|
سُلطة ومعارضة
نشر بتاريخ: 05/03/2023 ( آخر تحديث: 05/03/2023 الساعة: 11:22 )
نجحت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تاريخيا، في توظيف المعارضة من أجل تمرير برنامجها، وتخويف العالم من أنه إذا لم يقبل ويُسلّم بسياسات الحكومة، فسوف يأتي من هو أكثر تطرفا منها. ينطبق ذلك بخاصة على العهود التي حكم فيها حزب العمل، ثم حزب "كاديما" وصولا إلى حكومة "التغيير" بقيادة بينيت وغانتس ولابيد، التي جرى تعويمها دوليا وإقليميا مخافة أن يأتي مَن هو أكثر تطرفا منها. وتحت هذه الحجة الواهية مررت الحكومة مجمل سياساتها المتطرفة، وعملت على تغيير الوضع التاريخي القائم في القدس والمسجد الأقصى، واجتاحت المدن الفلسطينية، وارتكبت أعلى معدل من المذابح وعمليات الإعدام الميداني خلال عقدين، وعملت على توسيع الاستيطان، وإضعاف السلطة الفلسطينية وتقويضها واختزال دورها إلى الجانب الأمني. ثم مهّدت لمجيء حكومة اليمين المتطرف الأصيل الذي صعد إلى الحكم ممثلا بالثلاثي نتنياهو – سموتريتش- بن جفير لكي يستأنف ما فعلته الحكومات السابقة، وليثبُت أن التباينات بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هي تباينات ثانوية، لا تتصل بجوهر سياساتها تجاه الفلسطينيين والقائمة على إدامة الاحتلال وتهويد القدس وتكريس الاستيطان، وتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية. الخلافات بين مكونات الخريطة السياسية الإسرائيلية، لا ترتبط بالموقف من الاحتلال وحقوق الفلسطينيين، بل تتصل بطبيعة نظام الحكم في إسرائيل. سوف نجد حتما علاقة ضمنية بين التباينات الداخلية والموقف من الاحتلال، فمن يستبيح حياة الآخر المختلف عنه دينيا أو قوميا وعرقيا، لن يتورع عن استباحة حقوق أبناء جلدته المختلفين عنه فكريا وسياسيا. وعلى الرغم من حدة الاحتجاجات وجديتها، والدعوات غير المسبوقة للعصيان المدني والامتناع عن الخدمة العسكرية، وشلّ جهاز التعليم، والتحذيرات من خطر الانزلاق نحو حرب أهلية، لم نجد من الحكومة أي بوادر عملية لقمع المعارضين أو منعهم من التعبير عن رأيهم، صحيح أن هناك دعوات شاذة لاعتقال بعض المحرضين ، ولكن في المقابل جرى تحريك دعاوى قضائية ضد وزراء ومسؤولين بتهم التحريض على ارتكاب جرائم الحرب. والأهم أن ماكينة الدولة وأجهزتها لم تتعطل، فالجيش يعمل وفق خططه وبرامجه بما تطلب منه قيادته، وكذلك تفعل الأجهزة الأمنية، وقطاع الاقتصاد والأعمال، ومؤسسات الدولة، أما وسائل الإعلام الرسمية والخاصة فهي مفتوحة أمام الجميع حكومة ومعارضة. ماذا عن وضعنا نحن بشأن علاقة السلطة بالمعارضة؟ يحضرنا هنا للأسف قول الشاعر والأمير الفارس أبو فراس الحمداني في القرن العاشر الميلادي: " يا حسرة ما أكاد أحملها... آخرها مزعج وأولها". فالعلاقات بين الأنظمة الحاكمة ومعارضيها على امتداد الوطن العربي من محيطه إلى خليجه هي علاقات مأزومة وعدائية وتناحرية، تقوم على محاولات كل طرف نفي الطرف الآخر وإقصائه وإخراجه من المشهد، وفي الحد الأدنى تجاهله وإنكار أهميته. ما يهمنا هو حالتنا الفلسطينية التي تتميز بخصوصية كوننا جميعا تحت سطوة الاحتلال، وأن السلطة والمعارضة على السواء هما جزء من حركة التحرر الوطني الفلسطيني، لكن ممارسات القمع سواء تلك الجارية في الضفة أو في غزة، تنتمي إلى ثقافة الاستبداد السائدة في منطقتنا العربية، والتي ترى في المعارضة شيئا معيبا ينبغي إخفاؤه، خشية أن يخدش هيبة السلطة وهيلمانها، أو هي تعمد إلى شيطنته وتجريمه، وفي الحد الأدنى تصوير المعارضة كظاهرة هامشية جدا لا تستحق الإشارة، فما بالكم بالمشاركة في القرار؟ لا توجد عندنا، ولله الحمد، جرائم وانتهاكات منهجية خطيرة ضد المعارضة كالإخفاء القسري وعمليات القتل الواسعة، باستثناءات محدودة جدا من الوفيات تحت التعذيب، ولكن أي قمع أو اضطهاد مهما صغر شأنه هو مقلق مبدئيا ومرفوض، ويسيء لتماسك جبهتنا الداخلية ومِنعتها وحصانتها في وجه الاحتلال. ومن المؤسف أن تلجأ السلطة الفلسطينية لهذا الأسلوب في التعامل مع المعارضة كما جرى عند منع مجموعة من الشخصيات المقدسية والوطنية من إعلان ندائها الذي ينتقد انفراد السلطة بسحب مشروع القرار المقدم لمجلس الأمن بإدانة الاحتلال والاستيطان، والدعوة لالتزام قرارات المؤسسات والإجماع الوطني، ووقف التنسيق الأمني والدعوة للانتخابات، ثم ملاحقة السلطة للمنظمين إلى مقر شبكة "وطن" الإعلامية ومنعهم من عقد المؤتمر الصحفي هناك، من المؤكد أن أضرار هذا المنع تتجاوز أي أذى كان يمكن للنداء أو المؤتمر أن يسببه، إن كان ثمة أذى أصلا، لأن هذا السلوك يظهر السلطة ضعيفة ومهزوزة، مذعورة وغير واثقة من قدراتها ولا من خطابها، وهي الخائفة من بيان كما كانت تبدي خوفها من مظاهرة احتجاج. لسوء تقدير من منعوا إطلاق النداء، فقد انتشر واكتسب أهمية أكثر مما لو طرح كما كان مقررا، ومن نافل القول التأكيد أن المبادرين لنداء الشخصيات المقدسية (الذي أصبح عاما للكل الفلسطيني) هم من أعمدة العمل الوطني في القدس وفلسطين، وقادته، الملتزمين بمنظمة التحرير وبهموم الوطن، ولا يحتاج المرء لأن يكون ذا تاريخ نضالي ووزن اجتماعي مثل محمود شقير أو تيسير الزبري أو محمد سعيد مضية وحسيب النشاشيبي وسواهم من الشخصيات لكي يُسمح له بالكلام والتعبير عن رأيه، فهذا حق يكفله إعلان الاستقلال والقانون الأساسي وتقاليد الثورة والعمل الوطني منذ عشرات السنين لكل مواطن. بل على العكس، يمكن للسلطة والقيادة أن تستفيد من وجود المعارضة ومواقفها، فتستقوي بها، لمواجهة الضغوط الخارجية، وتحميها من الرضوخ لأي مطلب لا توافق عليه، فضلا عن أن وجود المعارضة هو وسيلة للرقابة غير المباشرة تدفع الحكومات والهيئات إلى تجويد عملها وتحسين أدائها باستمرار. مواقف المعارضة والموالاة ليست ثابتة ويمكن أن تتبدل وتتغير، فكم من رموز السلطة الذين عرفناهم باتوا الآن من أشرس المعارضين، وكم من معارض احتوته السلطة. ثم إن وجود الاحتلال يجعل التناقض معه تناقضا رئيسيا دائما يتقدم على غيره من التباينات والخلافات. |