وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الارشاد النفسي في ظل التحول الرقمي

نشر بتاريخ: 17/06/2025 ( آخر تحديث: 17/06/2025 الساعة: 16:30 )
توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الارشاد النفسي في ظل التحول الرقمي

الكاتب:إياد إشتية

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم بفعل الثورة الرقمية، بات الذكاء الاصطناعي

(Artificial Intelligence) أحد الركائز الأساسية التي تعيد تشكيل مختلف مجالات الحياة، ومنها ميدان الإرشاد والعلاج النفسي. فقد أتاح الذكاء الاصطناعي فرصاً غير مسبوقة لتطوير أدوات وتقنيات تدخل نفسي جديدة، تُعزز من جودة الخدمات النفسية وكفاءتها، وتُساهم في توسيع نطاق الوصول إلى الأفراد الذين قد يصعب عليهم الوصول إلى خدمات الدعم النفسي التقليدية.

تشمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الإرشاد النفسي استخدام برامج الدردشة الذكية (Chatbots) القائمة على المعالجة الطبيعية للغة(NLP) لتقديم الدعم النفسي الأولي، وتطبيقات تقييم الحالة النفسية من خلال تحليل اللغة والتعبيرات الوجهية، إلى جانب خوارزميات تساعد في التشخيص المبكر للاضطرابات النفسية، ورصد أنماط السلوك والمزاج عبر تحليل البيانات الكبيرة (Big Data). كما تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تصميم تدخلات علاجية رقمية مثل العلاج المعرفي السلوكي عبر الإنترنت (iCBT) الموجه باستخدام تقنيات تعلم الآلة.

تتزايد أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي في الإرشاد النفسي في ظل الظروف الأمنية والسياسية المعقدة التي تعيشها المجتمعات الواقعة تحت النزاع أو الاحتلال، كما هو الحال في السياق الفلسطيني. فالضغوط النفسية الناتجة عن التهديد المستمر للأمن الشخصي، وغياب الاستقرار السياسي، والتعرض المتكرر للفقد، والتهجير، والاعتقال، تخلق بيئة مثقلة بالتوتر والقلق والصدمات النفسية الجماعية. في مثل هذه الظروف، تصبح الحاجة إلى دعم نفسي واسع النطاق وسريع الاستجابة أمرًا بالغ الإلحاح، في الوقت الذي قد تعجز فيه البُنى التقليدية عن تلبية هذا الطلب بسبب ضعف البنية التحتية، أو صعوبة الوصول إلى المختصين، أو انعدام الموارد. ويمثل الذكاء الاصطناعي بديلاً تكنولوجيًا واعدًا يتيح تقديم خدمات نفسية أولية بصورة مرنة وآمنة، ويساعد في الوصول إلى الفئات الأكثر تهميشًا أو تضررًا دون تعقيدات ميدانية. كما أن قدرته على تحليل أنماط السلوك والكشف المبكر عن الاضطرابات النفسية يُمكّن من التدخل الوقائي وتقليل تفاقم الأعراض، خاصة في حالات الصدمة المستمرة أو الضغوط الحادة التي يعاني منها الأفراد في بيئات النزاع.

ومن خلال الممارسة أظهر توظيف الذكاء الاصطناعي في ميدان الإرشاد النفسي العديد من المزايا التي تعزز من كفاءة العملية الإرشادية وجودتها، إذ يتيح تقديم خدمات دعم نفسي على مدار الساعة، والوصول إلى فئات مجتمعية محرومة أو تعيش في مناطق أقل حظاً، فضلاً عن قدرته على تحليل البيانات النفسية الضخمة بسرعة ودقة، وتقديم تنبؤات مبنية على أنماط سلوكية متكررة. كما تسهم تقنيات مثل المحادثات التفاعلية وأنظمة التوصية المدعومة بالخوارزميات في تسهيل عمليات التشخيص الأولي، وتقديم تدريبات معرفية سلوكية مؤتمتة، مما يقلل العبء عن المرشدين البشريين. رغم هذه الإمكانيات، إلا أن توظيف الذكاء الاصطناعي لا يخلو من تحديات وعيوب جوهرية، أبرزها محدودية قدرته على التعاطف الإنساني وفهم السياقات العاطفية والثقافية العميقة، وهو ما يُعدّ عنصراً مركزياً في العملية الإرشادية. كما تُطرح مخاوف متزايدة بشأن خصوصية البيانات النفسية وسلامتها، واحتمالية الاعتماد المفرط على التكنولوجيا على حساب العلاقة العلاجية الإنسانية. يضاف إلى ذلك التحديات الأخلاقية المرتبطة بمساءلة الآلات في حال حدوث ضرر نفسي للمسترشد، وصعوبة مواءمة النماذج الرقمية مع القيم المحلية والمعتقدات الثقافية المختلفة، خصوصًا في البيئات العربية. بناءً على ما سبق، فإن الدمج المسؤول والمتوازن لتقنيات الذكاء الاصطناعي في الإرشاد النفسي يتطلب إطاراً تنظيمياً واضحاً، وتدريباً متخصصاً للمرشدين، يضمن التكامل بين كفاءة التكنولوجيا وعمق التفاعل الإنساني.

يُثير استخدام الذكاء الاصطناعي في الإرشاد النفسي تساؤلات عميقة حول أخلاقيات المهنة، لا سيما فيما يتعلق بسرية المعلومات، والحصول على الموافقة المستنيرة، وحقوق المسترشد في التعامل مع أنظمة غير بشرية. كما يُطرح تساؤل حول مدى دقة الخوارزميات وانحيازها، ومدى مواءمتها للسياقات الثقافية المتنوعة، خاصة في المجتمعات العربية التي تتميز ببنية اجتماعية وقيمية خاصة.

ورغم التطور التقني، إلا أن الذكاء الاصطناعي لا يُمكن أن يحلّ محلّ المرشد النفسي البشري بشكل كامل، إذ يظلّ العامل الإنساني عنصرًا جوهريًا لا غنى عنه، خاصة فيما يتعلق بالتعاطف، وفهم السياقات الفردية، وبناء العلاقة العلاجية. ومن هنا، فإن التكامل بين الذكاء الاصطناعي والخبرة الإنسانية هو الخيار الأكثر فاعلية، بحيث يعمل الذكاء الاصطناعي كأداة داعمة للمرشد، وليس بديلاً عنه.

ولضمان الاستخدام الآمن والفعّال للذكاء الاصطناعي في مجال الإرشاد النفسي، فمن الضرورة تطوير أطر تشريعية وأخلاقية واضحة تنظم هذا الاستخدام، وإدماج الذكاء الاصطناعي كمكون أساسي في برامج إعداد المرشدين النفسيين، وتشجيع البحث العلمي في هذا المجال لاستكشاف إمكانيات جديدة وتقييم فعالية الأدوات والتقنيات المستخدمة.

وخلاصة القول..

إن توظيف الذكاء الاصطناعي في الإرشاد النفسي يمثل نقلة نوعية في أساليب تقديم الدعم النفسي، ويتطلب وعياً مهنياً وأخلاقياً عالياً لضمان تحقيق الفائدة القصوى من هذه التقنيات، دون المساس بجوهر العملية العلاجية الإنسانية. إن النجاح في هذا المسار يظل مرهوناً بمدى قدرة المؤسسات النفسية والأكاديمية على المواءمة بين الابتكار الرقمي والحضور الإنساني.