![]() |
في الذكرى الـ«77» للنكبة صراع قومي أم ديني؟.
نشر بتاريخ: 14/05/2025 ( آخر تحديث: 14/05/2025 الساعة: 11:09 )
![]()
يحيي الشعب الفلسطيني ذكرى النكبة الـ«77» في ظروف مستجدة من البطش الغير مسبوق وارتكاب مجازر يومية لا تتوقف، تقوم بها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة بهدف تهجير ما تبقى من شعبنا الصامد على أرض الوطن وتصفية القضية الفلسطينية، لم تكن النكبة ماض أسود في تاريخنا وذكرى أليمة تحكي قصة خيام اللجوء فحسب، بل امتدت إلى الحاضر، وأنتجت أزمات كبرى على المستوى المعيشي الاجتماعي والوجودي القومي لمجمل أبناء شعبنا. شملت النكبة الأولى عموم الشعب الفلسطيني، واستمرت حاضرة في حياته وحياة أجياله، ومن المتوقع أن تستمر طالما لم يُحلّ جوهر الصراع الفلسطيني الصهيوني، وهو حق العودة، واليوم لا نقف عند الذكرى كما نقف على الاطلال، بل نستخلص الدروس، ونقارن بين المراحل أو بين مرحلتين تاريخيتين، بين فصول النكبة وحربها الممتدة على مدى ثلاثين عاماً، وبين 77 عاماً من الشتات والثورات، في الأولى كان للاحتلال البريطاني الدور الأساسي في إحداث النكبة بإصراره على تنفيذ وعد بلفور المشؤوم، بكل الوسائل البشعة التي يتقنها المستعمرون، فكانت هزيمتنا مرة وقاسية في الـ«48»، أعقبها هزيمة أخرى مريرة في الـ«67» بدعم أمريكي كبير، وبالهزيمتين احتُلت كامل أرض فلسطين التاريخية، وفي المرحلة الحالية يعيش سكان غزة نكبة جديدة، لكن صمود المقاومة سيحولها إلى نصر يشكل انعطافاً نحو نهاية هذا الكيان، بالرغم من الدعم المطلق من الامبريالية الأميركية. يتفق كثيرون أن في أوروبا نشأت الأيديولوجيا الصهيونية، وقامت حركتها السياسية، حيث كانت الطوائف اليهودية الأوروبية تعيش في غيتوات يتعرضون للاضطهاد في مجتمعات تتسم بالتعصب الديني، بينما ساد الفكر الغيبي الأسطوري لدى الطوائف اليهودية في الشرق، وبقيت فكرة الخلاص وقدوم المخلص في إطارها الديني، ولم تنتقل مع الأساطير التوراتية إلى التوظيف السياسي. كذلك انتشرت معاداة السامية وكراهية اليهود، وتطورت في أوروبا، حيث سادت أشكال التعصب والعنصرية على مدى قرون، وعاش اليهود كأقلية مضطهدة باعتبارها خطراً على المجتمع الذي يعيشون فيه، على عكس ما كان الأمر في الدول العربية والإسلامية حيث عاشوا كجزء من السكان الأصليين قبل نشوء الحركة الصهيونية، وعند نشوئها استغلت الحركة الصهيونية الهولوكوست ومعاداة السامية أبشع استغلال لتبرير مجازر عديدة قامت بها إسرائيل للتخلص من الشعب الفلسطيني بالإبادة والتهجير، حيث يتم تصنيف أي انتقاد لإسرائيل وممارساتها القمعية بحق الشعب الفلسطيني ضمن معاداة السامية والكراهية لليهود. بلغت معاداة السامية ذروتها في التمييز والعنف ضد اليهود خلال محاكم التفتيش في اسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفي جرائم معسكرات الإبادة التي ارتكبها النازيون في الفترة 1933 إلى 1945، للتخلص من السكان اليهود في أوروبا. وانتهجت روسيا القيصرية سياسة إقصائية تجاه اليهود في محاولة لتحويلهم إلى الأرثوذكسية دين الدولة الرسمي، وكان اغتيال القيصر ألكسندر الثاني 1881 السبب الرئيسي وراء ارتكاب العديد من المذابح، وبقيت القيود على اليهود زمناً طويلاً، ونشأت هناك في النصف الثاني من القرن الـ« 19» منظمة «أحباء صهيون» تدعو إلى الهجرة إلى فلسطين، مشكلة البذور الأولى للحركة الصهيونية، وتبلورت الفكرة الصهيونية المعاصرة في كتاب «الدولة اليهودية» لتيودور هرتسل الذي تزعم الحركة الصهيونية في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بال في سويسرا عام 1897. لقد حاولت الامبريالية البريطانية والصهيونية تضخيم الأحداث والثورات الفلسطينية في فترة الانتداب، لتخدع الرأي العام أن الصدام بين العرب واليهود عنصري ديني، وإظهار اليهود كحمل وديع، وما العرب إلا ذئاب متوحشة، ويمكن القول في هذه الناحية أن الصراع بدأ قومياً، ثم ظهر وكأنه صراع ديني بفضل التحريض الاستعماري البريطاني والصهيوني والفتن التي دبروها، وانخدع بنتيجتها من انخدع من وجوه إسلامية بارزة، ساهمت هي أيضاً بدورها في تضليل فئات شعبية كان يسودها الأمية والجهل، إلا أن ومنذ بداية الثلاثينات من القرن الماضي بدأ يبرز وعي قومي لطبيعة الصراع، يتمثل ذلك في ثورة الشيخ عز الدين القسام، رغم أنه ذو شخصية وثقافة إسلامية، لكنه وأنصاره أدركوا أن المعركة هي مع الامبريالية البريطانية والصهيونية، لا مع اليهود، لكن ربما يكون هذا الوعي قد فات أوانه في أواسط الثلاثينات حيث تحولت غالبية اليهود الرافضين للفكر الصهيوني إلى مؤيدين لمشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. لقد كانت اضطرابات فلسطين وانتفاضاتها وثوراتها ناشئة مباشرة عن السياسة البريطانية الصهيونية التي ترمي إلى إخفاء القومية العربية في وطنها الطبيعي لكي تحل محلها قومية يهودية مصطنعة بتحويل طائفة دينية إلى قومية. بدأت المواجهة الأولى مع نظام الانتداب في رفض الحركة القومية الموحدة في سوريا الطبيعية، الاحتلال، ووعد بلفور، ومطامع الصهيونية، والتجزئة، ولا يمكن فصل الحركة العربية في فلسطين عن الحركة القومية العربية في العالم العربي التي طالبت باستقلال سوريا المتحدة من طوروس إلى رفح بكل طوائفها واثنياتها، واليهود العرب من بينهم. في 27/1/1919 عقد القوميون العرب من فلسطين المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس، وفي 15/5/1920 عقد القوميون العرب من فلسطين مؤتمرهم الثاني في القدس، أكدوا خلالهما تمسكهم بوحدة سوريا الطبيعية ورفضوا المشروع الصهيوني، ونادوا بالاستقلال، وبرز التنظيم القومي الفلسطيني في المؤتمر الفلسطيني الثالث الذي انعقد في حيفا في14/12/1920 بعد معركة ميسلون وانهيار الحكومة العربية في دمشق، وكان عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع الناشئ، ويكيف النضال القومي حسب الأوضاع الجديدة، وانتخب المؤتمر لجنة تنفيذية برئاسة موسى كاظم الحسيني، كانت بمثابة قيادة الحركة القومية في ذلك الحين، ووضع المؤتمر الفلسطيني الخامس ميثاقاً بقي دستور الحركة الوطنية الفلسطينية عبر مسيرتها. مع ذلك ظهرت القومية العربية وكأنها ضد اليهود لا الأمبريالية البريطانية والحركة الصهيونية، حين نشب صراع فلسطيني- فلسطيني استخدم فيه الدين لإضعاف الخصوم، وأدخل الدين عنصراً في الحركة القومية العربية أدى إلى تقاطب اجتماعي حول عائلة الحسيني وأنصارها، وعائلة النشاشيبي وأنصارها، فالمجلس الإسلامي الأعلى اتصل مع الفلاحين، أما رئاسة بلدية القدس فكانت وثيقة الاتصال بالتجار وأصحاب المهن الحرة، فالتف حولها أعضاء بلديات أخرى متصلة بأهالي المدن، وأصبح يستساغ أن يكون لمن يعقد صداقة مع الإنكليز ويروج لمطالبهم أن يكون له شأن في الحركة القومية العربية إذا كان مناوئاً لليهود، وحتى العام 1929 واصلت الحركة القومية العربية نشاطها السياسي على شكل مؤتمرات ووفود تحج إلى لندن، وتحاول إقناع المسؤولين فيها بعدالة القضية الفلسطينية الذين تظاهروا بتأييد العرب ضد اليهود. لقد تم تزييف النضال الفلسطيني في تلك الفترة حول حقيقة الحركة القومية العربية في فلسطين وتصويرها تصويراً عنصرياً بتضخيم الصدامات بين العرب واليهود، بالادعاء أن العرب أعدوا مجزرة لليهود في العيد الإسلامي موسم النبي موسى، وصدام القدس الذي وقع في 4 نيسان/ابريل 1920 كان لأسباب عديدة لا تمت للعنصرية بصلة، فالجماهير العربية كانت تتوق إلى الاستقلال، وترغب في تقرير المصير في سوريا الطبيعية، وتتخوف من الوطن القومي اليهودي. الجمهور الفلسطيني ما بين عمال وفلاحين وأرباب العمل وأصحاب المهن تأثرت ظروفهم المعيشية بطبيعة الصراع، الأولى: الطبقة العاملة العربية نمت تنظيمياً، حيث عقد مؤتمر العمال العرب الأول عام 1930، الذي أكد على طابع حركة التحرر القومي العربي المعادي للامبريالية والصهيونية. لكن المنظمة النقابية اليهودية، والصهيونية الطابع، كانت تدعو لـ«احتلال العمل» وطرد العمال العرب من الأشغال التي يملكها يهود، وتوفير فرص عمل أكثر لاستيعاب المزيد من المهاجرين اليهود الجدد، وتحولت الهستدروت من أداة العمال اليهود في النضال الطبقي إلى أداة لتنفيذ سياسة العمل العبري، واحتلال العمل من العمال العرب الأرخص أجراً، ومن هنا أصبح الهستدروت أداة ممارسة المخطط الصهيوني الأساسية، في أول أيار/ مايو 1921 في يوم عيد العمال العالمي اشتعلت الصدامات في يافا، بسبب الاحتجاجات على كثرة المهاجرين الذين يزاحمون المحليين، تزايد أعداد اليهود ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه في نهاية الحرب العالمية الأولى، ترافقت سياسة مبدأ العمل اليهودي في الاقتصاد اليهودي، مع سياسة الإدارة البريطانية في تفضيل العمال اليهود على العرب، مما أثار شعور النقمة لدى العامل العربي، حيث برز التعاون بين مؤسسات احتكارية أجنبية والبرجوازية اليهودية وأعطيت امتيازات لشركات يهودية، تحرص على تشغيل العامل اليهودي دون العربي، مثل شركة توليد الطاقة الكهربائية ومشروع بوتاس البحر الميت، كانت هذه التطورات عاملاً في حوادث عام 1929 حيث قامت الامبريالية البريطانية بلعب دور خبيث بتأجيج الاحتراب بين اليهود والعرب. الثانية: إفقار الفلاحين وطردهم من أرضهم بذريعة عدم حيازتهم على صك ملكية، أسهمت سياسة امتلاك المنظمات الصهيونية الأراضي الزراعية وإجلاء المزارعين العرب منها في ازدياد عدد الفلاحين المعدمين، وتضاعفت مساحة الملكيات اليهودية من الأراضي الفلسطينية، جراء تدفق الأموال اليهودية بغزارة، وإنشاء الكيبوتسات المخصصة فقط لعمل الشاب اليهودي، وتم طرد عائلات من أرضهم، يضاف إلى ذلك نمط الحياة الزراعية باعتبارها نمط حياة اجتماعية مرتبطة بنظام المرابعة ساهمت في استمرار عملية إجلاء الفلاحين العرب عن الأراضي التي باعها الإقطاعيون للهيئات الصهيونية، مثلما حدث في «صفقة سرسق» لبيع أراضي مرج ابن عامر أكثر مناطق فلسطين خصوبة، وأُجبر الفلاحون الفلسطينيون على مغادرة أرضهم وبيوتهم التي عاشوا فيها أب عن جد . الثالث: نمو البرجوازية العربية الفلسطينية البطيء، واكتشافها أن الطريق مسدود أمامها بسبب الامبريالية والصهيونية. كان هذا عامل موضوعي للتحول في الحركة القومية العربية، حرّكت قوى وطنية، وساعدتها على الرؤية الصحيحة، وأضعفت الطابع الديني ووجهت النضال في المرحلة الجديدة ضد الإنكليز باعتبارهم المسؤولين عن السياسة التي ترمي إلى استلاب حقهم في تقرير المصير. في رسالة وصفها الفلسطينيون بالسوداء، وألغت مفعول الكتاب الأبيض حول تطوير الحكم الدستوري، وتقليص الحكم الامبريالي المباشر، وجهتها الحكومة البريطانية إلى حاييم ايزمن بتاريخ 13 شباط/فبراير 1931، وادعت أنها تفسير للكتاب الأبيض لا غير، عملت هذه الرسالة عملها في القوى السياسية الفلسطينية، إذ برز تيار يُغلّب الطابع الإسلامي، ويضفي على الصراع لوناً دينياً، بحيث ينزع الصراع القومي للتحول إلى صراع ذي طابع ديني، يرى أن الصراع صراع حصري بين اليهود والعرب، ولا يرى المعركة الجوهرية بين الحركة القومية والإمبريالية البريطانية التي توظف الصهيونية لمقاصدها، عقد هذا التيار المؤتمر الإسلامي العام الأول في القدس في 7 كانون الأول/ ديسمبر 1931 وجمع ممثلين من أكثر من 20 قطراً لا ينتسبون إلى حركة عامة، ركزت قرارات المؤتمر الاسلامي العام على تنمية التعاون بين المسلمين، وحماية المصالح الإسلامية وصيانة المقدسات، وإنشاء جامعة تعمل على توحيد الثقافة الاسلامية، وحاول إخضاع اليقظة القومية العربية لفكرة الجامعة الإسلامية الرجعية، وتجاهل نداء الجماهير العربية في فلسطين من أجل الاستقلال، فذهبت قراراته العملية أدراج الرياح، مثل: إقامة الجامعة الإسلامية في القدس، إقامة شركة لإنقاذ الأراضي العربية في فلسطين، وتأسيس شركة زراعية كبرى يشترك فيها العالم الاسلامي. انسحبت العناصر الواعية وبدافع اليقظة العربية من ضيق أفق هذا المؤتمر، لتعقد مؤتمراً لها قررت فيه سيادة العامل القومي العربي. بادر عناصر ينتمون إلى الحركة القومية العربية العامة «جمعية الفتاة العربية» في شهر آب/ أغسطس 1932 إلى تأليف حزب الاستقلال أول حزب فلسطيني، يدعو إلى مكافحة الاستعمار وما جره من نكبات والابتعاد عن السياسات المحلية والشخصية والعائلية، ورغم فشله التنظيمي إلا أنه استنفر النشاط الثوري، وانفجر هذا النشاط بهبة عام 1933 المعادية للامبريالية البريطانية. امتدت التظاهرات التي اندلعت في العام 1933 على مدى ستة أسابيع وشملت القدس وسائر المدن الفلسطينية، وكانت تعبيراً مجسداً عن نضالية الجماهير ووعيها، امتازت بالثورية وتحدي قوى القمع الاستعمارية، اصطدمت بقوات الأمن الانتدابية، وأسفرت عن وقوع العديد من الشهداء، واشتركت النساء فيها بشكل واسع، مما يدلل على عمق التحسس الشعبي بقضية الحرية التي حركت مختلف فئات الجماهير. لقد تأسست أحزاب فلسطينية كانعكاس لفعاليات هبة 1933، فبعد هذه الهبة تأسس حزب الدفاع الوطني برئاسة راغب النشاشيبي وانتهج سياسة المهادنة مع الامبريالية البريطانية وهو يمثل البرجوازية المدينية الناشئة وكبار الموظفين، وفي 24 نيسان 1935 تأسس الحزب العربي الفلسطيني وقادته من عائلة الحسيني ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني ويمثل الإقطاعيين وكبار تجار المدن، عمل على نشر نفوذه بين الفلاحين تحت شعارات تمزج بين الدين والقومية، أما حزب الكتلة الوطنية، وحزب الإصلاح، فأعلنا غايتهما في استقلال فلسطين ضمن الوحدة العربية، هذه القيادات لم تكن متمرسة بالنضال الاستقلالي، ولم تكن مسلحة بالعقل التنظيمي، وهذا التعدد الحزبي كان شكلياً، ولم يعبر عن الخارطة الطبقية تعبيراً صادقاً، فالأكثرية الساحقة من الجماهير لم تكن ممثلة فيه. وحده الحزب الشيوعي الفلسطيني ضم في صفوفه عرباً ويهود، ودعا إلى النضال ضد الامبريالية البريطانية والصهيونية، ويرى أنهما في جبهة واحدة، ودعا الجماهير اليهودية إلى تأييد هذا الكفاح باعتباره يعبر عن مصالحها الحقيقية، إلا أن الفكر الصهيوني كان أسرع وأوسع انتشاراً في الأوساط اليهودية. الأهم من كل هذه الأحزاب، ظهور تنظيم سري يؤمن بالثورة المسلحة ويعد لها، يعتمد على الفئات الشعبية، ويعمل بين العمال والفلاحين، تشكّل في عزلة عن القيادة القومية التقليدية، وكفر بأساليبها، ورأى أن العدو الجوهري هو الانتداب البريطاني، ولم يخلط بين الصهيونية واليهود، كشف عن هذا التنظيم السري المعركة الحامية التي جرت في جبال جنين، واستشهد خلالها الشيخ عز الدين القسام الذي مثل بسوريته وأزهريته ونضاليته العامل الديني والوطني والعربي، وقد شكّل استشهاده حدثاً بارزاً لا يمكن تجاهله، خلال وعقب تشييعه اندلعت موجة مظاهرات دلت على توثب الجماهير الشعبية، واستعدادها الثوري، وكان محركها مجموعة منظمة ممن يسمون القساميين الذين لعبوا دوراً هاماً في إشعال ثورة 1936، فقد كانت حركة القساميين نقطة انعطاف لعبت دوراً مهماَ في تقرير شكل متقدم من أشكال النضال، ووضعت زعامات الحركة الوطنية التقليدية المشتتة أمام امتحان لا يمكن الفرار منه، وأمام تحدٍ، ما لم يركبوا الموجة الشامخة التي فجّرها القسام، مما أرغم القيادة الفلسطينية على تبني الكفاح المسلح، بعد أن تعمقت حالة الاستعمار، وتحولت إلى حالة استعمار إسكاني صهيوني وصلت إلى ذروتها في أواسط الثلاثينات، وتصاعد خلالها العنف اليهودي والعنف الاستعماري. حسب رأي اللجنة الملكية البريطانية، لجنة بيل، أن انفجار ثورة العام 1936يعود لسببين رئيسيين: رغبة العرب بنيل الاستقلال القومي، كرههم لإنشاء الوطن القومي اليهودي وتخوفهم منه، وذكرت اللجنة أسباباً ثانوية أخرى، أما قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية فيمكن استنتاج أسباب الثورة من الشعارات الثلاثة الأساسية التي كانت تتوج بها مجموع مطالبها: 1- الوقف الفوري للهجرة اليهودية. 2- حظر نقل ملكية الأراضي العربية إلى اليهود. 3- إقامة حكومة ديمقراطية يكون النصيب الأكبر فيها للعرب وفقاً لغالبيتهم العددية. هددت ثورة 1936 وجود الاستعمار البريطاني على أرض فلسطين قبل أن تنجز كامل دورها في تمكين المشروع الصهيوني، وأظهرت الثورة أن الانتداب لم يعد يصلح لمواصلة تحكمها في فلسطين، وأن ضمان وجودها بادعاء حماية مصالح الجانبين، وأن مصلحتهم تكمن في التقسيم كحل لنزاع طائفي، بقيام دولتين، قبل اليهود فكرة التقسيم ورفضها العرب. قرار تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة عربية، وتدويل القدس، كان سبباً هاماً في إكساب الصراع طابعاً دينياً، حيث تم ضم مناطق إلى الدولة اليهودية، اليهود فيها ليسوا أغلبية، أعطى القرار العصابات اليهودية المسلحة الضوء الأخضر للاستيلاء عليها والقيام بالتطهير العرقي للسكان غير اليهود باقتلاعهم من أرضهم بالتهجير والمجازر الوحشية. وصف بعض المؤرخين الحرب التي اندلعت مباشرة بعد صدور قرار تقسيم فلسطين عن الأمم المتّحدة في 29 تشرين الثاني 1947 وحتى غاية 15 أيار 1948 قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، هذه المرحلة وصفوها بأنها حرب أهلية أو طائفية بين الميليشيات اليهودية والفلسطينية، تحولت بعد إعلان قيام دولة إسرائيل إلى حرب عربية إسرائيلية، الكيان الذي أعلن في 14 أيّار 1948 قيام «دولة إسرائيل» من خلال ما دُعي بوثيقة استقلال إسرائيل التي برّرت هذا الإعلان بمزاعم تاريخية تتحدّث عن صلة الشعب اليهودي بأرض أجداده في أرض إسرائيل، وبمبررات تخلص إلى حق الشعب اليهودي في أن يكون له دولته المستقلّة شأن شعوب العالم، كما واستند إعلان الاستقلال هذا إلى ما اعتبره حججاً قضائية وقانونية ودولية كان من أهمّها وعد بلفور. لم يكن إعلان الاستقلال الإسرائيلي عام 1948 بمنزلة دستور، ولكنّه كان وثيقة تأسيسية وضعت الأساس القانوني لقيام إسرائيل. ومنذ هذا التاريخ دلّت الممارسات الإسرائيلية على أرض الواقع منذ النكبة وإعلان قيام دولة اسرائيل سنة 1948، على الوجه الحقيقي العنصري للدولة العبرية الصهيونية. وفي 19 تموز/ يوليو 2018 صدر قانون الأساس الذي اعتبر إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، طابعها يهودي ولغتها الرسمية هي العبرية، والعديد من بنود القانون هي المبادئ ذاتها التي جاءت في وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل في شهر أيار/ مايو سنة 1948، جعلها مكتوبة في قانون أساسي يؤكد أن المشروع الصهيوني من جذوره هو مشروع عنصري يقوم على الانتماء الديني اليهودي، يضمن الديمقراطية لليهود فقط دون عرب الـ«48»، أثار القانون جدلاً واسعاً خاصة فيما يتعلّق بحقوق الأقليات غير اليهودية، فقد حصر هذا القانون ممارسة حقّ تقرير المصير في «دولة إسرائيل» بالشعب اليهودي وحده، وينكر أن شعبين يعيشان على هذه الأرض، لكل منهما الحق في تقرير المصير، مما يديم الصراع ويصبغه بالطابع الديني، وحدد طبيعة النظام الدستوري لإسرائيل، وطبيعة إسرائيل كدولة قومية لـ«الشعب اليهودي»، هو قانون لليهود فقط دون غيرهم من المتواجدين الباقين على أرض فلسطين، يُعرِّف إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، وأن الهجرة التي تؤدي إلى المواطنة المباشرة هي لليهود فقط، وتكون الدولة مفتوحة أمام قدوم اليهود ولمّ شتاتهم، بينما يمنع حق العودة للاجئين الفلسطينيين المهجرين من بيوتهم بفعل الإرهاب الصهيوني، وأن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية في إسرائيل، وتنكر اللغة العربية كلغة لعدد كبير من الناطقين بها، وقال أحد أبناء الطائفة الدرزية: القانون الجديد «صورة طبق الأصل للتعامل اليومي المتبع في إسرائيل تجاهنا الدروز وتجاه سائر العرب» حتى أن إسرائيليين يساريين وبعض الوسطيين اعتبروا القانون معادياً للديمقراطية وعنصرياً لعدم ضمانه لنفس الحقوق لجميع المواطنين. وبعضهم اعتبره ضاراً ولا داعي له لأنه يكشف الطبيعة العنصرية لهذا الكيان. وقالوا: إنهم يعارضون «مشروع القانون المقترح بصرف النظر عن حقيقة اتفاقنا بالطبع حيال كون إسرائيل أمةً للشعب اليهودي. إن هذا مقترحٌ خطير ولا لزوم له، وسيتسبب على الأرجح في زعزعة التوازن الدقيق القائم بين القيمتان الأساسيتان للدولة اليهودية والديمقراطية»، قانون الدولة القومية أثار سخط المسيحيين والمسلمين والدروز، لما ينطوي عليه من إقصاء لكل من هو غير يهودي، مما تسبب بتقديم 3 نوّاب دروز استئنافاً ضد القانون المذكور، تزامناً مع حملة احتجاجات أطلقتها المراجع الروحية والفاعليات في القرى الدرزية. وتساءل من خدم في الجيش الإسرائيلي، وخدم هذا الكيان عما حصل عليه، فقد أصبح مواطناً من الدرجة الثانية، إن لم يقتلع من أرضه وبيته، كما حصل مع سابقيهم من الفلسطينيين غير اليهود. يشير القانون إلى طبيعة الصراع كونه صراعاً دينياً، وكل من خدم في الجيش الإسرائيلي من غير اليهود يصبح مرتزقاً، ولإسكات وامتصاص نقمة وغضب أصوات من الطوائف الأخرى على هذا القانون قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رشوة عبر إقرار قانون أساس جديد يُمنح بموجبه المسرّحون من الخدمة الأمنية الإلزامية، امتيازات إضافية، من ضمنها «تسهيلات كبيرة» في شراء شقق سكنية والحصول على مناصب حكومية. في الأوساط غير اليهودية طُرح الرد على تشريع القانون، بعرض القضية على المحافل الدولية، واقترح نواب القائمة المشتركة، وعددهم 13 نائباً من أصل 120، الاستقالة الجماعية من الكنيست، ومنها أيضا ًالشروع ببرنامج نضال جماهيري يشمل مظاهرات واعتصامات وإضرابات، أدى قانون يهودية الدولة إلى مواجهات دامية اندلعت بين فلسطينيي الداخل والمستوطنين الإسرائيليين الذين تحميهم الشرطة الإسرائيلية، وسُمح بفلتان قطعان المستوطنين، قادة صهاينة قدروا أن هذه المواجهات وفقدان السيطرة على مدن مثل اللد لا تقل خطورة عن صواريخ غزة بل هي أخطر.
راجع كتاب «من الانتداب إلى النكبة» من سلسلة «دليل المعرفة» التي تصدر عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف». |