![]() |
غزة: كارثة إنسانية بين المجاعة والإبادة
نشر بتاريخ: 05/05/2025 ( آخر تحديث: 05/05/2025 الساعة: 18:53 )
![]()
تعيش غزة اليوم واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، حيث يواجه سكانها خطر المجاعة الشاملة والإبادة الجماعية، في ظل صمت شامل يكاد يرقى إلى مستوى التواطؤ . فمنذ بداية الحرب، فرضت إسرائيل حصاراً خانقًا على غزة، شلّ الحياة تماماً، ومنع دخول الغذاء والدواء والماء والوقود. بعد الحصار الإسرائيلي المشدد والشامل على قطاع غزة منذ 2 مارس 2025، تتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل خطير،حيث يستخدم التجويع كسلاح فتاك للإبادة. وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، حُرم أكثر من مليون طفل في قطاع غزة من المساعدات المنقذة للحياة لأكثر من شهرين متواصلين، مما أدى إلى تفاقم سوء التغذية وانتشار الأمراض بين الأطفال . لقد دمّرت الحرب البنية التحتية المدنية بالكامل تقريباً. المستشفيات خرجت عن الخدمة، المدارس أصبحت ملاجئ مكتظة، ومخيمات النزوح تغصّ بآلاف الأسر المحرومة من أدنى شروط الحياة. هذا الوضع الإنساني الكارثي، الذي وصفته الأمم المتحدة بأنه "غير مسبوق"، لا يمكن فصله عن سياسة ممنهجة تستخدم الجوع كأداة حرب ووسيلة للتهجير القسري. غياب السلطة الفلسطينية في مواجهة هذا الانهيار الكامل، والمتسارع نحو نكبة جديدة، تظهر السلطة الفلسطينية عاجزة، بل وغائبة، عن القيام بأي دور فعّال. يبدو أن السلطة قررت النأي بنفسها عن غزة، مكتفية بالتصريحات، تاركةً أهل القطاع للمعاناة والموت، متبنيةً في كثير من الأحيان المواقف التي تُحَمِّل المقاومة مسؤولية الكارثة الإنسانية، في وقت أن المؤسسات الدولية، بما فيها محكمتا العدل والجنائية الدوليتين، تحمل اسرائيل المسؤولية عما يجري في القطاع، وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة . يزداد غياب السلطة ونأيها بنفسها فداحة مع تنامي الحديث الدولي عن “اليوم التالي” في القطاع، حيث تسعى قوى كبرى لإعادة تشكيل الوضع فيه على حساب الوحدة الجغرافية والسياسية للكيانية الفلسطينية. غياب السلطة عن المشهد الميداني يمنح مبرراً لكل من يسعى لتهميشها، ولن تمنحها حكومة نتنياهو دوراً مهماً، بالرغم من كل ما تبذله من جهد في هندسة النظام السياسي، أو حتى إعادة تركيبه . الفتور الشعبي والعونة الغائبة في ظل ما تتعرض له غزة من إبادة، وهندسة سياسة التجويع، سعياً من حكومة الاحتلال كسر الإرادة الجمعية لأهل القطاع، ونشر الفوضي فيه، بينما مخططها الاستراتيجي إلتهام الضفة. فكسر غزة، التي كانت رافعة الوطنية الفلسطينية، يشكل عتلة المشروع الصهيوني لضم الضفة . هنا يبرز السؤال المحوري وهو : أين الضفة الغربية من ذلك؟ أين العونة التي طالما شكّلت ركيزة أساسية للهوية الوطنية الفلسطينية، ومؤشراً ثابتاً لوحدة النسيج الاجتماعي منذ النكبة وبعد احتلال باقي فلسطين عام 1967؟ وأين روح النجدة والتكافل التي تجلّت بأبهى صورها خلال الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1987، حين شكّلت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة نموذجاً فريداً في توجيه الحراك الشعبي، وتنظيم المبادرات الإغاثية والمقاومة المدنية رغم سطوة الاحتلال؟ اليوم، تغيب هذه الروح، أو تكاد، في مشهد تهيمن عليه القطيعة والانكفاء. الشعب لم يتغيّر في جوهره، لكن السياق تغيّر. الضفة تعيش تحت حصار مزدوج: قمع إسرائيلي ممنهج يخنق كل محاولة للتحرك، ويلاحق حتى المبادرات الإنسانية، يقابله تقييد من السلطة الفلسطينية التي تفتقر إلى أي رؤية تحشد الطاقات أو تعبّئ الجماهير. و على عكس القيادة الموحدة للانتفاضة التي استمدت شرعيتها من الشارع الفلسطيني، تبدو القيادة الراهنة للسلطة غارقة في الحسابات السياسية والعلاقات الإقليمية، بعيدة عن نبض الناس وهمومهم اليومية. الانقسام السياسي عزّز هذا التباعد، وأضعف الشعور بالانتماء إلى مشروع وطني جامع. فقد تفككت الأطر الجماهيرية والمنظمات الشعبية، وغابت البنى التنظيمية التي كانت تؤطّر المبادرات وتحوّل التضامن إلى فعل منظم. كل ذلك في ظل اقتصاد مأزوم، وبطالة مرتفعة، وشعور عام بالإحباط وفقدان الأمل. ورغم كل شيء، لا تزال جذوة العونة كامنة في الضمير الجمعي، تظهر في مبادرات شبابية متناثرة، وفي محاولات فردية لكسر جدار الصمت. ما ينقص هو القيادة التي، قبل أن تحكم، تُلهِم وتوحّد، وتعيد الاعتبار لقيم التضامن الفعّال كأداة مقاومة وكرامة، لا كفعل رمزي عابر. ففي غياب ذلك، يُخشى أن يتحوّل الصمت من عجز إلى تواطؤ، ومن حياد إلى شراكة في الجريمة.
على الجانب العربي، تبدو المواقف باهتة إلى حد مؤلم.الشارع العربي غاضب، لكن الأنظمة اختارت التذرع بالعجز. لقد تراجع الموقف العربي من نصرة القضية الفلسطينية إلى التفرج على الإبادة، أو في أحسن الأحوال، المناشدة عبر بيانات رسمية لا تُطعم جائعًا ولا تُنقذ مصابًا. المجتمع الدولي: ازدواجية المعايير أما المجتمع الدولي، فقد أثبت مرة أخرى ازدواجية معاييره. بينما يسارع في إدانة أي مقاومة فلسطينية، يتباطأ في الضغط على إسرائيل رغم وضوح الجرائم التي ترتكبها بحق المدنيين. القرارات الدولية، إن صدرت، تبقى بلا آلية تنفيذ. وحتى الجهود الأممية الإنسانية تُقيّدها إسرائيل، دون ردّ حاسم من الأمم المتحدة أو الدول الكبرى. الصمت الدولي عن المجاعة، والقصف العشوائي، والتطهير العرقي، يُعتبر تواطؤاً مع الاحتلال. وفي ظل هذا التواطؤ، تفقد منظومة القانون الدولي مصداقيتها، ويُترك الفلسطينيون وحدهم في مواجهة آلة حرب بلا رادع. هذا كله رغم استمرار الانتفاضة الشعبية الكونية، والتي أظهرت على مدى ما يزيد عن عام ونصف انحيازها للقيم الأخلاقية، ولكنها لم تحدث اختراقاً في السياسة الدولية بقيادة واشنطن التي ما تزال، ليس فقط منحازة لاسرائيل، بل وشريكة في جريمة الابادة الجماعية ومخططات التطهير العرقي. مسؤولية جماعية في مواجهة الجريمة ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل جريمة مستمرة ضد الإنسانية. والمأساة لا تكمن فقط في القصف والتجويع، بل أيضًا في سكوت من يُفترض بهم أن يتحركوا: السلطة الفلسطينية التي فقدت زمام المبادرة، الدول العربية التي تخلّت عن دورها التاريخي، والمجتمع الدولي الذي اختار تجاهل الكارثة. الفرصة الأخيرة، لمنع نتنياهو من تحويل حرب الابادة إلى حالة دائمة معتادة، تكمن في كيفية استثمار زيارة ترامب للمنطقة، وخاصة السعودية وعدد من دول الخليج، وتركيا. هل سيكون بالإمكان قبل أو أثناء الزيارة، انطلاقاً من المصالح المتبادلة، دفع ترامب لإلزام نتنياهو بوقف الحرب، بعد أن عطل استكمال صفقة يناير؟ فإنجاز الدول العربية والإسلامية لمثل هذا الأمر ، سيعطي مصداقية ملموسة للجهود السعودية في إنشاء تحالف يدعم تنفيذ حل الدولتين، سيما إذا ترافق مع جهود جدية لتوحيد الحالة الفلسطينية في سياق توافق وطني يتحمل فيه الجميع مسؤولية إنقاذ غزة. الزمن في غزة يبدو لأهلها وكأنه توقف بفعل سواد اللحظة، حيث يترك فيها الأطفال والنساء والشيوخ للموت، و لكثيرين منهم يتساوى هذا الموت إن لم يتفوق على معنى الحياة، التي يموت الناس فيها جوعاً وقهراً. فهل يصحو الضمير في نهاية النفق الذي بات يبدو بلا ضوء في نهايته ؟! |