وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

وديعة إدوارد سعيد عند محمود درويش

نشر بتاريخ: 30/11/2023 ( آخر تحديث: 30/11/2023 الساعة: 08:54 )
وديعة إدوارد سعيد عند محمود درويش

في حوارية عظيمة جرت بين ادوارد سعيد ومحمود درويش ذات يوم، وضع إدوارد بين يدي محمود وديعته الكبيرة على ما روى الأخير في قصيدة «طباق» التي نعى فيها صديقه كبطل مثلما كان يفعل الإغريق.
«إن مت قبلك أوصيك بالمستحيل».
يسأل درويش إدوارد: وهل المستحيل بعيد، فيرد: على بعد جيل.
رجلين من أعلى قامات فلسطين وأزمنتها ومن علامات العروبة الروحية والفكرية والجمالية، تداولا مصير بلاد ليست كأي بلاد على ظهر البسيطة، ببصيرة كانت تجلس مرتاحة على يقين مصفى من القلق، رغم هول ما جرى للبلاد على أيدي حلف الأعداء البائسين.
كلاهما كان من فلسطين الفكرة والمعنى والمجال. وتمثلها وعاشها كل منهما على طريقته، وبمقدار ما ارتقيا نحو أفقها العالي كانت ترتقي بهما، كوارثين حقيقيين لفكرتها السامية، التي تحيل إلى أعالي الزمن والروح، والشاهد والغيب، والأرض والسماء.
***
منذ زمن بعيد أقام إدوارد سعيد، جبهته العريضة، خلف خطوط العدو الكبير، عدو كان مدججا بترسانة من المفاهيم والسياسات المنحرفة والمشوهة والمعادية لفلسطين، وللعروبة الثقافية الأصيلة، وللإسلام في صورته البهية والعالية، وللمسيحية الشرقية الأصيلة في خياراتها الروحية والزمنية، ومن هناك حارب إدوارد سعيد بروح لا هوادة فيها ولا تراجع، ضد العدوانية الفكرية المتحكمة في موقف الغرب الاستعماري، التي كانت تؤسس وترعى مواقفه وسياساته وعدوانيته الشرسة والقاسية والغبية في آن، التي كانت تفتقد للصواب والأخلاقية معا. وفند على نحو نبيه سوء الفهم المقصود للعرب وللشرق عند الغرب، وخاض ضده معركة ضارية واصلها بشجاعة فكرية وأخلاقه باسلة حتى أخر رمق له في الحياة، بقيت علاماتها بعد موته تقول للوارثين الكثير.
أما محمود درويش فقد حوًل فلسطيين لمغناة الأزمنة ونشيد انشاد العذاب والأمل، وروى كيف استنزفت سيف عدوها بدمها، وبشر بانتصارها القادم في القصيدة، بينما كان يرى انتصارها في الواقع مسألة وقت وثمن، وبنصف بيت من الشعر أطاح بوعي أعدائها ووجدانهم وحولهم «لعابرين في كلام عابر» في يوميات المكان الأعز.
رغم قسوة أحكام الزمن، لم يكن الاثنان بحاجة للبقاء في قيد الحياة، كي يريا بالذخيرة الحية للبصر وكل الحواس صواب النبوءة وما كانت بصيرتهما تراه قبل أن يرحلا.
***
بالتأكيد لم يدر في خلد ووعي أباء وامهات جيل درويش وإدوارد، ولا الجيل التالي لهما بأنهم سيولدون ويكبرون في كنف «تاريخ من العذاب» كان ضاريا في حرمانهم ومنعهم من التمتع بما يسميه فلسطيني من نفس جيلهم- تقريبا- اسمه الياس صنبر « بعادية الحياة وغفليتها» حيث عيش الحياة على نحو عادي وبكثير من الغفلة يرقى لمرتبة الحلم عند من يحرمون منها.
ثلاثة أجيال من الفلسطينيين على الأقل منعت من الحياة، ووجدوا أنفسهم حيال خيارين حادين: المقاومة من أجل استرداد الحياة لعيشها أسوة بباقي عباد الله، أو التلاشي في سياقات الاستلاب.
حلف من الأعداء القساة الذين لا رب لهم في قلوبهم رعى إسرائيل: فكرة ودولة وسياسات ووظائف، وأرغم الفلسطينيين بعد أن جردهم من موطنهم على اختبار البقاء واستعادة الحقوق العادية بالصراع والمقاومة والعذاب، لكنه لم يتمكن من طردهم من الزمن، وظلوا حقيقة راسخة قوية ومتجذرة، واصلت التعبير عن نفسها، بما استطاعت من صبر وجلد وصمود ومقاومة ونجاح وتعثر، وبعد قرن وأكثر من الاقتلاع والتجريد والاستبعاد والنفي، ها هي فلسطين تعود عنوانا للسلم والحرب في الإقليم والعالم وفكرة تساهم في إعادة تشكيل وعي البشر، وها هو شعبها يعود من الغياهب على نحو ملحمي ويسير نحو الإمساك بمصيره داخل أهوال تاريخية شاقة. وها هي وديعة إدوارد سعيد التي وضعها بين يدي محمود درويش، تأخذ طريقها لتصير أمرا يطرح نفسه بقوة في جدول أعمال التاريخ وتصير قيد الإمكان على ما في طريقها من صعوبات وأكلاف.