وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

فسيفساء "مي الغصين"

نشر بتاريخ: 20/11/2021 ( آخر تحديث: 20/11/2021 الساعة: 00:12 )
فسيفساء "مي الغصين"

ذاكرة إبداعية لكفاح الأسيرات داخل قبور الحرّيّة استطاعت بقلمها، وريشتها أن تصنع الفرح من داخل الألم، وتحمل لوحاتها رائحة الوطن وعذابات الأسرى تحرّك لواعج: الأسى، والحنين، والشّوق للحرّيّة

بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي

أخيرا ظهرت السّيرة الروائية الأولى إلى النّور بعد جهود سبع سنوات مضنية في الأسر وهي توثّق وتدوّن معاناتها وحياتها وتجاربها الخاصة بالتفصيل أثناء الاعتقال، والتحقيق، وأساليب التعذيب النفسي والجسدي الوحشي، وظروف سجون الاحتلال الصهيوني القاهرة، وبالرغم من مصادرة دفاتر مذكراتها ثلاث مرات من قبل مجندات وجنود الاحتلال لمحاصرة ذاكرتها الإبداعية، ومنع حرية التعبير التي تفضح وحشيتهم...

مي الغصين هي أسيرة محررة من "قبور الحرّيّة" في عام1997 بعد أن حُكم عليها بالمؤبّد و(12) سنة قضت منها سبع سنوات في سجون الاحتلال: المسكوبية الذي أطلق عليه المعتقلون"المسلخ"، وعسقلان، وتلموند.

تتكون سيرة"مي الغصين" الروائية الصادرة هذا العام عن "مركز بيت المقدس للأدب" من(222) صفحة من القطع المتوسط، ويعانق غلافها عنوان رمزي ملفت للانتباه"حجرُ الفسيفساء" الذي يحمل في طياته الكثير من معاني البطولة والتضحية، وكذلك لوحة تشكيلية للفنان السوري "مجد كيالي بن عبد اللطيف" تعبر عن التحدي ومدى الاصرار على الحرّيّة، وقد استمتعت في قراءتها أيما استمتاع.

تتضمن هذه السّيرة الروائية الفريدة قصصا إنسانية من واقع الأسرحافلة بتجاربها المؤلمة في غاية التشويق والإثارة، ومكتوبة بأسلوب أدبي تُحرّك لواعج: الأسى، والحنين والشوق للحرّيّة، وتؤرخ للأجيال لحظات هامة من كفاح شعبنا ضد الاحتلال.

لقد كان لحصول الكاتبة على دبلوم في الفنون الجميلة الأثر الكبير في صقل موهبتها الفنيّة التي تفتقت منذ أن كانت طالبة في المرحلة الابتدائية في الكويت حيث ولدت قبل عودتهم للوطن، واستثمرت ريشتها في التعبير عما يجول في خاطرها، ورسم صور الألم والمعاناة اليومية داخل المعتقل ببراعة.

هذه الصّداقة مع الرسم والفن حوّلت سريرها في المعتقل إلى مَرسم يعج بسحر الألوان، وخففت من وحشة المكان!(ص118).

من الجدير ذكره أن"مي" كانت ترسم لوحاتها داخل المعتقل على ضوء الكشاف المتسرّب من الخارج بعد أن تطفئ السّجانة الأضواء، وتحولت لوحاتها فيما بعد إلى أعمال تطريزية على قطع الايتامين لدى الأسيرات لتخرج كأجمل هدايا ورسائل للأهل أثناء الزيارات.

عندما شاهدت زميلاتها روعة مهاراتها وابداعها الأدبي والفني ، ولكثرة مشاركاتها في دورة الكتابة الإبداعية أطلقن عليها لقب" الفراشة" التي تحمل على جناحيها معاناة الأسيرات وتهرّبها من شقوق سجنها إلى الفضاء الخارجي كما تقول"ابتسام أبو ميالة" في كلمة التقديم، وأصبحت الكاتبة عضوة في مجلة "ولنا عودة" التي تصدرها الأسيرات بتكليف من اللجنة الثقافية التنظيمية، فصارت تنسخ مع زميلتيها"فايزة و رنا" مواضيع المجلة بخط جيد وواضح، وهي تزيّن صفحاتها بالرسوم والألوان مع تصميم الغلاف الجديد. (ص117).

بذلك تكون الكاتبة قد عادت لصداقتها القديمة والحميمة مع الرّسم، وصارت بقلمها وريشتها تصنع الفرح من داخل الألم، وتحمل لوحاتها رائحة الوطن وعذابات الأسرى، وتوظّف جمالها الأدبي الدّاخلي في خدمة القضيّة، ومناصرة الأسيرات الماجدات بفضح وحشيّة الاحتلال. أما المسؤولة عن اللجنة الثقافية فكانت الأسيرة"عصمت"حينئذ.

لا أُغالي إذا قلت: إن من تقع بين يديه سيرة "حجر الفسيفساء"ينكبُّ على قراءتها بشغف ليكتشف عالم السّجون المتوحش الذي كان مجهولا ويحتاج لمن يُعرّيه للرأي العام، وها نحن أمام قلم واعد مضافا إليه أقلام و جهود أسرى سبقوها بكتاباتهم النثرية والشعرية عن حياة الأسر وأصحابها يقبعون خلف قضبان الأسر، أمثال: الراحل غسان كنفاني، وليد الهودلي، محمود عيسى، رأفت حمدونة، حسام شاهين، د.أسعد عبد الرحمن، محمود عليان، الراحل عزت الغزاوي، عائشة عودة، جبريل الرجوب، محمد أبو لبن، عبد الله البرغوثي، إلياس خوري، د. حسن عبد الله... وغيرهم..

تكشف لنا الكاتبة في "حجر الفسيفساء" عن مدى عداوة الاحتلال للحروف، والألوان داخل المعتقل مشيرة إلى أن الحروف التي خطتها، وصفحاتها، وألوانها كانت تُرهب الأعداء ويعتبرونها سلاحا محرّما، فيقتحمون غرفة سجنها عُنوة، ويفتشون حقيبتها باستمرار، ويصادرون الحروف، والصفحات، والألوان التي تعتبرها الكاتبة بمثابة الحياة والبهجة، حتى الملابس الملونة لا تسلم منهم، إنهم أعداء الحياة والألوان وسحرها. (ص74).

لقد اتبعت كاتبتنا في كتابتها الأسلوب التسجيلي، والسردي، والتحليل النفسي بالغوص في أعماق النّفس الأسيرة ومشاعرها داخل مقابر الحرّيّة(السّجون) لتُظهِر لنا عمق المأساة خلال السنوات السّبع من المواجهة الملتهبة مع الغاصبين. وهذا ليس غريبا، لأن التجارب الحياتية للأسيرة "مي الغصين" أسهمت بشكل كبير في تكوين الإبداع الأدبي والعمل الفني لديها، وقد أبرزت بمهارتها بشكل واضح مدى علاقة علم النفس بالأدب والفن.

و بسلاسة أسلوبها تُبيّن لنا كيف استطاعت التغلب والانتصار بصلابتها على عنصر الخوف والقلق النفسي الذي عاشته الأسيرات شخصيات الرواية و بطلتها، وهن:( مي،وأم محمود، ومنال، وهيفاء، وأميمة، ومريم، وانتصار، ولمياء، وماجدة، وعلا...وغيرهن) وعلى الحاجات النفسية، والفسيولوجية ، والأمراض التي عانت منها بعض الأسيرات بسبب الإهمال الطبي المتعمّد.

كما استطاعت بتصويرها النفسي الدقيق والمميز نقل القرّاء إلى أجواء الأحداث في المعتقلات كأنهم يعيشونها، وسلّطت الضوء من خلال صورها الأدبية المُشبعة باللمسات الانسانية المُجسّدة لكفاح المرأة الفلسطينية ومعاناتها دفاعا عن قضيتنا العادلة جنبا جنب مع الرَّجل مما يجعل لهذه "السّيرة الروائية" الأهمية، والأثر الكبيرين في إثراء المشهد الثقافي الفلسطيني والمكتبة الفلسطينية، وانعاش للذاكرة الفلسطينية تجاه جرائم الاحتلال.

أنصح كل فلسطيني بضرورة اقتناء هذه الوثيقة الفسيفسائية الثمينة بكنوزها التي تسجل، وتوثّق، وتصوّر، وترسم تفاصيل حياة ومعانات الأسيرات، وتُعتبر مرجعا للدارسين، والباحثين، والمهتمين، ودليلا أرشاديا لمن لم يذوقوا مرارة وأهوال الاعتقال بعد. استطيع القول: إنها سيرة روائية وطنية واقعية تتناول بطولات وتضحيات الأسيرات من أجل الحريّة من براثن الاحتلال.

تناثرت حجارة الفسيفساء يا أخت "مي الغصين" لتعود مُشكِّلة لوحة واحدة ستكون أجمل اللوحات كتعبيرعن وحدة الوطن رغما عن همجية الغاصب.