخ.. فما صدر عن هذه الثورة ظلَّ محدوداً ومتناثراً مقارنة مع زخمها، والأمر ذاته انسحب على ما أصاب الفلسطينيين في العام 1948، وما نتج عنه من مآسٍ وويلات فردية وجماعية. ظلت لعنة ضعف التأريخ تلاحقنا في العام 1967 ثم المحطات النضالية التي تبعت ذلك وصولاً إلى الانتفاضة الأولى في العام 1987 الفعل الجماهيري الإبداعي الذي ما صدر حوله من دراسات وبحوث لم يكن سوى شذرات أمام فعل عام اتسم بالتجديد والاستمرارية والإبداع.
الحديث عن قصور العملية التأريخية يطول ويتشعب لأنه يرتبط بضعف ثقافي وفكري وحقوقي. فلا أدعي أننا لم نفعل شيئاً في هذا الميدان، بل أقول بكل تأكيد إن ما تم فعله كان محدوداً ولم يرتق إلى مستوى الأحداث الجسام في التجربة الفلسطينية، وهذا ينبطق على تأريخنا لتجربتنا الديموقراطية في سنوات الاحتلال التي تستحق أن تخصص لها مساحات واسعة من الكتب والدراسات والبرامج الإذاعية والتلفزية، واستثمار وسائل الاتصال الحديثة للتعريف بحقيقة شعب اجترح ديموقراطية خاصة في الأرض المحتلة بالرغم من الاحتلال والقمع.
كيف ولدت هذه الديمقراطية؟ الجواب التلقائي والسريع أنها ولدت نتيجة الحاجة الملحة لإدارة الأمور الحياتية أمام تحديات الاحتلال، وتشكلت في ظل خصوصية فريدة، وتغذّت وصُقلت من عام إلى آخر، بعد أن خضعت للتجريب والتقويم حتى صارت مثابة أنموذج كان من المفروض أن نبنى عليه، لا أن نُعرضه للقطع أو التشويه في سنوات لاحقة، ولو فعلنا ذلك كما ينبغي لكانت تجربتنا الديمقراطية هي الأفضل والأعدل، ولما عانينا من انقسام وفرض إرادات بالقوة القسرية.
سأشير فيما يلي وبالتقيد بالمساحة التي يسمح بها مقال قصير إلى عدد من التجليات الديمقراطية التي من شأنها أن تشكل أساساً لعملية ديمقراطية لا تشوبها شائبة في كل المستويات الانتخابية على مستوى التشريعي والمجالس المحلية والرئاسة:-
أولاً – التجربة الديمقراطية في المعتقلات.
ولدت من رحم مرارة المعاناة وحاجة المعتقلين لتنظيم صفوفهم وتسيير الحياة داخل الفصيل الواحد على مستوى الحركة الأسيرة بشكل عام، لتفرز التجربة ديمقراطية حقيقية تمثلت في الانتخابات الداخلية، والتمثيل الفصائلي، واتخاذ قرارات خوض الإضرابات المفتوحة، وإصدار المجلات والنشرات المشتركة، والاتفاق على أعضاء لجان الحوار مع الإدارة بتمثيل الكل الوطني، وحتى الفصائل الصغيرة التي لم يكن عدد أعضائها في معتقل معين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، كانت تحظى بعضوية اللجان الوطنية.
ثانياً. انتخابات المجالس البلدية في العام 1976.
شهدت هذه الانتخابات نقاشات عاصفة طويلة بين مؤيد لها ورافض. المؤيد رأى أنها ستأتي بمجالس منتخبة ديمقراطياً بإرادة الشعب. أما الرافض فلم يقنع بانتخابات ديمقراطية في ظل الاحتلال. كانت الغلبة لمؤيدي إجراء الانتخابات التي أفرزت في المحصلة النهائية ممثلي مجالس منتخبين مؤيدين لمنظمة التحرير، ما عزز دورها ومكانتها وأعطى زخماً سياسياً وخدماتياً لهذه المجالس التي تحول رؤساؤها إلى رموز وطنية تحظى بدعم وتأييد جماهيري واسع.
ثالثاً. لجنة التوجيه الوطني. تأسست بعيد الانتخابات البلدية، لتضم في عضويتها ممثلين عن هذه البلديات وممثلين عن الؤسسات الوطنية والفصائل والشخصيات المستقلة، ولتضطلع بدور قيادي أقرب إلى السري، وتقود بالتالي العمل الوطني بالاستناد إلى منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية سياسية وكفاحية وتمثيلية.
رابعاً. مجالس الطلبة. كانت الحركة الطلابية ممثلة في لجنة التوجيه الوطني نظراً لثقل الحركة الطلابية وما تمثله، وبالاستناد إلى زخمها النضالي، واحتراماً للتجربة الديمقراطية، حيث كانت مجالس الطلبة تنتخب بشكل دوري، ويتم تداول المهمات في المجالس بشكل سلس في إطار ديمقراطية ترسخت في التجربة، لتقوم هذه المجالس بدور مركب ما بين السياسي والنضالي والنقابي المطلبي.
خامساً- انتخابات المؤسسات الوطنية بشكل عام.
كانت الانتخابات في المؤسسات الوطنية تُجرى بشكل دوري، ونقصد انتخابات النقابات والنوادي والجمعيات، وقد شهدت الحياة الديمقراطية فيها تنافساً شديداً في أواخر السبعينيات وحتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي بين فصائل منظمة التحرير، حيث كانت قيادة هذه المؤسسات تنتخب سنوياً، وعلى سبيل المثال فإن انتخابات نادي الموظفين في القدس شكلت عملية استقطاب للأعضاء من قبل الكتل والاتجاهات الفاعلة، نظراً لمكانة النادي في أواخر السبعينيات الذي تحول إلى ساحة مفتوحة للعمل الوطني والاجتماعي والإنتاج الثقافي والإبداعي.
سادساً. تجربة القيادة الموحدة في الانتفاضة الأولى
وهي تجربة قيادية تمثيلية، قادت العمل الوطني الميداني على مدى سنوات الانتفاضة، وكانت تمثل فيها الفصائل الرئيسة في منظمة التحرير بشكل متساوٍ بالرغم من تفاوت الحجوم التنظيمية والثقل على الأرض. وكان بيان القيادة الموحدة يكتب بشكل دوري حيث تُسند المهمة بالتناوب والمساواة بين (فتح والشعبية والديمقراطية وحزب الشعب).
تمتعت القيادة الموحدة باحترام وتأييد جماهيري واسع، وكانت بياناتها وتوجهاتها تنفذ بدقة لتشكل "الموحدة" القيادة الميدانية للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع مدة ست سنوات العمر الحقيقي لزخم الانتفاضة.
سابعاً – الأطر والاتحادات النسائية
قصدت أن أفرد عنواناً خاصاً لهذه الأطر والاتحادات التي كانت تجري انتخاباتها بشكل دوري، وتقوم بدور وطني ميداني وتعبوي وتثقيفي وتنموي. كانت المرأة الفلسطينية طليعيةً وتوازي الرجل عملاً وعطاءً وإبداعاً، ولعل إبراز دور الأطر والاتحادات المذكورة يسلط الضوء على تجربة رائدة ذات سياق تاريخي وديمقراطي، بما يؤكد لمن يحتاج إلى تأكيد أن المرأة الفلسطينية تستحق التكريم والتمثيل والاحتفاء بما قدمت، لا أن ندفعها إلى آخر الصفوف معتمدين تنظيرات لا ترى بعين العصر.
أدرك أن مقالاً واحداً لا يمكن أن يُعطي التجربة الديمقراطية في الضفة والقطاع حقها لاسيما بعد العام 1967، مع التنويه أن ما ورد في المقال لا يشمل التجربة الديمقراطية الفلسطينية في الشتات سواء على مستوى منظمة التحرير أو المجلس الوطني أو الاتحادات الشعبية، فللتجربة في الخارج اشتراطاتها وظروفها ومواصفاتها وقد نأتي عليها لاحقاً في مقالٍ منفصل.
إن الهدف الرئيس من هذه الإطلالة الديمقراطية السريعة القول إن إجراء انتخابات تشريعية وبلدية ورئاسية في الضفة والقطاع، هو أمر عادي وطبيعي، ولا يخرج عن التوجهات الفلسطينية في سياقها التاريخي العام، وحتى لو كان هناك مطلب دولي خارجي يحث الفلسطينيين على إجراء الانتخابات، فإن الأهم في رأيي يتمثل في حاجتنا الداخلية الملحة لترتيب أوراقنا وانتخاب البرامج التي تحظى بتأييدنا، بغية توحيد الساحة من الانقسام والتشرذم، واختيار الممثلين الأكثر نزاهة وشفافية وكفاءة لإدارة أمورنا في السياسة والاقتصاد والتنمية والتعليم والصحة وسن التشريعات التي تستجيب لحاجتنا من جهة والتي تنسجم مع روح العصر وتطوراته من جهة أخرى.