وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

"المثقف" شاهد ما شفش حاجة!!

نشر بتاريخ: 21/04/2025 ( آخر تحديث: 21/04/2025 الساعة: 11:03 )
"المثقف" شاهد ما شفش حاجة!!

في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية، حيث تُسفك الدماء، وتُهدم البيوت، وتُقتلع الأشجار، وتتبدد الأحلام، يُطرح سؤال لا يقل أهمية عن الأسئلة السياسية والإنسانية والوجودية: أين المثقف الفلسطيني؟ ولماذا يبدو صوته خافتًا، إن لم يكن غائبًا تمامًا، في خضم هذه العاصفة من التحولات والانهيارات؟

إن غياب المثقف الفلسطيني اليوم لا يرتبط فقط بظروف الواقع ومحدودية الحرية، بل هو غياب ناتج عن إشكالية بنيوية في مفهوم المثقف ذاته، وفي الدور الذي أُنيط به عبر العقود. لم يعد الحديث عن المثقف العضوي، أو المثقف الملتزم، أو حتى المثقف النقدي، حاضرًا في الساحة الثقافية الفلسطينية، بقدر ما يهيمن اليوم مشهد من الانكفاء، والتردّد، والتعبير الخجول، بل وأحيانًا التماهي مع خطاب شخصيات محلية ودولية أو مؤسسة دولية تدفع له بعملة الدولار أو التحالف مع أدوات السوق والعولمة.

لقد شكّلت هزيمة عام 1967 لحظة وعي مرير عند المثقف العربي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، إذ انكشفت الشعارات الجوفاء وتعرّى المشروع القومي، فبدأت مرحلة البحث عن الذات، وإعادة التفكير في الأدوات والأدوار، إلا أن ما جرى لاحقًا من انكسارات، من الاجتياح إلى الانتفاضات، ومن الانقسام الفلسطيني إلى التسويات العقيمة، ساهم في إغراق المثقف الفلسطيني في متاهة اللاجدوى، حتى أصبح دوره في بعض الأحيان أقرب إلى “الشاهد العاجز” منه إلى “الفاعل المفكّر”.

ولأن المثقف لا يعيش في فراغ، بل ضمن منظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية متشابكة، فقد أثرت الثورة الرقمية والعولمة النيوليبرالية في إضعاف حضوره أكثر، فتمّت مصادرة المفاهيم، وتبدّلت اللغة، وحلّ خطاب التفاهة والسطحية محل الفكر الجادّ والمعرفة العميقة. لقد أُزيح المثقف من ساحة التأثير لصالح "المؤثر"، وتم تسليع الثقافة وتحويلها إلى محتوى ترفيهي، وأصبح التفكير النقدي ترفًا لا يلقى جمهورًا ولا تمويلاً.

لكن، هل انتهى دور المثقف الفلسطيني؟
الجواب ببساطة: لا.
بل إن الظرف الراهن – بما فيه من نكبات متكررة وتواطؤات دولية وانهيارات داخلية – يضع على كاهل المثقف مهمة أكثر تعقيدًا وخطورة. لم يعد مطلوبًا منه فقط التحليل أو السجال أو الكتابة، بل بات عليه أن يستعيد دوره كصوت الضمير، وصانع المعنى، ومرآة المجتمع، وأن يقدّم مشروعًا يعيد الاعتبار للهوية، والتاريخ، والمستقبل.

المثقف الفلسطيني الحقيقي اليوم هو من ينخرط في معركة الوعي، لا بمنطق الشعارات، بل بمنطق المساءلة النقدية والتفكير المعمّق، من يطرح الأسئلة المؤلمة عن جدوى الصمت، عن حدود المقاومة، عن معنى الهوية في زمن الشتات والانقسام، عن اللغة التي نكتب بها، وعن القيم التي ندافع عنها.

ولعل من المفيد التذكير بأن المثقف ليس نبيًا معصومًا، ولا حاملًا لحقيقة مطلقة، بل هو فرد يُنتج الوعي ضمن تفاعل جدلي مع مجتمعه وسياقه. ولذلك، فإن دعوته للظهور مجددًا لا تعني انتظاره ليأتي من "برجه العاجي"، بل تتطلب خلق مساحات جديدة له، في الإعلام، في الجامعة، في الفضاء الرقمي، ليكون فاعلًا ومؤثرًا لا مجرد متفرج على مشهد الانهيار.

نعم، ما زال لدينا مثقفون فلسطينيون يكتبون ويبحثون ويبدعون، ولكن لا بد من إعادة صياغة العلاقة بينهم وبين الشأن العام، لا بد من تشجيعهم على النزول من صوامع العزلة والانخراط في النقاشات الكبرى، وإعطائهم ما يستحقونه من دعم ورعاية ومساحة، كي يعود المثقف إلى مكانه الطبيعي، كموجّه للبوصلة، وصانع للأسئلة، ومقاوم لكل أشكال الاستلاب والجهل والخذلان.

في النهاية، لا يمكن لمجتمعٍ أن يقاوم الاحتلال والعنصرية والانقسام دون فكر ناقد، ولا يمكن لشعبٍ أن ينهض دون أن يحمي مثقفيه، ويصغي إليهم، ويمنحهم دورهم الحقيقي.
فالمثقف الفلسطيني ليس رفاهية، بل ضرورة، وليس عابرًا، بل محورٌ من محاور الصمود الوطني، والنهضة الثقافية، والبقاء الإنساني.