وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

طفل مثلّج في ساحة الميلاد

نشر بتاريخ: 28/11/2021 ( آخر تحديث: 28/11/2021 الساعة: 09:26 )
طفل مثلّج في ساحة الميلاد


أيها الناس، وانتم تستعدون لاستقبال أعياد الميلاد المجيدة في كل انحاء الكون، تستعدون للحفلات والصلوات والرحلات، تحتشدون قلبا وروحا ومغفرة في الدعاء والرجاء كي يكون العام القادم عام سلام ومحبة وهدوء بال، وأنتم تزينون بيوتكم ونوافذكم وساحات مدنكم وشوارعها بأشجار الميلاد المضيئة ليلا، وانتم تجتمعون كعائلات حولكم الأولاد والاقارب والأصدقاء، تشترون اجمل الملابس والهدايا لأطفالكم الصغار، تنظرون الى السماء وتتمنون ان يهطل الثلج ليلبس العيد لون البياض.
أيها الناس، وانتم تشاهدون اطفالكم يرسمون بأقلام التلوين على الثلج اشكالا جميلة ومبهرة، طيورا وفراشات ملونة، جبال وقوارب واسماك ذات الوان بديعة، اجمل اللوحات يرسمها الأطفال فنانو الطقس البارد، لوحات بديعة، تمتزج الألوان المائية بأحلامهم البريئة، يركبون حصان الثلج ويسافرون الى مستقبلهم بسعادة غامرة، يركضون ويمرحون ويلعبون بكرات الثلج تحت الرذاذ، يحررون نبي الحرية من قيوده ويشعلون البرق والرعد والسحاب والنبوءة والخلاص.
أيها الناس: في فلسطين وحدها عندنا طفل مثلج، ابداع مختلف ومتميز، نتفوق عليكم في احتفالات أعياد الميلاد هذا العام، ليس طفلا كرتونيا او جسما مصنوعا من ثلج، ليس طفلا مرسوما تذوب الوانه عندما تشرق الشمس، انه طفل من لحم ودم، طفل مثلج في ساحة الميلاد في مدينة بيت لحم مهد اليسوع عليه السلام، طفل ينام تحت قالب الجليد السميك، يحتاج الى وقت ليستيقظ ويظهر وجهه وملامحه وابتسامته الطفولية، عندنا طفل متجمد، محبوس الانفاس، محتقن الدم، مقيد تحت كتلة ثلج، وقد أراد ان يفاجئ العالم في يوم الطفل العالمي، وان يفاجئ المسيح حبيب الأطفال، وان يفاجئ الفنانين والكتاب والمثقفين والحاصلين على جوائز نوبل، العباقرة والفقهاء والعلماء.
طفل فلسطيني مثلج اسمه امجد أبو سلطان 14 عاما، انه طفل هذا العام، يسكن في محيط كنيسة المهد، الاقرب الى مغارة الميلاد وصوت الصلاة، الأقرب الى خشوع المؤمنين والعباد، الأقرب الى قرع الاجراس والترانيم والابتهالات، الأقرب الى الايمان، الأقرب الى خطوات الرسل والاجداد والتاريخ الممتد منذ اقدم العصور من جبال القدس الى مدينة بيت لحم، الأقرب الى مدرسته وأصدقائه واقلامه وكتبه وشهادة الميلاد.
طفل فلسطيني مثلج في ساحة الميلاد، طفل هذا العام، اسمه امجد أبو سلطان قتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم 15-10-2021 في مدينة بيت جالا بدم بارد واصابت زميلا له تم اعتقاله جريحا، القناص الإسرائيلي لم يخطئ في عملية الإعدام، الطفل في الفوهة، رصاصات في الرأس وفي القلب وفي الظهر، عملية عسكرية مكتملة وناجحة تماما انجزها جيش الاحتلال ضد طفل كان على مسافة بعيدة ولم يشكل خطرا عليهم، لكنه طفل فلسطيني، وهي فرصة متاحة لاصطياده وارساله الى الموت سريعا.
الإنجاز العسكري الإسرائيلي لم يكتمل بقتل الطفل امجد، وانما اتخذ قرارا ومن اعلى المستويات باحتجاز جثمانه في الثلاجات الباردة، ربما لم يمت تماما، فالثلج القارص سيقتله، ربما لا زال قلبه ينبض، فالثلاجة المحكمة ستخنقه، ربما روحه ترفرف، فجليد الثلاجة سيخمدها ويجمد الاجنحة.
الإنجاز العسكري الإسرائيلي بقتل الطفل امجد أبو سلطان لم يكتمل الا بعد ان مر اكثر من شهر على احتجاز جثته في تلك الثلاجة المغلقة، وعندما اطمأنوا ان دمه المشتعل قد انطفأ، وان أحلامه قد ذابت في ماء الثلج، وان عيونه قد اغلقها الثلج، وبعد جهود قضائية تم تسليم جثمانه على معبر الجبعة الى الغرب من مدينة بيت لحم، ولكنه لم يصل، حيث تبين ان الجثمان لا يعود له، انما لشهيد فلسطيني اخر، تأجل التسليم حتى يوم السبت 20-11-2021 فوصل الشهيد امجد في قالب من الثلج وفي يوم الطفل العالمي.
في ساحة الميلاد طفل مثلج، طفل قتلوه ثلاث مرات متتالية: التصفية الميدانية، احتجاز الجثمان غير القانوني في ثلاجات باردة، تعذيبه وتعذيب عائلته التي انتظرت وصول ولدها ولم يصل في الساعة المرتقبة تحت حجة خطأ رقمي، فالشهداء ارقام، والأسرى ارقام، يستبدلون ويشطبون من الحياة الدنيا ومن الحياة الآخرة، فأمجد ليس انسانا وليس طفلا انه مجرد هدف خطفت حياته رصاصة قاتلة.
في ساحة الميلاد طفل مثلج، كتلة لحمية مثلجة، جاء من سجون الثلاجات الإسرائيلية حيث لا تزال سلطات الاحتلال تحتجز 90 شهيدا في هذه الثلاجات، وبعد ان تتجمد انفاس الشهداء يرسلونهم الى ما يسمى مقابر الأرقام العسكرية لينضموا الى 254 شهيدا محتجزا هناك منذ سنوات طويلة، ممنوع ان يكون لهم أسماء ولا قبورا ولا جنازات لائقة، لا كرامة لميت في دولة تتقن افناء البشر ومحوهم وهدر حياتهم السابقة واللاحقة.
في ساحة الميلاد طفل مثلج، لن يضيء معنا شجرة الميلاد هذا العام، لن يأخذ هديته من بابا نويل، لن يشاركنا في الاحتفالات والصلوات، لن يركب دراجته الهوائية التي اشتراها له والده قبل أسبوع من استشهاده، لن يلعب بالثلج ويستحم تحت قطرات المطر، فيا أيها الحالمون بالمعاطف والقبعات والدفء ومواقد السمر بين ضلوعكم يسكن طفل مثلج.
في ساحة الميلاد طفل مثلج، هذا ليس مشهد من فيلم (مطاردة الجليد) الذي حصل على العديد من الجوائز الدولية وصور في القطب المتجمد الشمالي، انه طفل هنا على ارض فلسطين لم تصله الكاميرا والمؤلفين والمخرجين، لو رآه المشاهدون سوف يفرون فزعين يبحثون عن مأمن لأطفالهم، فالفاشية الإسرائيلية أصبحت عالمية يصل جليدها الى كل الأطفال الحالمين.
ماذا ستقول الكنيسة في صلاة منتصف الليل هذا العام؟ لا يكفي الدعاء، المذود مليء بالدم، المغارة مزدحمة باللاجئين، الأرض المقدسة تفترسها المستوطنات والحواجز والجدران الفاصلة، خبز مدينة بيت لحم لم يعد يكفي للفقراء، هنا غزاة وبرابرة يجتاحون الوهة الكون، هنا تستفحل العنصرية والوحشية والكراهية، هنا الاحتلال الصهيوني الكولونيالي، هنا الإرهاب المسلح والوباء.
أيها المجتمع العالمي امنح دولة الاحتلال الإسرائيلي جائزة الابداع والتميز في قتل الأطفال الفلسطينيين، تحولهم الى أشلاء مهشمين ممزقين او كتل ثلجية او هباءً منثورا ورمادا في قاع التراب والنسيان.
تستحق إسرائيل ان تحصل على اليوبيل العالمي لعام 2021 لأنها قتلت 63 طفلا في عدوانها الأخير في شهر أيار من هذا العام على قطاع غزة، و16 طفلا في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وشردت مئات الأطفال الذين فقدوا مساكنهم ومدارسهم المدمرة.
أعطوا اسرائيل جائزة افضل قاتل في التاريخ المعاصر، لانها نجحت من الإفلات من العقاب الدولي والمحاكمة والمحاسبة، دولة منفلتة في المنطقة، لم توضع على قائمة العار في الأمم المتحدة، الدولة الوحيدة التي حولت القتل الى عملية تلذذ ومتعة وابتهاج وعقيدة ومنهج دون خوف او مساءلة، الدولة الوحيدة التي شرعت الجريمة والطغيان ومازالت تسمى الدولة الأكثر أخلاقية وديمقراطية.
أعطوا اسرائيل جائزة افضل سجان في التاريخ المعاصر، أطفال ينزعون من اسرتهم بعد منتصف الليل في حملات الاعتقال والمداهمة، الضرب والفزع والتنكيل والتعذيب والدعس وتقويض حياتهم والتسبب لهم بصدمات وامراض نفسية وجسدية، انها اكبر سجان للأطفال، فقد اعتقلت 19 الف طفل فلسطيني منذ عام 2000، لا براءة للأطفال في المحاكم العسكرية الإسرائيلية، احكام قاسية، القضاة لا يرون وجوه أطفال في قاعة المحكمة، الأطفال غير محميين وفق الاتفاقيات الدولية، فكل طفل هو هتلر بالنسبة لهم مصيره الموت او السجن كما كتب احد المستوطنين الصهاينة، الأطفال قنابل موقوتة يجب تفكيكها وتدميرها.
أعطوا إسرائيل افضل جائزة في تطبيق العنصرية المتوحشة، احكام تمييزية، تشريعات عنصرية تسمح باعتقال أطفال بعمر 12 سنة، انهم أطفال (عرابيش)، استخدام النيران المميتة، الحرق والخطف، فلا اجمل ولا ابهى من صور عرب اموات، انها صورة مفرحة، وليمت اكبر عدد من الأولاد هذا ما يكتبه الإسرائيليون على مواقع التواصل الاجتماعي، ولهذا حُرِقت عائلة دوابشة عام 2015، المستوطنون يغنون ويهتفون وهم يرددون: حرقناك يا علي الرضيع شويناك على الشواية.
أعطوا جنود الاحتلال النياشين والاوسمة، انهم ابطال قوميون محاربون استعادوا ارض الميعاد من سكانها الأصليين، ركبوا الأسطورة والدبابة وجاءوا من هوامش التاريخ، طهروا المكان والزمان واختلقوا رواية للموت وأخرى للذاكرة.
أعطوا دولة إسرائيل جائزة الحصول على الرقم القياسي للعار هذا العام، فقد أرسلت الى مدينة بيت لحم وفي أعياد الميلاد المجيدة طفلا فلسطينيا مذبوحا داخل قالب من ثلج اسمه امجد أبو سلطان، واتصل ضابط المخابرات الإسرائيلي بوالد الشهيد متباهيا ومهددا ليقول له: قتلنا امجد دير بالك على ابنك الثاني إسماعيل، الإسرائيلي من حقه ان يقتل الفلسطيني حتى لو كان طفلا، يجب القضاء على مستقبل الفلسطينيين بالقضاء على نسل فلسطين.
في ساحة الميلاد طفل فلسطيني كفنوه بالثلج، خرجت الجنازة من ساحة الميلاد بعد أن مكث الجثمان أسبوعا في المشفى حتى ذاب الثلج، بكى أصدقائه الصغار وهم يودعونه ويقبلونه بحرقة، بكى الكبار، ساحة الميلاد صارت للموت وإنتاج الموت قتلا وابعادا وحصارا، المسيح لا زال مطاردا في التاريخ، الأطفال مطاردون، والكنيسة الملجأ والمعبد تشعل الأرواح البريئة وتوقظ الصيف في عز الشتاء.