وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

عبد الرحيم الحاج محمد ... أحد أبرز القادة الكبار للثورة الفلسطينية 1936-1939

نشر بتاريخ: 19/08/2023 ( آخر تحديث: 21/08/2023 الساعة: 17:06 )
عبد الرحيم الحاج محمد ... أحد أبرز القادة الكبار للثورة الفلسطينية 1936-1939

قصة إتّهامه باغتيال الأخوين إرشيد في جنين عام 1938... حقيقة أم تلفيق؟

بقلم: د. رفيق الحسيني

أحياناً، لا يكون من المستحب نبش الماضي، وبخاصة إذا كان النبش سيفتح ملفات ربما يكون من الأفضل تركها مُغلقة ... لكنني وجدتُ نفسي مضطراً للنبش ... ليس من أجل إتهام أحد ولكن من أجل الدفاع عن ثائر مناضل، تم اتهامه بجريمة قتل قبل 85 عاماً، بدون أدلة كافية وعلى طريقة الاشاعة و"القيل والقال"، بجريمة قتل لم يخطط لها أو يرتكبها، مما شكك في نزاهته وأثّر على سمعته وسمعة ثورة فلسطين الكبرى (1936-1939).

كنت في مقال سابق قد أوضحت بالقرائن أن جريمة اغتيال الطبيب الوطني العكي أنور الشقيري عام 1939، كانت على يد البريطانيين وعملائهم، ولكنهم قاموا بإلصاق التهمة بالثوار، فـ"ضربوا عصفورين بحجر"، إذ تخلصوا من طبيب وطني كان يعالج الجرحى من الثوار، وبنفس الوقت أشاعوا أن الثوار هم الذين اغتالوه، فغرسوا روح الكراهية والشقاق بين أبناء الشعب الواحد.

وفي هذا المقال، أود أن أسرد موجزاً عن سيرة القائد البارز عبد الرحيم الحاج محمد، إبن قرية ذنابة، ومن عائلة سيف المحترمة في المنطقة، ودوره في قيادة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، بداية في مثلث نابلس – طولكرم – جنين ومن ثم في كامل شمال فلسطين، وكيفية استشهاده في نهاية آذار/مارس 1939. كما سأقوم – بالدلائل والمنطق - برد التهمة التي لازمته قبل وبعد استشهاده، بأنه أعطى الأمر لاغتيال شخصين بريئين من عائلة إرشيد المعروفة في جنين في منتصف أيار/مايو عام 1938.

ملخص لسيرة القائد عبد الرحيم الحاج محمد

تدرّج عبد الرحيم الحاج محمد في أطر الثورة الفلسطينية منذ العام 1936، حتى أصبح أحد أبرز قادتها، فعمل بداية على تنظيم العمل المُقاوم حول قريته ذنّابة، وتوسّع عمله ليؤسس جهازاً إدارياً للثورة، وآخر استخباراتياً مهمته تقصي المعلومات حول النشاط اليهودي والقوات البريطانية وعملائهما من الفلسطينيين في شمال فلسطين. وبحلول منتصف العام 1938، عينته قيادة الجهاد المركزية في دمشق قائداً عاماً للثورة وكان هناك 12 فصيلاً مُكوناً من مئات المقاتلين يتبعون قيادته.

ومن بين أبرز المعارك التي ارتبطت باسم عبد الرحيم الحاج محمد، معركتا قرية نور شمس (قرب طولكرم) الأولى والثانية (يونيه ويوليه 1936)، واللتان ذاع صيته بعدهما، وكذلك معركة جبل السيد قرب ذنّابة، وثلاث معارك في المنطار في صفد، ومعركة قرية بيت أمرين قضاء نابلس، ومعركة قرية النزلة الشرقية قرب طولكرم، حيث أصيب ونُقل للعلاج في سوريا لأكثر من ثلاثة أشهر.

منذ إلتحاق عبد الرحيم الحاج محمد بالثورة وتنفيذه عمليات ضد أهداف بريطانية، هدمت بريطانيا منزله مرّتين في عامي 1936 و1938، ولاحقت أقاربه ووعدت بجائزة لمن يدل على مكانه. وخلال مقاومته، كان عبد الرحيم يتردد بشكل دوري على دمشق، حيث لجنة الجهاد المركزية وزعماء الحركة الوطنية والقيادة السياسية للفلسطينيين، تارة طلباً للمال والعتاد وتارة أخرى للتوافق على الخطط والأولويات.

وقد تناول المؤرّخ مصطفى مراد الدباغ في موسوعته "بلادنا فلسطين" بعضاً من مناقب القائد الفلسطيني في معرض حديثه عن قريته ذنابة، فقال "إن المجاهد الشهيد ... عُرف رحمه الله بإخلاصه ونزاهته وتديّنه، فكان موضع ثقة الناس ومحبتهم في طولكرم وأطرافها ... حمل أبو كمال السلاح في 1936، وبدأ جهاده ضد الأعداء من إنجليز ويهود، فهاجم مع رفاقه المجاهدين المستعمرات اليهودية، وعمل على قطع الطريق على الجيش البريطاني وتخريب أنابيب البترول والمنشآت العسكرية، فحقق انتصارات باهرة".

استشهاد القائد

في ليلة 27/3/1939، وبينما كانت الوفود العربية تتفاوض مع الهيئة العربية العليا من جهة ومع بريطانيا من جهة أخرى للوصول إلى صيغة حد أدنى لمشروع خطة تُنهي الانتداب، إذ بخبر استشهاد عبد الرحيم الحاج محمد، القائد العام للثورة، في قرية صانور (قضاء جنين) يرد في الأخبار وتمتلئ به صفحات الجرائد العربية والبريطانية واليهودية في الأيام التالية.

تقول الرواية المؤكدة أن عبد الرحيم الحاج محمد غادر فلسطين في مطلع 1939 مُتجهاً إلى دمشق للتشاور مع قيادة الثورة هناك والشكوى من قلة الموارد التي تصله، وبنفس الوقت احضار بعض السلاح والذخيرة والأموال. وفي طريق عودته ولدى صوله قرية صانور قرب مدينة جنين بتاريخ 25/3/1939، وإثر "وشاية"، أطبقت القوات البريطانية الحصار على القرية، مُستعينة بالقوات الجوية ومجموعة من المرتزقة الفلسطينيين من "فصائل السلام". وخلال محاولة الحاج محمد ومُساعديه كسر الحصار في ليلة 27/3/1939، أصابته القوات البريطانية بجراح فاستشهد على إثرها.

بعد شيوع خبر استشهاد الحاج محمد، عمّ الإضراب ربوع فلسطين، وأغلقت المحلات التجارية أبوابها ورفعت الأعلام السوداء. وفي 29/3/1939، تحت عنوان "البلاد تضرب حداداً على فقيد النبل والاخلاص المغفور له عبد الرحيم الحاج محمد" وعلى صفحتها الأولى، كتبت صحيفة فلسطين أنه "قضى أمس القائد الكبير المعروف بسمو أخلاقه وطهارة نفسه المرحوم عبد الرحيم الحاج محمد، وكانت وفاته عقب عمليات عسكرية في قرية سانور"، مُضيفة أن حوانيت الناصرة وطولكرم ونابلس ويافا والرملة وغزة قد أقفلت حداداً وكذلك الحوانيت العربية في حيفا واللد وأخذت أجراس كنائس مختلف الطوائف تقرع دقات الحزن منذ الصباح الباكر ونُعي الشهيد من فوق المساجد. كما قررت الطوائف الأرذودكسية الغاء جميع الاحتفالات التي كانت ستقام ابتداء من أحد الشعانين وحتى يوم 9/4/1939.

وقد صدرت بيانات النعي من إخوانه في مجلس قيادة الثورة ومن القائد عارف عبد الرازق الذي كتب: "في ذمة الخلود أخا حبيبا وكبيراً ... لقد قضى الليث ولكن العرين سيخرج ليوثاً، لا يخيفهم الموت، ولا تردهم المصاعب ..."

ورثاه الشهيد عبدالرحيم محمود قائلاً:

"إذا أنشدت يوفيك نشيدي حقك الواجب يا خير شهيد

لا يحيط الشعر فيما فيك من خلق زاك ومن عزم شديد".

أما الشاعر برهان العبوشي فقد رثاه بقوله:

"عبدالرحيم أما علمت مكانه يا دهر فهو بنا كصحب محمد

يا قائد الثوار يوم كريهة أشعلت للهيجا لظى لم تخمد".

اتهام عبد الرحيم الحاج محمد باغتيال الأخوين إرشيد

كغيره من الزعامات الوطنية التي ناضلت خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، تعرضت شخصية عبد الرحيم الحاج محمد لمحاولات تشوية من قبل الحركة الصهيونية ومن بعض الفلسطينيين المتعاونين مع بريطانيا، كانت أكثرها تأثيراً اتهامه بإغتيال أحمد ومحمد إرشيد بالقرب من قريتهم الكفير، قضاء جنين في أيار/مايو 1938.

ففي 19/5/1938 نشرت جريدة فلسطين خبراً مؤداه أن "خمسة مسلحين دخلوا إلى ديوان آل إرشيد في الكفير وسألوا عن الأخوة أحمد ومحمد وفريد إرشيد"، فأبلغهوهم أن محمد وأحمد موجودان، "فطلبوا 60 رغيفاً من الخبز وكمية من البيض لكي يرسلوها لأفراد زعموا أنهم ينتظرونهم خارج القرية... ولما لم يأت فريد اختلى المسلحون بالوجيهين محمد وأحمد خارج الديوان. ولم يبعدا عن باب الديوان عدة أمتار حتى سُمع من الداخل صوت عيارات نارية، فاستغربوا الأمر وذهبوا ليروا ما حدث، وإذ بهم أمام منظر مؤلم، فقد وجدوا الوجيهين يتخبطان بدمائهما..."

بعد تشييع جثماني الوجيهين في جنازتين مهيبتين، واستقبال الاف المُعزّين، وتلقي مئات برقيات التعزية والمواساة، أصبح السؤال الأكثر إلحاحاً عند الناس، من مُتشددين ومُعتدلين، هو ... من قتل الوجيهين أحمد ومحمد إرشيد؟ ولماذا؟

رواية بعض أفراد عائلة إرشيد

اقتنع بعض أقرباء الفقيدين، لأسباب غير واضحة، أن "الثوار" هم من قتلوا الوجيهين، وأن القائد عبد الرحيم الحاج محمد هو من أمر بقتلهما ومن ثمّ أخذوا بالتحضير للأخذ بالثأر. وبينما كان عدد كبير من عائلة إرشيد منتمياً للحركة الوطنية، كان آخرون يؤيدون حزب الدفاع المُتساوق مع الانتداب البريطاني. وبالطبع، فإن مؤيدو حزب الدفاع من آل إرشيد كانوا الأكثر إقتناعاً بأن الحاج محمد هو من يقف خلف الاغتيال، رغم نفي الأخير تماماً بأية علاقة له بالحادثة من قريب أو بعيد.

رواية الصحافة الفلسطينية

نشرت الصحف العربية الصادرة آنذاك، بما فيها فلسطين والدفاع، خبر اغتيال الأخوين إرشيد في البداية بدون تعليق. ولكن يوسف حنا رئيس تحرير جريدة فلسطين كتب مُعلقاً في 21/5/1938 أن العائلة فقدت "خمسة من أبنائها في سنة 1936، فكيف نُضيف نحن العرب ضحيتين جديدتين من هذه العائلة إلى قائمة ضحاياها سنة 1936؟ ونحن نرجو الله أن يمسح على القلوب فيغسلها من كل فساد، وعلى البصائر فيجلوها من كل صدأ، حتى تسترد الأمة صحة بصيرتها، وتهدأ عاصفتها، فلا تُقدم إلا على الخير، والخير وحده ... وكفى الله المؤمنين القتال..."

وبالرغم من أن يوسف حنا بدا مقتنعاً بما رواه شهود العيان من أن قتلة الأخوين إرشيد كانوا شكلاً من العرب، إلا أنه لم يكن متأكداً من الهوية الحقيقية لهؤلاء ولم يوجه الاتهام إلى الثوار بالتحديد.

رواية الاستخبارات الصهيونية

أما الاستخبارات الصهيونية، فأوردت في أحد تقاريرها تفاصيل مثيرة حول استشهاد الحاج محمد، جاء فيه:

"لما سمع أحدهم من عائلة "ر" [المقصود إرشيد] أن عبد الرحيم الحاج محمد قد سافر إلى سوريا تبعه إلى هناك، حيث صرف أموالاً طائلة وتعقب خُطاه، فعلم متى سيعود، فلما وصل عبد الرحيم إلى صانور بالقرب من سيلة الظهر كان لدى عائلة "ر" جهاز لاسلكي، فخابروا الشرطة بذلك. وصلت قوات الأمن وطوقت القرية. حاول عبد الرحيم اختراق الطوق وكان يحمل مسدساً، ولكن الجيش أصابه بجرح فطلب "ف" [فريد؟] وقف إطلاق النار وتقدم نحو الجريح وسأله هل أنت أبو كمال؟ فقال نعم، فسأله "ف" وهل أنت الذي قتلت أخي؟ فرد بنعم، فسأله "ف" هل لديك ما تقوله؟ ثم أطلق عليه سبع رصاصات وقتله".

ولكن المؤرخ الصهيوني أُوحنا يوفال أورد رواية قريبة من رواية الاستخبارات الصهيونية، ولكن بدون دور لـ"ف"، فكتب أن عبد الرحيم الحاج محمد ترك "دمشق إلى شرقي الأردن في طريقه إلى فلسطين ومعه سليمان أبو خليفة مساعده وحارسه. ووصل خبر وصوله إلى مسامع عائلة "ر" المُعارضة، فتعقبت خطواته حيث أخبر أحد أبنائها الانكليز بأن عبد الرحيم ومساعده سيدخلان منطقة جنين ويناما ليلة 26 آذار [مارس] 1939م في قرية صانور. طوقت وحدة بريطانية القرية وفتحت النار على الإثنين اللذين حاولا الهرب فقُتل كلاهما..."

واعتقادي الأكيد أن قصة الاستخبارات الصهيونية "مُفلفلة ومُبهّرة" كما نقول بالعامية، وبأن ادخال "ف" بالموضوع وبأنه من أطلق رصاصات سبع على القائد الحاج محمد ليس صحيحاً، بل من أجل زيادة تعميق الفراق والشقاق في المجتمع الفلسطيني.

رواية باحثين فلسطينيين

ينقل الباحث مصطفى كبها عن شهود عيان عاصروا أحداث الثورة، أن عمليات الاغتيال استهدفت "الأخوين أحمد ومحمد إرشيد، من قرية صير [الكفير؟] قضاء جنين ... [مع أنهما] عُرفا بمساندة الثورة ومدّها بالمساعدات قبل اغتيالهما". ولكن هؤلاء الشهود لم يربطوا عبد الرحيم الحاج محمد بعملية الاغتيال.

أما الباحث عبد العزيز أمين عرار الذي كان قد أجرى لقاءً مع الشيخ عبد الفتاح المزرعاوي "أبو سواد" - في العام 1994 - في قرية الأخير في المزرعة الشرقية قرب رام الله، فنقل ما قاله المزرعاوي بأنه سمع أن شخصين اثنين جاءا في المساء عند أحمد إرشيد، وقالوا له معانا اثنين جرحى، فخرج مع أخيه محمد لمساعدتهم فأطلقوا النار عليهما خارج البلد، "ووُجهت التهمة لعبد الرحيم الحاج محمد وكلها من تدبير الانجليز"!

وأضاف عرار مُعلّقاً على علاقة الحاج محمد بعملية الاغتيال أن "عملاء الإنجليز، وبعض الحاقدين من العائلات ... اتهموه بأنه كان وراء اغتيال شخصين في منطقة جنين هما محمد وأحمد أرشيد المعروفين بوطنيتهما، ومع أن الشهيد كان نظيفاً من هذه الأعمال وأنكر علاقته وصلته بها ولكن الدس والتخريب طاله هو الآخر ولم يسلم منه."

رواية الحكومة البريطانية

جاء في البلاغ الرسمي البريطاني (نشرته صحيفة البالستاين بوست اليهودية في 28/3/1939) أنه بناء على إخبارية أن جماعة يترأسها عبد الرحيم الحاج محمد موجودة في قرية صانور قرب جنين، طوّق الجنود البريطانيين القرية بمساعدة الطائرات الحربية. وأضاف البلاغ أنه "بينما كان الجنود يقتربون من القرية شوهد بعض العرب يحاولون اختراق الحصار المضروب، وقد قُتل أحدهم بالرصاص، وتبين أنه عبد الرحيم [الحاج محمد] الذي كان يُدعى بالقائد العام للثوار".

ولكن الحكومة البريطانية لم تحاول تشويه سمعة القائد عبد الرحيم، لا قبل اغتياله ولا بعد ذلك ... بل كانت قد أبدت تجاهه، في الاعلام على الأقل، احتراماً غير مسبوق. فقبل اغتياله بثلاثة أشهر، في 9/1/1939، نشرت وزارة الحرب البريطانية تقريراً اعلامياً عن وضع "التمرد" القائم في فلسطين، نشرته صحيفة البالستاين بوست اليهودية بالكامل. وقد إدعت وزارة الحرب أن هدف التقرير "إنهاء حملة الدعاية الكاذبة والمُضخّمة من قبل أشخاص ومؤسسات معادية عن أعمال وحشية تقوم بها القوات البريطانية في فلسطين".

تضمّن التقرير البريطاني نبذة عن عبد الرحيم الحاج محمد جاء فيها:

"ينحدر عبد الرحيم [الحاج محمد] من عائلة جيدة وقد حصل على بعض التعليم، وهو أكثر نزاهة ووطنية حقيقية من الغالبية العظمى من المتمردين [الثوار]. وقد حاول، من خلال مفاهيمه الأخلاقية، أن يدير الحملة [العسكرية] بطرق نزيهة، وهو يكره بشدة الاغتيالات والتهديدات التي شُنّت ضد العرب المُعتدلين المُعارضين لسياسة المفتي. ويحافظ على موقف مستقل إلى حد كبير من الأوامر التي تأتيه من المفتي، وفي كثير من الأحيان يرفض تنفيذها عندما تتناقض مع مبادئه. ولهذا السبب، وكذلك لأنه كانت لديه علاقات مع مُعتدلين في السابق، فإن المفتي ينظرإليه بعين الريبة، ولكنه استبقاه بسبب قدرته الكبيرة على التنظيم، وأيضاً بسبب سمعته الحسنة المعروفة ومبادئه الرفيعة التي تجعله مثالاً رائعاً من أجل الدعاية الخارجية، والتي تحاول تصوير التمرد كحركة نقية ووطنية".

يبدو لي أن "الاحترام" البريطاني للشهيد عبد الرحيم كان "حقاً يُراد به باطل". فقد كانت الحكومة البريطانية تحاول استمالة هذا القائد الكبير (وكان بالفعل نزيهاً وحسن السمعة) للعمل معها، كما حاولت ونجحت مع فخري عبد الهادي في العام 1938. فقد كانت القيادة البريطانية قد تلقّيت تقارير من القنصل البريطاني العام في دمشق (ويُدعى مكاريث) تشيع أن عبد الرحيم الحاج محمد كان مُستاءاً من قيادة الجهاد المركزية في دمشق بسبب عدم وصول السلاح والأموال بانتظام، وصرف الأموال على "المجاهدين" المُقيمين في دمشق بدلاً من صرفها على العتاد والسلاح، وتحميله الحاج أمين مسؤولية ذلك.

من كان يقف وراء اغتيال الأخوين محمد وأحمد إرشيد؟ استنتاجات

ما جاء في نشرة وزارة الحرب البريطانية يؤكد بأنه لا علاقة للحاج محمد أو مسؤولية عن الاغتيالات التي حصلت خلال الثورة، ومنها ضمناً اغتيال الأخوين إرشيد. بل جاء في تلك النشرة الرسمية (بالحرف الواحد) أن الحاج محمد كان "يكره بشدة الاغتيالات والتهديدات التي شُنت ضد العرب المُعتدلين المُعارضين لسياسة المفتي".

ولذلك، فإن كل الأدلة، بما فيها ما قاله أصدقاء عبد الرحيم الحاج محمد وأعداؤه، تشير إلى عدم مسؤوليته عن اغتيال أحمد ومحمد إرشيد!

إذاً ... من قام بالاغتيال؟

برأيي، هناك احتمالان لا ثالث لهما ...

الاحتمال الأول أن تكون مجموعة صغيرة خارجة عن أطر الثورة أو مُنشقّة عنها، بدأت تسترزق من خلال جمع الخوّات من القرى والأشخاص ميسوري الحال في فلسطين، هي وراء الاغتيال. ويمكن أن يكون هؤلاء الذين دخلوا إلى ديوان آل إرشيد في الكفير فطلبوا، حسب ما كتبت جريدة فلسطين، "60 رغيفاً من الخبز وكمية من البيض لكي يرسلوها لأفراد زعموا أنهم ينتظرونهم خارج القرية" هم من أفراد تلك المجموعة المُنشقّة. بل ربما أدّعى هؤلاء أنهم من أحد الفصائل التابعة للقائد عبد الرحيم الحاج محمد، وربما طلبوا مالاً من أحمد ومحمد إرشيد، فلما رفض الأخوان الانصياع، أطلقوا النار عليهما وفرّوا.

أما الاحتمال الثاني، فيمكن أن يكون من إغتال الأخوين إرشيد هم من "فرق الليل" المُستعربة التي أنشأها الضابط البريطاني آورد وينغيت (Orde Wingate) والتي كان أحد أهدافها الأساسية الإيقاع بين الفلسطينيين ضمن سياسة "فرّق تسد".

وقد كان النقيب البريطاني الشاب وينغيت - الذي قدم من السودان في العام 1936 كضابط استخبارات - متديناً لدرجة التطرّف، ومؤمناً بشدة بالنبوءة القائلة بضرورة "عودة اليهود إلى أرض الميعاد"، حتى يعود المسيح مرة أخرى. فطلب من الجنرال ويفل، في بداية العام 1938، أن يسمح له بتشكيل ثلاث مجموعات لقوات ليلية خاصة "مُستعربة" أساسها بعض الضباط البريطانيين ومعهم يهود من قوات الهاغانا وبعض البدو والعملاء، يكون هدفها المعلن "القبض على قطاع الطرق والدفاع عن خط الأنابيب [النفطية القادم من العراق] ..."، أما الهدف الحقيقي، فهو ضرب الثوار ومؤيديهم بعضهم ببعض.

كان الجنرال ويفل متخوّفاً بسبب التديّن الشديد لوينغت، لكنه وافق في النهاية. فاختار وينغت ثلاث مستوطنات يهودية كقواعد لمجموعاته. ويقول موشى دايان الذي كان آنذاك في العشرينيات من العمر وأحد أعضاء الهاغانا الذين استقطبهم وينغيت، أن الأخير خطب بمجنديه اليهود في اجتماعه الأول بلغة عبرية ركيكة حاملاً مسدساً بيد والكتاب المقدس باليد الأخرى.

بدأت الوحدات الليلية الخاصة في شن غاراتها في ربيع 1938. ولكن بعد فترة قصيرة أثبت وينغت أنه قائد متهوّر وخصوصاً في التعامل القاسي مع رجاله وبقسوة أكثر مع العرب الذين يتم اعتقالهم. ولذلك تصاعدت الانتقادات ضد فرق الليل من داخل المؤسسة البريطانية في فلسطين، ليس من طرف المسؤولين المدنيين والشرطة فحسب، بل من العديد من ضباط المخابرات البريطانية الذين اعترضوا على سياسات وينغيت القاسية وأساليبه الحقيرة، مُقتنعين بأنهم بذلك قد استعدوا العرب إلى غير رجعة، إضافة إلى اتفاق ضباط الاستخبارات البريطانية على أهمية عدم استخدام اليهود في تلك الفرق، لأن ذلك أثار بشدة حفيظة الفلسطينيين. وفي خريف العام 1939، ألقى خطبة عامة نادى فيها بتأسيس دولة يهودية، فقررت القيادة العسكرية سحبه من فلسطين وإعادته إلى بريطانيا. ولكن الجيش الاسرائيلي ما زال يُجّل أعمال وينغت إلى يومنا هذا، ويستخدم أساليبه على أساس أنه أول من درّب ميليشيا الهاغانا على حرب العصابات، وهو من علّمهم على الأعمال القذرة التي ما زالوا يقومون بها كـ"مُستعربين". وقد أصبح معروفاً لاحقاً أن وحدات وينغت الليلية كانت – خلال الثورة - تقتل فلسطينيين مُسالمين وتلقي اللوم على الثوار لكي تثير الحقد والكراهية على الثوار.

ولكن ما يمكن تأكيده اليوم أنه لو حوكم القائد عبد الرحيم الحاج محمد بتهمة اغتيال الأخوين إرشيد أمام محكمة عادلة، لحُكم له بالبرائة التامة، وأُغلق الملف لصالحه. لقد رمى ملف اغتيال بريئين بظلّه الثقيل على أحد أنبل قيادات الثورة الفلسطينية الكبرى وأشرفها لأكثر من 85 عاماً. وفي النهاية، دفع أبو كمال حياته جراء وشاية كان حافزها تلك التهمة المزعومة.