وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

من سجن عكّا

نشر بتاريخ: 15/06/2022 ( آخر تحديث: 15/06/2022 الساعة: 14:33 )
من سجن عكّا

بقلم:المتوكل طه

"الثلاثاء الحمراء" هي قصيدة كتبها الشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان، في وصف إعدام ملهبي ثورة البراق (1929)، على يد سلطات الانتداب البريطاني، في 17 حزيران 1930: محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير .

***

وكان الإنجليز في أعقاب ثورة البراق وأحداث العام 1929، شكلوا محكمة عسكرية، وذلك بدعوى محاكمة العرب واليهود الذين اشتركوا في الأحداث، وأصدرت حكماً بإعدام ثلاثة من الفلسطينيين هم: محمد جمجوم، فؤاد حجازي، وعطا الزير. وقال فؤاد حجازي لزائريه: "إذا كان إعدامنا نحن الثلاثة يزعزع شيئاً من كابوس الإنجليز عن الأمة العربية الكريمة، فليحل الإعدام في عشرات الألوف مثلنا كي يزول هذا الكابوس عنا تماماً". وقد نفذ فيهم حكم الإعدام، ولم يكترث الإنجليز بالوساطات العربية لتخفيف حكم الإعدام.

وقال الشهيد فؤاد حجازي في وصيته التي كتبها بخط يده، وبعث بها إلى صحيفة اليرموك يوم 18/6/1930م:

"إذا كان لديَّ ما أقوله وأنا على أبواب الأبديّة فإنِّي أوجز القول قبل أن أقضي :

أخويَّ العزيزين يوسف وأحمد وفَّقكما الله، رجائي إليكما أن تفعلا بما أُوصيكما به، أوصيكما بالتعاضد والمحبَّة الأخوية، والعمل بجدٍّ واجتهاد على مكافحة شقاء الدنيا لإحراز السّبق في مضمار هذه الحياة التي ستقضونها – إن شاء الله – بالعزِّ والهناء.

ورجائي إليك يا يوسف.. يا حبيبي أن تلجأَ إلى الهدوء والسكينة، وأن لا تأتي بعمل تكون عاقبته وخيمة، عليك أن لا تتأثر لمصرع فؤاد، لأنَّ فؤاد لم يخلق إلاّ لهذه الساعة، وله الشرف الأعلى بأن يقضي في سبيل القضية العربية الفلسطينية.

عليك بطاعة والدتك وشقيقك يوسف.

أحمد.. السكينة السكينة، الهدوء الهدوء، ملابسي تحفظ شهراً ثم تُغسل، ممنوع قطعياً تنزيل أي طقم عليَّ سوى اللباس والفنيلّة والكفن داخل تابوت.

البكاء، الشخار، التصويت، هذا ممنوع قطعياً، لأنَّني لم أكن أرضاها في حياتي، خاصة تمزيق الثياب. يجب الزغردة والغناء، واعلموا أن فؤاداً ليس بميت، بل هو عريس ليس إلاَّ.

يجب الاستعلام بواسطة الدلاّل عما إذا كان يوجد لأحد شيء بذمة فؤاد وسداده فوراً، وأعود فأوصيكم بطاعة الوالدة.

إنّ الضريح سيشيّد على نفقة لجنة الإسعاف العربية بالقدس، فلتعمل جنينة عند ضريحي بداربزين على الدّاير.

عليك أن ترفع رأسك بين أقرانك وأنت لا تدع للحزن سبيلاً إلى قلبك، وأن ترتدي دائماً الملابس الجديدة، وأن تحلق يومياً، عليك أن تذهب للنزهة والأفراح كعادتك، بل أكثر.

عليك بالسّهر على مستقبلك، فإذا كان الله قضى بذلك عَلَيَّ فما عليك أنت إلاّ الاطمئنان لحكمه تعالى، إنَّني من جهتي أسامح كل من شهد عَلَيّ، خاصةً سعيد العسكري، وغداً يوم الحشر سأقابله وأطلب حقِّي منه من الله سبحانه وتعالى، وعليك أن لا تضمر لأحد سوءاً، كما أوصيك بطاعة الوالدة واحترامها.

حبيبي أحمد :

أمّا أنت يا أحمد فعليك العناية بدروسك والاجتهاد فيها، وأن لا تجعل القلق يستولي عليك.

تأثَّرت من قولك حين زيارتك لي إنَّك ستأخذ بثأري، فهذا يا حبيبي لا يعنيك أنت لأنَّني لستُ بأخيك وحدك، بل أنا قد أصبحت أخا الأمة العربية، وابن الأمة جمعاء.

يا والدتي :

أُوصيك وصيَّة، والوصية – كما قيل – غالية:

أن لا تذهبي إلى قبري إلاَّ مرَّة في الأسبوع على الأكثر، ولا تجعلي عملك الوحيد الذهاب إلى المقبرة.

إنَّ يوم شنقي يجب أن يكون يوم سرور وابتهاج، وكذلك يجب إقامة الفرح والسرور في يوم 17/6 من كل سنة، إنَّ هذا اليوم يجب أن يكون يوماً تاريخياً تُلقى فيه الخُطب، وتُنشد الأناشيد على ذكرى دمائنا المهراقة في سبيل فلسطين والقضية العربية".

***

وحكمت المحكمة على 800 من العرب بالسجن سنوات مختلفة، أما اليهود فقد اكتفت بالحكم بإعدام يهودي واحد هو خانكيز، وهو شرطي يهودي قتل عائلة عربية كاملة في بيتها في يافا، ولكن الإنجليز خففوا عنه حكم الإعدام إلى السجن لعشر سنوات، قضى بعضها في السجن، ثم أطلق سراحه.

وقام الفلسطينيون بالاحتجاج على حكم المحكمة الجائر والمتحيز لليهود، ثم قاموا بتشكيل لجان إغاثة لتقديم العون والمساعدة لعائلات الشهداء والجرحى.

وقد هزّ إعدام الشهداء الثلاثة على يد الإنجليز مشاعر الفلسطينيين، في الداخل والخارج، إلا أن الإنجليز لم يأبهوا وأعدموهم. وقال عز الدين القسام عقب إعدامهم في خطبة نارية: "يا أهل حيفا .. يا مسلمون، ألا تعرفون فؤاد حجازي؟ ألم يكن فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم إخوانكم؟ ألم يجلسوا معكم في دروس جامع الاستقلال؟ إنهم الآن على المشانق .. حكم عليهم الإنجليز بالإعدام من أجل اليهود".

وتابع القسام قائلاً: "أيها المؤمنون: أين نخوتكم؟ أين إيمانكم؟ وأين هي مروءتكم؟ ... إن الصليبية الغربية الإنجليزية، والصهيونية الفاجرة اليهودية، تريد ذبحكم كما ذبح الهنود الحمر في أميركا، تريد إبادتكم أيها المسلمون، حتى يحتلوا أرضكم من الفرات إلى النيل، ويأخذوا القدس، ويستولوا على المدينة المنورة، ويحرقوا قبر الرسول .. إنهم يريدون اللعب بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وتحويلهن إلى خدم لهم وسبايا".

وكان تنفيذ حكم الإعدام بحق الشبان الثلاثة قد بدأ في الساعة الثامنة، حيث نفذ الحكم في الشهيد فؤاد حجازي، وفي التاسعة نفذ في الشهيد عطا الزير، وفي العاشرة نفذ في الشهيد محمد جمجوم، ووصف الشاعر إبراهيم طوقان هذه الساعات الثلاث في قصيدته "الثلاثاء الحمراء".

وإذا كان الحكم البريطاني قاسياً بحق المواطنين العرب، فإن أسباب اندلاع ثورة البراق لم تؤخذ بالحسبان، ما يؤكد أن اليهود قد أشعلوا فتيل المعركة تلك، وأن البريطانيين قد ساعدوهم من خلال إيقاع أحكام قاسية بحق المواطنين العرب، لمنعهم من الإقدام على التصدي لليهود، ومنع أنشطتهم العدائية مستقبلاً.

لقد كانت التظاهرة الضخمة لليهود في 14 آب 1929 في تل أبيب، والتي جاءت لمناسبة ذكرى تدمير ما يسمى "هيكل سليمان" المزعوم، ثم نظموا تظاهرة ثانية في اليوم التالي في شوارع مدينة القدس، وتوجهوا نحو جدار الأقصى الغربي، جدار البراق أو "حائط المبكى" كما يحلو لليهود أن يسموه، وهناك رفعوا العلم الإسرائيلي، وأنشدوا "الهتكفا" (النشيد القومي الصهيوني)، وهاتان التظاهرتان كانتا الشرارة التي أشعلت فتيل ثورة البراق، إذ تجمع المسلمون في اليوم التالي لهذه الحادثة، وكان يوم جمعة وذكرى المولد النبوي الشريف، في باحة المسجد الأقصى المبارك، وساروا بعد الصلاة في تظاهرة كبيرة حطموا خلالها منضدة لليهود على رصيف حائظ البراق، وأحرقوا أوراق الصلوات اليهوية الموضوعة في ثقوب الحائط.

وتوالت الاشتباكات الدموية حتى حصل الانفجار يوم 23 آب/ أغسطس، والذي يعرف تاريخياً بـ "ثورة البراق"، حيث هجم العرب بأعداد كبيرة على اليهود، وتدخل "البوليس" البريطاني بعنف، مستخدماً الأسلحة المختلفة، بما في ذلك الطائرات الحربية، وعاشت فلسطين للمرة الأولى أسبوعاً دموياً بين العرب واليهود، بعدما امتدت الاشتباكات إلى المدن الأخرى والقرى المختلفة.

وكانت نتيجة ذلك عشرات القتلى والجرحى من الجانبين، وسيطر القلق والتوتر على أجواء البلاد، وزاد من أجواء التوتر ذلك المنشور الذي أصدره المندوب السامي الثالث (تشانسلور) في أول أيلول، إثر عودته إلى البلاد من لندن، فهو لم يكن متسرعاً ومنحازاً لليهود فحسب، بل كاذب في افتراءاته على العرب، ووقح جداً في تعابيره.ونقتطع مما جاء في بيانه الذي أعلنه تعليقاً على تلك الأحداث: "عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد من الأسى أن البلاد في حالة اضطراب، و أصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة، وقد راعني ما عملته من الأعمال الفظيعة التي اقترفتها جماعات من الأشرار سفاكـي الدماء، عديمي الرأفة وأعمال القتل الوحشية التي ارتكبت بحق أفراد الشعب اليهودي، الذين خلوا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم، وعما إذا كانوا ذكوراً أو إناثاً، والتي صحبتها كما وقع في الخليل أعمال همجية لا توصف، وحرق للمزارع والمنازل في المدن وفي القرى، ونهب وتدمير الأملاك. إن هذه الجرائم أنزلت على فاعليها لعنات جميع الشعوب المتمدنة في أنحاء العالم قاطبة، فواجبي الأول أن أعيد النظام إلى نصابه في البلاد، و أوقع القصاص الصارم بأولئك الذين سوف يثبت عليهم أنهم ارتكبوا أعمال عنف وستتخذ جميع التدابير الضرورية لإنجاز هاتين الغايتين".

لقد كانت ثورة البراق مفصلاً مهماً في تاريخ النضال الفلسطيني، أثبتت عدوانية اليهود ونواياهم المبيتة لأرض فلسطين وشعبها، كما كانت وصمة دامغة في تاريخ القضاء البريطاني، ولعل التضحية بالذات في سبيل المجموع قد تجلت بأنصع صورها من خلال تسابق الشهداء الثلاثة إلى حبل المشنقة، حيث أراد كل واحد منهم أن يسبق زميليه إلى الحبل الرهيب، في محاولة لإيصال رسالة واضحة إلى الجلاد البريطاني، وقد وصلت الرسالة بالفعل.

وفي هذا الصدد، تصف فدوى طوقان اليوم الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام بالقول: "وفي نهاية الثلاثاء السابع عشر من حزيران من عام 1930، كان التكبير على المآذن وقرع النواقيس في الكنائس يتجاوب صداها في أرجاء فلسطين قاطبة، إذ في ذلك النهار نفذ حكم الإعدام بالشهداء الثلاثة، في ثلاث ساعات متوالية، فكان أولهم فؤاد حجازي، و ثانيهم محمد جمجوم، و ثالثهم عطا الزير، وكان من المقرر رسمياً أن يكون الشهيد عطا الزير ثانيهم، ولكن جمجوم حطم قيده و زاحم رفيقه على الدور حتى فاز ببغيته".

وهنا يأخذ الشاعر ريشته ليصور هذا اليوم المخضب بالدماء، وليسجل في سفر الشعر الوطني الخالد مصارع أولئك الشهداء فتكون قصيدة إبراهيم طوقان "الثلاثاء الحمراء".

"وفي الحفلة السنوية لمدرسة النجاح بمدينة نابلس، ولم يكن قد مضى على تنفيذ حكم الإعدام سوى عشرة أيام، ألقى الشاعر إبراهيم طوقان قصيدته أمام الجمهور الذي كان ما يزال مستفـزاً ومستثاراً، وعواطفه،لم تبرد بعد، وما أن ألقى الشاعر قصيدته حتى فقد السامعون كل رباطة جأش وكل هدوء، فكأنما خرج الناس من لحومهم ودمائهم، فما أن انتهى الشاعر من إلقاء قصيدته حتى كان بكاء الناس ونشيجهم يملأ ساحة المدرسة، ثم اندفعوا خارج المدرسة في تظاهرة شديدة وعارمة، حتى قيل يومها "لو أن إبراهيم ألقى قصيدته في بلد فيها يهود لوقع ما لا يحمد عقباه".