وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

هكذا عالج "القرآنيون" الخطأ بالخطيئة!

نشر بتاريخ: 31/07/2021 ( آخر تحديث: 31/07/2021 الساعة: 16:48 )
هكذا عالج "القرآنيون" الخطأ بالخطيئة!

السُنّة النبوية مليئة بالأمثلة التي تُخبر عن أمور غيبية مستقبلية قبل حدوثها، ثم حدثت بالفعل كما أخبرنا من لا ينطق عن الهوى، ومن هذه الأمثلة ما رواه أبو عيسى الترمذي في سننه عن المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنّه قال: " ألَا هلْ عسى رجلٌ يبلغُه الحديثَ عنِّي وهوَ متكئٌ على أريكتِهِ ، فيقولُ : بيننا وبينكم كتابُ اللهِ ، فما وجدنَا فيهِ حلالًا استحللنَاهُ ، وما وجدنا فيهِ حرامًا حرمناهُ ، وإنْ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ كمَّا حرَّمَ اللهُ". الحديث النبوي إضافة إلى أنّه يخبرنا بأمرٍ غيبي مستقبلي لم يكن قد حدث بعد، فإنه يجزم بأنَّ السُنّة النبوية الصحيحة وحيٌ من الله – سبحانه وتعالى – غير متلو، مُفسّرة وموضحة للوحي المتلو – القرآن الكريم – فليس لأحدٍ أنْ يزعم الاكتفاء بالقرآن الكريم عن السُنّة النبوية، فالواجب على المسلم تعظيم السُنّة واتباعها باعتبارها مرجعية ثانية للإسلام بعد القرآن الكريم.

إنكار مرجعية السُنّة كمصدر ثانٍ للإسلام بعد القرآن – كما جاء في الحديث النبوي – لم يحدث بشكل واضح على مر الزمن إلاّ في الزمن المعاصر، وفي أزمنة سابقة كانت هناك اتهامات بإنكار السُنّة وجِهت إلى فرقٍ إسلامية بعينها، كالخوارج والشيعة والمعتزلة، ولكن عند البحث والدراسة لا نجد مصداق ذلك، وما نجده أنَّ هذه الفرق الإسلامية وضعت شروطاً خاصة بها لقبول الحديث النبوي وصحته لديها، منها: أنَّ الخوارج قد توقفوا عند الأحاديث التي رواها جمهور الصحابة – رضوان الله عليهم – بعد وقوع الفتنة الكبرى. وأنَّ الشيعة لم يقبلوا إلاّ الأحاديث التي رواها آل البيت وأنصارهم من الصحابة. و أنَّ المعتزلة ردوا الأحاديث التي اعتقدوا مضمونها مُخالفاً للقرآن والعقل... فهذه الفرق وأضرابها ليسوا من منكري السُنّة النبوية، أما منكرو السُنّة النبوية الحقيقيون فقد ظهروا في القرن العشرين.

إنكار السُنّة النبوية ظهر في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي لدى مُسلمي الهند أثناء الاحتلال البريطاني لها، واستمرت الفكرة تتناقل في القرن العشرين، واتخذت طابع الدعوة إلى الاعتماد على القرآن الكريم وحده دون السُنّة النبوية في التشريع الإسلامي؛ ولذلك عُرفت باسم (الحركة القرآنية)، وكان أبرز دعاتها في منتصف القرن العشرين غلام أحمد برويز، صاحب كتاب (قرآني فيصلي)، ومحور آرائه تقوم على أنَّ القرآن قد شمل كليات الدين ومُجمله، أما التفاصيل فهي متروكة لولي الأمر الحاكم في كل بلد يجتهد فيها وفقاً لتغيرات الزمان والمكان والمصلحة. وانتقلت الفكرة خارج الهند لا سيما في إيران وتركيا ومصر، وأهم رموزها ومُنظريها في مصر الدكتور أحمد صبحي منصور، صاحب كتاب (القرآن وكفى مصدراً للتشريع الإسلامي)، وجوهر أفكاره الاكتفاء بالقرآن دون السُنّة مرجعية للدين الإسلامي، فأطلق عليهم خصومهم اسم (القرآنيون) وارتضوه لأنفسهم اسماً واعتبروه تشريفاً لهم، رغم أنهم يسمون أنفسهم (أهل القرآن)، لاختصاصهم بالقرآن دون السُنّة مصدراً للشريعة ومرجعية للإسلام.

تتلخص فكرة إنكار السُنّة عند "القرآنيين" بأنَّ القرآن الكريم هو المرجعية الحصرية الوحيدة التي يُمكن من خلالها فهم الإسلام – عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً – وكل المرجعيات المعرفية الأخرى لا أساس لها في الإسلام، بما فيها السُنّة النبوية التي حصروا مفهومها بعمل النبي - صلى الله عليه وسلم – بما جاء في القرآن الكريم والتزامه بمبادئ الإسلام المتمثلة في الوحي الإلهي المُنزل عليه وهو القرآن الكريم، ودوره كنبي هو الأسوة الحسنة لتطبيق القرآن الكريم، أما كلامه – صلى الله عليه وسلم – غير القرآن فليس وحياً مُلزماً للمسلمين، وطاعته واجبة بصفته حاكماً للمسلمين... وساقوا بعض المبررات والشبهات لتأييد فكرتهم، منها: أنَّ من قام بتصحيح الأحاديث بشر جهدهم قابل للصواب والخطأ، ومنهجهم يحتمل الصحة والبطلان، والنقل الشفوي عبر سلسلة طويلة من الرواة يعتريه الزيادة والنقصان والتحريف، وأنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر بتدوين القرآن ولم يأمر بتدوين السُنّة، وأنَّ الله – سبحانه وتعالى – تكفل بحفظ القرآن ولم يتكفل بحفظ السُنّة، وأنَّ القرآن نفسه قد وضّح أنَّه تبياناً لكل شيء ولم يُفرط بأي شيء...

بعض تلك المبررات أو الشبهات حقٌ يُراد به إظهار الباطل، وبعضها الآخر باطلٌ يُراد به طمس الحق، وفي كلتا الحالتين توّلى علماء الإسلام والحديث تفنيدها ودحضها، فأظهروا الحق وطمسوا الباطل، فوضّحوا دور السُنّة في بيان مجمل القرآن استناداً لقوله تعالى: " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ "، وأثبتوا أنَّ السُنّة النبوية وحيٌ ثانٍ من الله إلى جانب القرآن الكريم لقوله تعالى : " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى"، وبرهنوا على أنَّ السُنّة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن تطبيقاً لقوله تعالى: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ..." وغير ذلك من الردود القاطعة كثير، ولقد أجمل الدكتور محمد عمارة العلاقة بين القرآن والسُنّة في كتاب (حقائق الإسلام في مواجهة شُبهات المشككين)، بقوله: " إنَّ العلاقة الطبيعية بين البلاغ الإلهي – القرآن الكريم – وبين التطبيق النبوي لهذا البلاغ الإلهي – السُنّة النبوية – هي أشبه ما تكون بين الدستور والقانون، فالدستور هو مرجع القانون، والقانون هو تفصيل وتطبيق للدستور، ولا حُجة ولا دستورية لقانون يُخالف أو يُناقض الدستور، ولا غناء ولا اكتفاء بالدستور عن القانون".

تجاهل "القرآنيون" دحض العلماء لشبهاتهم، كما تجاهلوا شروط علماء الحديث الصارمة في جمع وتصحيح الأحاديث، مثل: اتصال السند، وعدالة الرواة وضبطهم في السند، والسلامة من العلة والشذوذ في المتن، وضخموا عناصر الضعف فيها مثل: إشكاليات التناقل الشفوي عبر سلسلة رواة طويلة، والفاصل الزمني الطويل بين عصري النقل والتدوين، والتعارض في الروايات المنقولة بالمعنى، وزيادة ظاهرة الوضع في الحديث، واستغلوا الخطأ الذي وقع فيه غلاة المتعصبين للحديث بتقديسهم بعض كُتب الأحاديث وإضفاء العصمة على أصحابها، وهي وعاء للنصوص النبوية، فخلطوا بين الوعاء ومحتواه، فقدّسوا الوعاء، وهو جهد بشري بُذل في جمع وتصحيح الأحاديث النبوية، يقبل الصواب والخطأ، ويحتمل الحفظ والنسيان، ومُعرّض للزيادة والنقصان، فجعلوا قداسته قريبة من قداسة النص النبوي الذي هو وحيٌ مُقدس إذا ثبت صحته سنداً بصحة روايته، أو متنا بصحة مضمونه. وعظّموا الرواة على حساب صدق المروي عنه، وأصبحوا أسرى للأسماء البشرية، فكان ذلك الخطأ من غلاة المتعصبين مدخلاً للخطيئة من كل " القرآنيين". فبدلاً من تصويب الخطأ سقطوا في خطيئة إنكار السُنّة.

إذا كان خطأ المتعصبين غير المقصود دافعه التعصب للحق والهُدى، وفيه شطط باتجاه الصواب والرشاد، فإنَّ خطيئة "القرآنيين" المقصودة دافعها التعصب للباطل والضلال، وفيها شطط باتجاه الإثم والغواية. وإذا كان خطأ المتعصبين قد ركب على ظهره نخبة حاكمة أمسكت بسبحة الشيخ وعصا الطاغية، وزاوجت بين التطرف الديني والاستبداد السياسي، فإنَّ خطيئة "القرآنيين" قد ركب على ظهرها نخبة فكرية أمسكت بقلم المُجدد وعصا الساحر، وزاوجت بين التفريط الديني والتغريب السياسي... ومثل الفريقين كمثل الذين وصفهم الإمام علي بن أبي طالب – كرّم الله وجهه- بقوله: "لَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ".