وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الوعي الجالس على أرائك الحياة

نشر بتاريخ: 08/04/2021 ( آخر تحديث: 08/04/2021 الساعة: 11:56 )
الوعي الجالس على أرائك الحياة

محمد نعيم فرحات

في رواية الخلق وخلفياتها السماوية العظيمة، كان الهدف الإلهي السامي هو استخلاف الإنسان في الأرض لإعمارها، وما كان لهذا الأمر أن يحصل بدون إنسان صالح على نحو كاف، في سريرته وفي وعيه وفي تدبره لتكليف السماء وعيشه،لكن السماء الفسيحة ادخرت حيزا واسعا لفساد الإنسان ذاته في الأرض، جراء اشتغال وعي فاسد كان يحمل الاستعداد له في ثناياه.

ولآن الرواية محكمة على نحو هندسي مذهل، فقد كتبت السماء نص وعدها الكريم لمن أحسن لنفسه ولمهمته، ووعيدها القاسي لمن أساء لنفسه وافسد المهمة،وجعلت الملتقي الأبدي مرة أخرى هناك، في رحابها العالية.

في مجريات الرواية المدهشة وترتيباتها كان تساؤل الملائكة الرقيق، الذين نوهوا بين يدي الله لما أحاطهم علما بفكرة الاستخلاف، عن الإفساد المحتمل الذي سيقوم به الإنسان في الأرض، كانت تلك الإشارة الأولى لوعي فاسد قادم. حسم الله تعالى الأمر بقوله "إني اعلم ما لا تعلمون".

لاحقا ووفقا لتدابير سماوية مقدرة سلفا، كان لعصيان إبليس وتمرده على إرادة الله، الذي رفض السجود لأدم ، لما أمر الله الملائكة لفعل ذلك، دورا دالاً في حسم أمر الشر والإفساد ومرجعياته، وتحديد انساق الوعي الذي سيتحكم في الأرض: وعي صالح بنسبياته ووعي فاسد بنسبياته أيضا. وقد كان مفهوم النسبية عند السماء فيما يخص سلوك الناس مدهشا في سعته وموضوعية.

قسّمُ إبليس برب العرش العظيم وفي حضرته" لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المُخلَصِينَ" كان مزدحما بالمعاني، يؤشر على غالبية بشرية قادمة ستكون تحت طائلة الغواية والفساد وعلى أقلية ناجية هم جماعة المخلصين.

***

أودع الله أدم في الجنة وحيدا،وعاش فيها لزمن بوعي ممتثل ومتسق ومتأمل وساكن، الحادثة العظيمة الثانية،البديعة والدالة كانت في خلق حواء من ضلعه القصير، بينما كان غافيا كي تؤنسه، خلق حواء كان المتغير الذي حرك وعي أدم وعوالمه، وتسبب في سياق التقديرات السماوية لخرق أدم وحواء لقواعد العيش في الجنة كما سطرها وأوصاهم بها الرب العظيم، فحق فيهما العقاب نفيا إلى الأرض كمستقر لهم إلى حين.

خطأ الوعي ترتب عنه النزول من جنات النعيم إلى ارض الكبد والمشقة والاستحقاق والفرصة والاختبار، سمو السماء لم يدع أدم المعاقب ينزل لوحشة الأرض مكللا بالذنب، لقد تاب عليه ربه وعلمه الأسماء والحكمة، كزاد معرفي يفترض أن ينتج طريقة وعي ملائمة صالحة لتدبر أمر الحياة الدنيا وصعوباتها.

غير أن قوة الخطأ والقابلية للإثم انتقلت إلى الأبناء، بدل التعاون والتساند فيما بينهم لمغالبة الحياة الدنيا، سفك قابيل دم أخيه هابيل، كتعبير عن وعي دموي ، قاس وسيء، في صراع مبكر أولي وتأسيسي على اللذة والتملك والسيطرة والتفرد والاستئثار.

إثم الأبناء كان له جذر في خطأ الإباء، وكان له سياق يمتد ليصل إلى رهانات إبليس على قوة الإغواء والإفساد، وتساؤل الملائكة الناعم الذي القوه بحياء على مسامع ربهم العظيم.

حادث السفك الأول أنتج ندما، لكنه لم يفضي إلى توبة، أجيال متعاقبة ورثت وجددت الوعي الأثيم، وأخرى جددت لكن بمشقة وصعوبة الوعي الخّيِرِ الملائم، وتلك لعبة كبرى في الوجود.

السماء العظيمة لم تترك الناس الذين ساروا شعوبا وقبائل يتدبرون شأنهم لوحدهم، لحقت بهم عبر حشد من الأنبياء والرسل والرسالات والدعوات، وواصلت حثهم على التوافق النسبي مع الوعي الايجابي ما استطاعوا سبيلا ، لكنهم أظهروا طاقة على العصيان والخروج والمروق أكثر مما اظهروا امتثالا مع متطلبات التحقق الايجابي كما دعتهم إليه السماء وكما تحثهم عليه الضرورة.

ورغم الجسور التي إقامتها السماء للناس، كي يعبروا من حيز الوعيد والعذاب الماثل والمنتظر، إلى حيز الوعد الرغيد، بما يعنيه ذلك من تحول في الوعي كشرط حاسم، إلا أن طاقتهم على المعاندة قد كانت متجددة وجبارة.فكان أن ألقى التاريخ في وجوه الناس درسه القاسي:الذين فاتهم الوعي الايجابي وضرورته، ربحوا اللحظة بثمن تبديد الفرصة وخسارة أنفسهم ولو بعد حين من الدهر،والذين اعتصموا بوعي مناسب ربما خسروا لحظات كثيرة، لكنهم نجوا بوعيهم وبأنفسهم ورسموا نصهم في الوجود على نحو لائق، وأحيانا أخرى على نحو شاهق.وكان استثمارهم هو الذي أنتج اللحظات الأكثر ضياءا في حياة الأفراد والجماعات والأمم.

***

أمة العرب المنحدرة من صلب أدم كباقي البشر ،حباها الله والطبيعة والتاريخ بالكثير،في فضاء العرب حطت هيبة الله في أرضه رسلا ورسالات ودعوات سرت في الزمن والمدى والتاريخ، وخص رب السموات البشرية برمتها برسالة ختامية عبر العرب جاءت بلسانهم المبين. كما كانت لهم ثروة الموقع المترامي في مركز العالم،بما يتيح لهم أن يطلوا في كل الاتجاهات التي تؤدي إليه. وأغدقت الطبيعة بدورها خيراتها الوفيرة عليهم.وكان لهم حضورهم الوازن في لحظات معينة هامة من تاريخ العالم.

ما لديهم من هبات شتى، وما يقوله على مسامعهم فقه الحاجة والضرورة الذي يبرعون في الدعوة إليه كثيرا ويخالفونه أكثر، يفترض أن يبني عندهم نسق وعي وتدبر ايجابي،بناء، مستقر، ذكي،متراكم ، متكيف، منفتح،مسئول ومتسق..

يومياتهم في التاريخ تقول بأنهم قد فشلوا على نحو ذريع في بناء نموذج وعي مناسب ، لذلك كانت إقامتهم في حيز الخيبة والإحباط واليأس والتوتر والهوامش المهينة متطاولة وليست طويلة فحسب.

خلف كل ثقافة وحالة من النجاح أو الفشل تقف طريقة وعي لها حسب ونسب وشجرة عائلة وسياقات تنتج ذلك،طريقة وعي ايجابية تؤدي لخير شامل وفير، وأخرى سيئة وغير متناسبة مع الضرورة والحاجة عندها قابلية للضلال بمعناه التاريخي،تسفك دم الحياة والفرص والأقدار والمصائر، بأعتى مما يسفك السيف.

حالة وعي متناسق يجلس باستقرار متطلع ويقظ على أرئك الحياة مسكون بخيال مناسب، هي يا فاتنه التي تضع حدا لمقتلة تاريخية وجودية متواصلة تأكل أخضرنا ويابسنا. حالة وعي عليها أن تتدرب بقسوة على الإصغاء العميق للقول العالي:لا يبدل الله ما بقوم حتى يبدلوا ما بأنفسهم.

* كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين.