وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

سفينة الحمقى الملأى بالمجانين..

نشر بتاريخ: 15/03/2023 ( آخر تحديث: 15/03/2023 الساعة: 10:58 )
سفينة الحمقى الملأى بالمجانين..

"تاريخ الجنون".. أنتهيت مؤخراً من قراءة هذا الكتاب الذي يعد من الكتب النادرة، كتاب يلامس الواقع المعاش، خضت في تفاصيله في ثنايا العبارات والجمل، لأجد نفسي أتعايش معه واعكس ما قرأته على واقع الحياة اليومية التي يعاني منها أغلب البشر، سأبدأ من حيث انتهيت من هذا الكتاب، بالعبرة التي خرجت بها أن أي شخص يعيش على الأرض مهما كان مركزه الاجتماعي أو الثقافي أو غيره، معرض للإصابة بأي اضطراب يؤثر في حالته النفسية ومزاجه ويؤثر ذلك في حياته وعمله بطريقة أو بأخرى، لكن التأثير يختلف من شخص إلى آخر حسب تفاعل الشخص مع هذا الاضطراب، والاضطراب النفسي -بكل أسف- هو من أكبر الموضوعات التي يجهلها الناس ويتهمون المصابين فيه باتهامات جارحة دون النظر لحقيقة هذا الاضطراب، فتجد ذوي المضطربين في أوكار الدجالين والسبب المزعوم وجود سحر ليقوم الدجال بفكه! وتجدهم في بيوت (الأطباء) الشعبيين ليقوم بكيه على رأسه لإغلاق بعض الفجوات كما يزعمون، وتجدهم يتجهون إلى بعض من يدعون أنهم أهل الدين، والنتيجة النهائية ماذا؟ تدهور الحالة إلى الأسوء، فعند حدوث مكروه لأي شخص منا وأجبر على دخول المستشفى لسبب عضوي نجد الجميع يتسابق لزيارة هذا المريض سواء كان من الأهل أو من الأصدقاء بل ويتناقلون خبره بينهم سواء كان الهدف هو الدعاء أو الزيارة بينما المضطرب النفسي نجد أهله قبل غيرهم يحاولون جاهدين إخفاء هذا الأمر حتى لا ينتشر هذا الخبر بين الناس.

"ميشيل فوكو" مؤلف هذا الكتاب رمى حجر الجنون في المياه الراكدة وألف كتابه الذي تعايشت معه كتاب صارخ بالجنون "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، ما معنى أن يكون المرء مجنوناً؟ من يقرر الأمر؟ هل هناك حقاً ما يسمى الجنون؟ إلى أي عهد يعود ذلك؟ هذه الأسئلة الثقيلة أجاب عليها فوكو في كتابه، حيث يقول: “اختفى الجذام، وتوارى المصاب به أو كاد لا يتواجد في الذاكرة، إلا أن بنياته ستستمر فستشهد الأماكن ذاتها نفس لعبة الإقصاء (يعني مع المجانين) قرنين أو ثلاثة بعد ذلك، فقد حل الفقراء والمشردون والخاضعون للإصلاح والمضطربين عقلياً محل المصاب بالجذام،وسفينة الحمقىهذه هي إحدى الأساطير في ذلك الوقت وهي تقول أن هناك سفينة غريبة جانحة مليئة بالحمقى تنساب في الأنهار الهادئة، هذه الأسطورة كما يشير فوكو كان لها وجود حقيقي، فالمجانين كانوا يطردون من المدن على ظهر هذه السفن. حين يختفي الجذام في نهاية القرون الوسطى،يقول فوكو أن هذه المدن التي غادرها هذا الاضطراب أصبحت كيانات عقيمة وغير مأهولة! وراحت تنتظر بواسطة وسائل وممارسات سحرية انبعاثاً جديداً للشر ووجهاً جديداً للخوف وطقوساً متجددة للتطهر والإقصاء.

سفينة الحمقى، التي تحدث عنها فوكو هي سفينة لم تصنعها حقائق التاريخ والممارسات الفعلية، بل صنعتها حاجات الخيال الإنساني الذي فتنهُ عالم الجنون فصاغ حوله مجموعة كبيرة من الحكايات، فالتخلص من "المجانين" والإبحار بهم إلى أماكن بعيدة عن المدن الرئيسة، واقع تاريخي لا يُمكن إنكاره، ويشهد على ذلكَ واقع الإقصاء والنبذ الذي تعرض له "المجانين" طوال فترة النهضة وتلكَ التي أعقبتهاإلا أنّ ما يعطي الواقعة قوتها ووظيفتهاالجديدةهي أبعادها الإيحائية وإحالاتها على الأحاسيس التي تسللت إلى الثقافة وصاغت داخلها حدود ضمير يشكو من قلق تجاه عالم المجنون، ها هم المجانين وقد تحولوا إلى كائنات تطاردهم لعنة اللاعقل،يرحلون إلى اللاشيء على ظهر سفينةأصبحَت غريبة عن الأرض التي جاءت منها، ولا تعرف أي شيء عن المرافئ التي تسير نحوها، إنها رحلة غريبة إن لم تأتِ بالمال، فإنها قد تعيد للمجنون عقله كما يقول فوكو!

تشكل هذه السفن حقائق العالم وما نسميه اليوم بالوصمة، وهي أطول عمراً وأشد وقعاً من حيثيات الاضطراب وأعراضه. فهي غير ثابتة الحدود والمعالم والمعارف. إنها تمتد في كل الاتجاهات وتتسلل إلى كل مناطق الوجود الإنساني، لكي يصبح المجنون في النهاية أداة لقياس كل ما هو غير عادي ومألوف؟ "هذا جنون"، حكم يطلق في وجه كل مالا يستقيم داخل منظومة ثقافية أو سياسة أو اجتماعية مسبقة.

تسامي الهذيان؛ فصل جميل من فصول هذا الكتابحيث يبحث في مسألة الروح وموقعها، من مرض الجنون حيث كان هناك في هذا العصر جدل فلسفي حول روحانية الروح أو ماديتها، وهو جدل بين تيارات فلسفية مثالية أو وضعية بارزة في ذلك العصر.

سنكتشف أن "المجانين" يعيشون بيننا،بل إن جزءاً كبيراً من العالم قد فقدوا عقولهم منذ زمن بعيد، فالكثير منا يعمَه في الجنون في غفله من نفسهومن الآخرين فالأبله والغبي والمعتوه والمتخلف والأحمق، هؤلاء جميعاً مجانين في عرف النوزولوجيا (علم تقسيم الأمراض- علوم الأعصاب العامة) الحديثة والقديمة على حدٍ سواء، تماماً كما هو المكتئب والمهووس والسوداوي والهستيري "وهي أقسام "الجنون" الأربعة التي يدعيها الطب النفسي".

خلاصة القول.. في رحلة هذا الكتاب استطاع فوكو أن يشفى من جنونه، وليس عبثاً أنه فهم مشكلة الجنون أكثر من غيره، حولته تجربته الشخصية الحادة إلى مفكر كبير.. إن كلمات فوكو لن تترك أي قارئ إلا وتؤثر فيه أو تبدله لأن هذا الكتاب كان بالنسبة إليه تجربة في الانغماس وسجن الذات في عالم الجنون.

من يقرأ هذا الكتاب.. قارئ أكان، أم باحث أم عالم أم عاشق أم حالم أم طويل أم قصير أم "مجنون" يدرك أن الحقيقة ليست مطلقاً ثابتاً بل هي أثر من آثار الخطاب العلمي الذي يميز بين الحقيقة والزيف، وكل هذا يعتمد كيفية تمكن الشبكات المكونة اجتماعياً مثل المستشفيات ودور العلم والجهات الحكومية والرسمية ودور العبادة والروابط الأسرية من القيام بوظائفها معاً وفي مختلف المراحل التاريخية.. وكلمات فوكو والمواقف التي ذكرها في هذا الكتاب مثيرة للإزعاج، وبذات الوقت لديه إبداع في سد الباب أمام أي نقد يوجه للغة المنطق التي يتحدث بها.

وختاماً، وكما قال فوكو، من يفهم الجنون يفهم كيف يسير هذا الكون...ولكن هو في النهاية مجنون عند الآخرين ...دعوة لأن تمارسوا الجنون بحضرة عقولكم ....فهذا هو فن الحياة الحقيقي!