وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

أحجار القِدْر

نشر بتاريخ: 12/10/2021 ( آخر تحديث: 12/10/2021 الساعة: 12:48 )
أحجار القِدْر

بقلم: د. سرمد فوزي التايه

قالت لي جدتي ذات يوم: عليك اختيار أحجار القِدْر بعناية؛ فعليها كل الارتكاز، وهي محور موضوع الطبخ ومركز عمله، وأساسه وركنه الركين! فإن صَلُحت الأحجار؛ صَلُحت الطبخة من بعد ذلك وآتت أُكلها، وإن كان هناك خلل في تلك الأحجار؛ انكفئ القِدْر وحال دون نضوج طعامه واستواء مكوناته على الوجه الصحيح.

كان هذا الحديث عندما كُنّا نبحث عن أحجار بميزاتٍ مُعينة - حسب رغبة جدتي- لتكون محاور ارتكاز ودعاماتٍ مُريحة وسليمة لذلك القِدْر العظيم الذي تم اختياره من قِبَلِها بعنايةٍ من قبل! لكنه كان بحاجة لتلك الأرجل المتينة الأمينة التي تعمل على حفظه والوقوف أسفل منه لترفع من شأنه؛ فتحميه إن مال الزمن، أو ثار الريح، أو تقلَّبت الموازين؛ فيغدو قاب قوسين أو أدني من الانقلاب وسكب ما فيه دون اكتمال المُهمة المُوكلة اليه.

سألتُ جدتي عن المواصفات التي تتطلبها تلك الأحجار؟ نظرت إليَّ نظرة غضب واستغراب وقد تناها لها جَهلي وقِلَّةَ معرفتي بهذه المهمة وبطبيعة الأحجار. لكنها عادت واستوت في جلستها وقالت لي والشَّررُ يتطاير من بين عينيها: انظر يا بُني، إنَّ ما يصنع الأهمية والهيبة للقدور ليست القدور ذاتها حتى وإن كانت مصنوعة من أجود الخامات المعدنية وبأفضل المواصفات العالمية! إنَّ ما يُساهم ويُعلي من شأن القدور وكل من سار على نهجها بما تحويه هو تلك الأحجار التي تعتليها؛ فإن كانت الأحجار صلبة، مستوية، آمنة، أمينة، صادقة، حنونة، معطاءة، قادرة على الاكتواء بلهيب النار الحارقة من أجل الأهداف السامية؛ كانت القدور أكثر ثباتاً وأريحية؛ فتقوم بعملها على أكمل وَجه دون أن يعتريها أي شكوك أو خوف أو ريبة انها ستسقط بلحظة ما. أما إن كان أحد أحجارها به خَوَر، أو ليونة، أو عدم استواء واستقامة، أو حتى من كان يقوم بواجبه وهو له كاره، أو الذي له مآرب شخصية؛ فبالتأكيد سينعكس ذلك على من اعتمد على تلك الركائز الحجرية؛ فيناله ما نالها من تلك الأمراض والعيوب؛ وبالتالي تصبح وظيفته في مهب الريح؛ لما سيعتريها من العَوَر والعَوز وعدم الكمال والاكتمال.

عندما نَضَجتُ بمرِّ السنون كيفما كانت تنضج الأطعمة من قلب ذلك الوعاء المحظوظ؛ ذهبتُ بفكري بعيداً ولكن ضمن أجواء القِدْر وحجارته؛ وبمزيدٍ من التَّفحُّص؛ مَرَّ شريط ذكرياتي التي استجمعتُ مُكوناته وحُزت على أحداثه وأشخاصه سنة وراء سنة، وموقف بعد موقف، ومشهد من خلف مشهد؛ فرأيت التناغم والانسجام ما بين أحد القدور وأحجاره مرَّة، واستطلعت التغابن والخديعة وعدم الانسجام والعمل بروحٍ لا علاقة لها بروح الفريق الواحد مراراً وتكراراً؛ ما كان يحول دون العمل الصحيح المضبوط! وبالتالي عدم خروج المُنتجات إلى النور بأبهى صورها. وهنا أدركتُ وحصلتُ على قناعةٍ تامةٍ أن لا علاقة للقدور وحدها بطيب الطعام ونضوجه وجودة مُكوناته؛ فأحجار القِدْر تتحمَّل المسؤولية كما يتحمَّله القِدْر نفسه على وجه المساواة، وهما يتشاركان معاً ويتساويان بالعمل الجمعي المُشترك دون أن يكون لأحدهما فضلاً أو مِنَّةً على الآخر.

لقد أدركتُ الدرس الآن جيداً يا جدتي ولكن بعد حين. فرسالتك أصبحت جليَّةً واضحةً ومفهومة ودون لُبسٍ فيها أو غموض؛ لقد وَعيتُ اللحظة أهمية الحرص على اختيار أحجار قُدورنا بدقّة حتى نكون بذلك من الفائزين.