قراءة في المنطقة الحرجة التي وصلتها الحرب
نشر بتاريخ: 20/06/2025 ( آخر تحديث: 20/06/2025 الساعة: 23:26 )
د جمال السلقان
تقدير موقف:
ليس من السهل الإحاطة بما يجري حالياً، لا سيما في ضوء ما تكتنفه العمليات الحربية من غموض، وفي ضوء البعد الاستخباري القوي والمكثف الذي تنطوي عليه، وقد يكون من السذاجة التسرع بتكوين تقدير للموقف في حالة الإكتفاء بمعطيات الميدان وما يتم نشره عبر وسائل الإعلام ، لكن، يمكن عمل شجرة احتمالات تشبه شجرة القرارات التي تتعامل مع عدة سيناريوهات ، وبناءا عليها يأخذ التحليل شكل تفرع أغصان الشجر، فإذا كان كذا فإن كذا قد يحصل، وأما إذا كان كذا آخر فإن كذا مختلف قد ينتج.
حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن طريقة شجرة القرارات، وهذا ممكن في حالة استبعاد سيناريوهات عديدة من التحليل، وهذا طبعا أمر لا يخلو من الخطورة، فتنقية المدخلات وعدد البيانات والمعلومات واختصارها لحد ما قد يكون هو الخطأ بعينه الذي يرتكبه الشخص أو الباحث ما لم تتم هذه العملية بحذر بالغ وبأسلوب علمي.
قد اكون مخطئاً في هذه المقاربة، لكني رأيت أن أبدأ البحث عبر سؤال لا اعرف الإجابة عليه بحكم عدم معرفتي بالفيزياء النووية، فقررت أن أوجه السؤال التالي للتشات جي بي تي مستعينا بالذكاء الصناعي ، السؤال كان كالتالي :
"هل يمكن تدمير البرنامج النووي الإيراني في ضوء الوقائع المعروفة عنه وعن مستوى التخصيب الذي وصل إليه وفي ضوء ما تعرفه عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالطبع في ضوء ما تعرفه أمريكا و"إسرائيل"؟"
اعتقدت أن هذا السؤال هو الأهم لأعرف أولا اسباب الحرب الحقيقية وثانيا كيف يمكن لي توقع مآلاتها ،سيتضح هذا لاحقاً على كل حال.
لم يعط برنامج الذكاء الاصطناعي جوابا شافياً ، لكن من ضمن ما قدمه من مصادر كان مقابلة لشخص اسمه يسري أبو شادي، وهو كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفعلا استمعت إليها بكل اهتمام. كان مذهلاً في قطعيته وثقته بأن البرنامج النووي الإيراني لا يمكن تدميره حتى لو تم قصفه بكل انواع القنابل، وان هناك مشروعا نوويا موازيا تلجأ إليه الدول التي تشرع ببناء مشروع نووي، وأن إيران تمتلك المعرفة KnowHow للمضي بمشروعها لو فكرت بتسليح البرنامج (حولته لمشروع عسكري)، والأهم من ذلك قال أن ما تمتلكه إيران الآن ما يقارب ال 75 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ، وهذا يكفي لصنع قنبلتين نوويتين!!! وأن هذا المخزون لا يمكن لأحد معرفة مكان تخزينه!
هذا إفصاح مذهل، ويزود المرء بأساس قوي للمضي في التحليل.
إذن، تعرف الولايات المتحدة و"إسرائيل" أن ضرب المفاعلات ومحطات التخصيب لا يوقف المشروع، وبالحد الأقصى قد يعيقه، لكن ماذا عن كفاية المخزون المتوفر لصنع قنبلتين نوويتين ؟ تدرك "إسرائيل" ذلك، ومع هذا الإدراك فإنه يصبح منطقياً الاستنتاج بأن الضمانة الوحيدة لإنهاء المشروع النووي الإيراني هو إسقاط الدولة الإيرانية ونظامها السياسي واستبداله إما بدولة فاشلة على غرار العراق أو بنظام يضمن التخلص من جميع مكونات المشروع النووي، علماء وفنيون وفيزيائيون ومهندسون وأصول علمية مادية ملموسة كمحطات التخصيب وصناعة أجهزة الطرد المركزي ومراكز ابحاث وتطوير ، وطبعا ما تم مراكمته حتى الآن من مخزون يورانيوم وبلوتونيوم مخصبين، وغير ملموسة كالمعرفة والعلاقات والمعلومات وغيرها.
طالما الأمر كذلك فهذا يدلنا على هدف الحرب الرئيسي والمركزي، وهو إسقاط الدولة والنظام السياسي، وما الموضوع النووي سوى غطاء لهذا المخطط. هذا يفسر حجم الاستثمار الكبير في المجال الاستخباري والعمل المسبق فيما يتعلق بتجهيز خلايا داخل الدولة الإيرانية للانقضاض عليها بمجرد قتل النواة الصلبة من مرشد الثورة الإمام خامنئي وقادة الحرس الثوري وكبار ضباط وقادة الجيش والأركان والاستخبارات، وكذلك تعطيل أنظمة الرادار والدفاع الجوي بحيث تبدو الدولة مشلولة وعاجزة عن القيام بأي رد لفترة طويلة يتم استغلالها بهجوم خلايا الموساد والسي ٱي ايه ومناصري مجاهدي خلق ومؤيدي عودة الملكية ومن استطاعت أجهزة الاستخبارات الغربية بأكملها والأجهزة العربية المجاورة من استقطابه لجهة معارضة الثورة، بهجوم داخلي للإيحاء بأن النظام ومؤسساته آخذ في السقوط، ويتم هذا مع استخدام كافة وسائل التكنولوجيا الحديثة من تعطيل أجهزة اتصال الجيش والحرس الثوري وتفكيك أصوله واختراق هذه الأجهزة بتوجيه أوامر للأفراد والقيادات الميدانية بالانسحاب والهروب كما حصل في سوريا. وفي حالة نجاح الضربة الأولى فإن الوضع سيكون مؤاتيا للولايات المتحدة في الدخول للمسرح وربما عبر عمليات تدميرية هائلة لمحطات الكهرباء والطاقة والاتصالات وتعطيل شريان الحياة في البلاد بما يهيىء الأجواء لعمليات إنزال برية مدروسة لإكمال حلقات المخطط (وهنا ليس من المستبعد دخول جيوش "السعودية" والإمارات للحرب بعدما يكون قد تبين لها أن دولة الثورة الإيرانية لم تعد في وضع يمكنها من انتقام تخشاه هذه الدول).
لقد قامت أمريكا بتزويد الكيان بكل ما يلزم للضربة الأولى بما في ذلك الخداع الاستراتيجي عبر ادعاء ترامب أنه متفائل بخصوص الوصول لاتفاق مع إيران وأنه طلب من نتنياهو عدم القيام بأي عمل يشوش على المفاوضات التي ترعاها عمان، بينما كان في الخفاء يتفق معه على موعد وطبيعة الهجوم الخاطف المفاجىء؛ بهذا يكون ترامب قد كلف الكيان بما يمكن للولايات المتحدة عمله من عمليات اغتيال وتشويش وتعطيل في الضربة الأولى بينما ينتظر النتائج دون أن تحسب عليه أنه خاض الحرب. قد يسأل البعض ولماذا يهتم ترامب بهكذا إخراج وينتظر دور الولايات المتحدة لكي تنقض على المضمون على ما تبقى وتجهز على نظام الثورة؟ الجواب بسيط وهو أنه في حالة فشل الضربة الأولى ستفشل العملية برمتها وستكون امريكا طرفا في الحرب يتوجب عليها دفع ثمن ذلك، طبعا من نافل القول إن الثمن سيكون مكلفاً للولايات المتحدة في حالة اغلاق مضيق هرمز وتلغيمه ومكلفا لجهة المصالح والقواعد الأمريكية في المنطقة، هذا كله مفهوم، لكن الثمن الأكبر برأيي هو أن إيران ستصبح دولة نووية وستجد فرصتها الذهبية في الإنسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ونعود لما قاله يسري أبو شادي كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن بضعة أسابيع تكفي لتحويل اليورانيوم المخصب بنسبة 60% إلى مستوى 93% فقط من خلال التحول من التخصيب بالتوازي إلى التخصيب بالتوالي وهو أمر يشبه صنبور الماء كل ما عليك أن تضاعف من قوته لا سيما في ضوء امتلاك إيران لأجهزة الطرد اي ار 8 وربما أكثر وهذا يعني قدرة على الإسراع ومضاعفة التخصيب بعشرة أضعاف أجهزة الطرد العادية مثل اي ار 1. طبعا بحسب يسري أبو شادي فإن إيران حتى بمستوى التخصيب المتوفر يمكنها صناعة قنبلتين، فعندما يكون مستوى التخصيب 60٪ يلزم توفر 35 كيلوغرام من هذا اليورانيوم لإنتاج قنبلة واحدة ، بينما لو كان التخصيب بالنسبة الأكبر فسوف تكفي 15 كيلوغرام لإنتاج القنبلة.
وعودة لدخول الولايات المتحدة الحرب، فقبل ضمان النتائج سيكون عملا غبيا لو قامت بذلك، الوجه الآخر لهذا الإستنتاج هو السؤال إذن على ماذا يدل عدم دخول امريكا مباشرة حتى الآن؟ المنطق يقول انها لا تضمن النتائج طالما أن إيران لم تنهار بعد الضربة الأولى برغم استعمال كل أجهزة استخبارات الكرة الأرضية كل طاقتها في التحضير لهذه الضربة وبرغم استعمال اخر ما توصلت إليه تكنولوجيا السلاح والتشويش والحرب السيبرانية والتجسس والخداع، بل إن الإشارات التي خرجت من إيران بعد هذه الضربة بساعات تخبر بفشل كافة التوقعات، فمعظم ما تعرض للتشويش والقصف تم استبداله بسرعة البرق وقامت أجهزة الرادار وأنظمة الدفاع الجوي بالعمل لتسقط أهم طائرة حربية عرفتها البشرية وهي ال اف 35 وكذلك عملت كافة منظومات الصواريخ البالستية والفرط صوتية بكفاءة عالية ، وان كان ذلك بنسبة أقل مما كان بالإمكان ولكنه قطعاً بنسبة أكبر بكثير مما توقعه وعمل عليه الأمريكان وقادة الكيان. الإشارة الأخرى بالغة الأهمية هي أن بنك اهداف الضربة الأولى كان أكثر مما استطاعت إسرائيل الوصول إليه سواء على مستوى القادة أو الخبراء، سيكون من الغباء الافتراض أن خامنئي نفسه لم يكن على رأس قائمة المطلوب تصفيتهم، (فلو تمكنوا من الوصول إليه لما فوتوا ذلك)، من الغباء أكثر تصديق ترامب ونتنياهو بأنهم يعلمون مكان إقامته وقد يصلون له عندما يقررون ذلك ، هذا ليس أكثر من وصف للفشل والإيحاء بأن زمام المبادرة لا يزال بأيديهم وان الرجل لا يحيا إلا بقرار منهم، وثمة إشارتين أخريين صدرتا من إيران في عكس المتوقع؛ وحدة الشعب الإيراني والتفافه حول قيادته، وقدرة أجهزة الاستخبارات الإيرانية على امتلاك زمام المبادرة وملاحقة واكتشاف خلايا الموساد ومن عول عليه الكيان في القيام بعمليات التخريب الداخلي، صحيح أن أعداد المكتشفين كبيرة وصادمة، لكن من زاوية أخرى فإن هذا يعكس تنبها كبيراً على مستوى أجهزة الأمن الإيرانية لهذا الخطر وتبع ذلك نجاحات كبيرة في كشف أوكار هذه الخلايا ومصانع المسيرات التي كانوا يديرونها وكشف وملاحقة أعضائها التي يبدو أنها تعمل وفق نظام الخلايا المرتبطة ببعضها بطريقة عنقودية لتكون قادرة على تنسيق أعمالها فيما بينها وبطريقة خيطية تربطها مع مراكز توجيهها، وهذا يسهل على أجهزة الأمن كشف اعضائها ووسائلها وخططها بمجرد كشف أحد الخلايا.
ما الموقف الآن في ضوء ما سبق؟
اذا صح ما تقدم، فإن أمريكا ستدخل الحرب فقط في حال ضمان النتائج، ولسان حال نتنياهو يقول لترامب أن الأمور جاهزة فتعال واقطف النتائج واضرب ضربتك القاضية وقد مهدت لك كل شيء، بينما ترامب يعيد الحسابات مرة تلو الأخرى فيما إذا كان وصف نتنياهو صحيحاً أم لا، وبالطبع سيستند في ذلك على تقدير موقف استخباراتي امريكي، لكن اهم النتائج التي لا يريد أن يصل إليها هي أن تكون إيران في وضع يمكنها من الإعلان عن الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الذي يعني بلغة الميدان أن إيران اتجهت لإنتاج القنبلة، بهذا سيكون كل ما خطط له قد فشل، فبدلاً من منع إيران من امتلاك السلاح النووي ستكون نتيجة الحرب أن الانخراط الأمريكي هو الذي مكن إيران من تحويل مشروعها النووي السلمي إلى مشروع عسكري، هذا هو الموقف الآن وهذا ما يؤرق ترامب، بينما نتنياهو يقوم بتجميل الموقف أمامه ليسرع انخراط أمريكا رهانا منه أن مجرد انخراط أمريكا المباشر سيجعلها مرغمة على إكمال المهمة حتى النهاية.
يبقى السؤال، هل يمكن لترامب أن يضيع كل ما قام به عبر الكيان، منطقياً، يمكن أن يسلك هذا الطريق اذا كان الانخراط في حرب مباشرة مكلفاً أكثر، ويمكن أيضا أن يسلك هذا الطريق لأن عدم الانخراط المباشر هو الذي يمكن أن يبقى على إيران عضواً في معاهدة حظر الانتشار النووي وخاضعة منشٱتها للتفتيش والرقابة المستمرين على مدار الأربع وعشرين ساعة، وقد تلعب الإشارات الدبلوماسية التي يقوم بها الوسطاء دورا في إعطاء ترامب ما يمكن أن يدعيه لاحقاً بأنه توصل لاتفاق يمنع فيه امتلاك السلاح النووي. هذا يتم على مسار، بينما على المسار الآخر تعمل امريكا كل ما بوسعها على إسقاط نظام الثورة الإسلامية، لكن بلا مخاطرة تفقدها ما يمليه عليها المسار الآخر، الدبلوماسي. وفي حالة الوصول لقناعة أن بإمكانها إسقاط النظام ستفعل ذلك بلا تردد ولن تقيم وزنا للمسار الآخر، هذا يفسر سبب كل هذا الإنتظار.