وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الحرب على الحرب

نشر بتاريخ: 07/06/2025 ( آخر تحديث: 07/06/2025 الساعة: 09:46 )
الحرب على الحرب

عصمت منصور

سجلت حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني التي تشنها دولة الأحتلال بشكل رسمي رقماً قياسياً، كونها اطول حرب في حروب اسرائيل، بعد ان تجاوزت حرب النكبة (608 يوماً) متسببة بعشرات الاف الشهداء والجرحى والمفقودين، ودمار شامل، مترافقة بحملات تطهير عرقي، ومصادرات اراضي وبناء وشرعنة مستوطنات بالعشرات مع تقطيع اوصال وتنكيل وافقار في الضفة الغربية، واقتحامات وعمليات تهويد في القدس، وحرب تنكيل وتجويع ضد الأسرى داخل السجون، ورزمة تشريعات عنصرية تكرس الأحتلال وتنتقص من حقوق شعبنا في الداخل، وما لا يحصى من الأعتداءات الفردية والجماعية.

يواجه الشعب الفلسطيني هذه الحرب الشاملة، التي تقودها حكومة اليمين، بغطاء امريكي كامل، دون رؤية سياسية واضحة وموحدة، او قدرة على تجاوز حالة الأنقسام والخروج من المآزق الداخلي، وهو ما جعل شعبنا عرضة لحالة استقطاب داخلية افقدته القدرة على التأثير بشكل حقيقي على مجرى الحرب، والتصدي لمخططات الأحتلال والواقع الذي يخلقه من خلالها، وسعيه الى تصفية قضيته وانهاء وجوده واعادته الى سنوات النكبة الأولى.

لم تكشف اطول حرب في تاريخ الصراع، عن مدى وحشية الاحتلال والمستويات التي فاقت كل تصور في ارتكاب المجازر وتدمير شامل لكل مقومات الوجود والحياة وصولا الى الإبادة الشاملة، فقط، بل كشفت عن عجز القيادة لدى الشعب الفلسطيني، وضعفها، وضيق افقها، وتمترسها خلف مواقف ذاتية لم تستشعر معها حجم الخراب والدمار والنتائج الكارثية والوجودية لهذه الحرب على الشعب الفلسطيني وقضيته.

ابقت اطول حرب في الصراع الفلسطينيين خلفها، اسرى خطاب سطحي ذاتي ساكن، وشعارات واوهام محكومة بقيود شبكة علاقات ومصالح داخلية وخارجية معقدة تكبلهم، وتحد من خياراتهم.

الجمهور الذي صدم من حجم الوحشية الإسرائيلية، ومستوى القتل والتدمير، شعر انه عاجز، وان مستوى المواجهة يفوق قدراته، وان اساليبه التقليدية لن تؤثر في مجرى شلال الدماء الذي اغرقها فيه الأحتلال، لذا وجدنا هذا الصمت المشفوع بالخوف والصدمة وعدم القدرة على المبادرة.

كان يمكن لقيادة حيوية، مرنة، ديمقراطية، واعية لقوانين المواجهة وابعادها، ولديها ثقة بنفسها، وترتبط بجسور قوية ومفتوحة مع الجمهور، ان تجترح خطاب وادوات تستنهض فيه الجمهور، وتحاصر فيه اليمين الفاشي في اسرائيل، لكن ما حدث زاد من تعقيد المشهد.

بدل التفكير الواقعي، الجذري، الذي ينطلق من فهم حقيقي لطبيعة الحرب والتهديدات الوجودية الكامنة فيها، وكيفية مواجهتها وتقصير عمرها واحباط أهدافها بأقل الخسائر.

وجد الشعب الفلسطيني نفسه امام قيادة متورطة في عزلتها الداخلية والخارجية، وعن الناس، فاقدة للحس الواقعي، منحازة لخطاب الفئوية والمصالح الذاتية، تتستر عن عجزها بشعارات وجمل عامة وفضفاضة، وتتخبط دون اي قدرة حقيقية على التأثير في مجرى الحرب، لا في غزة التي تذبح، ولا في الضفة التي تنهب وتطهر عرقيا.

حالة الاستقطاب، الغرائزية، الجمل الجاهزة، تثوير المشاعر بشكل سلبي، نتجت ايضا، إضافة لحالة الانقسام القذر، بسبب غياب دور الفصائل التي سلمت بعجزها وتبعيتها.

فضحت هذه الحرب كل البنى القيادية الفلسطينية، وضحالة العقل الجماعي لدى اصحاب القرار.

الخطاب الأعلامي وارتداداته في الشارع تحولت الى شعور باليأس، وانعدام الثقة بالحاضر والقدرة على التأثير في مجريات الإبادة، وهذه فرصة تلقفها الاحتلال للأمعان في جرائمه وشق الطريق واسعاً لتمرير مشاريعه.

معاني الانتصار والهزيمة:

امام دم الأطفال المسفوك بغزارة، ومشاهد الدمار الشاملة، فقدت الكثير من المعاني قيمتها، او اختلطت على الفهم بالنسبة للأنسان السوي.

فيما لو قرر نتنياهو الآن، دون مقدمات، وبشكل فردي، وقف الحرب، وسحب جيشه، وترك غزة تعيش فوق كومة الركام التي خلفها جيشه، والضفة مستباحة من المستوطنين الذين حولها الى معازل محاصرة بالبوابات ودون موارد، هل سيعد هذا انتصار ام هزيمة؟

في ظل العجز عن ايقاع هزيمة عسكرية، وتحول مطلب وقف الحرب الى سقف اعلى في مطالب قيادة حماس، ورهان القيادة الفلسطينية في الضفة على شريان الأكسجين الضعيف الذي يكفي فقط لابقاءها على قيد الحياة فوق سرير الموت الذي يتهددها، تنتقل كل اوراق المبادرة الى يد نتنياهو وعصابته الإجرامية.

حالة التفسخ والتردي التي يعيشها شعبنا، ناتجة اولا واخيرا بسبب انعدام الرؤية الواحدة، وفقدان القدرة على التخطيط، وهو ما انتج تغييب حقيقي وشامل للجماهير ودورها.

تكتشف حركة حماس، التي رفعت سقف المواجهة الى مستوى حرب الإبادة، ان العامل الوحيد الكفيل باسقاط مخططات الأحتلال هو الجماهير والناس العادية التي تؤمن بالفكرة وتحملها عن قناعة وتجد الطريقة المبتكرة في كل مرة من جديد لتجسيدها.

الجماهير هي التي ستسقط مشروع المليشيات المسلحة المتعاونة مع الاحتلال، وهي التي تستطيع ان تسقط برنامج المساعدات المذل والذي يقود الى الترحيل، وهي التي ستسقط فكرة المناطق العازلة وتقسيم القطاع الى منطقتين (منطقة صغيرة ومحاصرة لحماس ومنطقة تتمتع بالوفرة في المساعدات يسيطر عليها الاحتلال وميليشياته العميلة) وان الذي ينهض في عملية البناء ويشكل خزان لاستمرار المقاومة هم الناس.

الجمهور كي يحمل فكرة يجب ان يؤمن بها اولاً.

الجمهور لا يُعامل بأسلوب الأوامر والخطابات المشحونة بالعاطفة والخيال الديني والفوقية والصراخ عن بعد، ولا من خلال التهييج وإثارة الغرائز، بل من خلال تقديم برنامج ورؤية، نموذج، وبأسلوب ديمقراطي، تشاركي، ومن خلال افساح المجال امامه كي يبادر.

خطاب السابع من اكتوبر، خطاب الاستعراض والتحدي غير المتناسب مع قدرات ولا ادوات الجمهور العريض، همش الجمهور، حوله الى متفرج، الى متلقي للضربات، اداة استعطاف ودرع بشري.

حال الضفة لا يقل سوء.

كان يمكن للضفة ان تشكل عامل حاسم في تقصير عمر الإبادة.

لكن القيادة الفلسطينية المذهولة من هول الأحداث، والتي تقف على ارض لزجة ومتحركة، ارتمت في احضان التردد والانتظار وأثرت ان تحافظ على ما يمكن الحفاظ عليه من مكتسباتها الى ان تمر العاصفة.

الحاجة الى النقد:

ينافح البعض ان "حتى الاستسلام لن يوقف الحرب".

المصيبة انهم يرددون هذه الجملة الخطيرة التي تشي بحالة عجز حد القعود والشلل، دون ان يرف لهم جفن.

لنبدأ اولا بنقد اسلوب تفكيرنا، ومدى انفصاله عن الواقع، الاستقطاب الذي سيطر على عقولنا، الثنائية التي تحكمت بنا (اما - او) ورغبتنا التي لا يمكن تفسيرها في تغليب الانتقام وتصفية الحسابات بين بعضنا البعض في ظل الهاوية التي نُقاد اليها.

لنعترف اولا كي نفكر بشكل سليم، ان هذه ليست حرب يوم القيامة، وان عدم تحقيق (الانتصار) الذي لا احد يعلم شكله او معالمه، فيها، سيعني فناء شعبنا، بل ربما العكس، ان استمرارها هو الذي قد يفني شعبنا وقضيته.

لننظر الى الحرب في سياق مسيرة كفاح عمرها اطول من قرن، وان وقف الحرب بأي نتيجة ممكنة هو فرصة للبداية من جديد.

ثنائية النصر والهزيمة، لا تصلح للقياس على الحرب الحالية بمفهوها الضيق والمجرد، بل بمقياس تاريخي مرتبط بسياق اوسع له علاقة بشعب وقضية لا تنحصر في غزة او الحرب الحالية، كما ان المقاومة لا تنحصر في حماس او هذا الأسلوب حصرا وتحديداً.

في النهاية، ولان الكلام لا ينتهي، وهو فعل جماعي يحتاج الى اصوات واراء اخرى، واثراء دائم وتجديد، اقول:

الحل هو حل ديمقراطي انساني وطني له بعد تحرري وليس غيبي صفري.

الحل هو في اعادة الأعتبار لكل المعاني التي انتجتها تجربة ثورتنا الخصبة والغنية التي غيبها تماما الخطاب الذي انتجته هذه الحرب، مثل الوحدة الوطنية والقيادة الجماعية والديمقراطية والتشاركية في القرار وافساح دور اوسع للمبادرات والجماهير والمراكمة طويلة النفس والبناء على نقاط القوة لدينا مقابل نقاط ضعف عدونا والتفوق الأخلاقي والرؤية الواضحة تجاه شعبنا وتجاه العالم.

هذا الحل يحتاج الى روح جديدة وخطاب جديد لا يوجد لدى قيادة شعبنا الحالية، ولن تنتجه النخب المتطفلة المتلونة على الفضائيات، بل الشعب والنخب الحقيقية.