![]() |
الإدارة المدرسية التي نريدها: من سطوة الضبط إلى فضاءات المعنى
نشر بتاريخ: 20/07/2025 ( آخر تحديث: 20/07/2025 الساعة: 10:31 )
![]() في ظل تسارع وتيرة العولمة والتكنولوجيا، يظل التعليم الحصن الذي يحفظ للإنسان مكانته كذات حرة، قادرة على التفكير والتأمل وصياغة التغيير. غير أن الإدارة المدرسية في كثير من السياقات تتأثر بثقافة الكفاءة الرقمية والقياس الكمي، فتختزل إلى آليات ضبط وتنظيم، متجاهلة أن المدرسة ليست مجرد آلة لإنتاج المعرفة، بل فضاء وجودي يلتقي فيه الإنسان بذاته والعالم لصياغة المعاني وإعادة تشكيل الواقع. المدرسة، بوصفها فضاءً تربوياً وإنسانياً، ليست مجرد كيان إداري أو مصنعاً للنتائج، بل حاضنة للذات ومساحة تحررية تتيح للفرد التفاعل مع الحياة، وبناء رؤى وقيم تتجاوز حدود المعرفة التقنية. لذلك، فالإدارة التي تليق بالمدرسة يجب أن تتسم بأبعاد إنسانية وأخلاقية وفلسفية، تقوم على علاقة جدلية بين الفرد والمجتمع، بين التنظيم والابتكار، وبين المعرفة والحرية. حين ندرك أن المدرسة ليست مجرد فضاء للأرقام والنتائج، بل هي بيتُ النفس، ومَسرحُ الذاكرة، حيث تتلاقى الأرواح وتُشْتَعل نار المعرفة وسط عتمة الزمن، تتجلّى عظمة الإدارة التي لا تُقيد الفكر، بل تَحْرره، وتُهدي الروح مفتاح الكرامة والإنسانية. إدارةٌ تنبض بالصدق وسط أروقة الصمود، تُنير دروباً يقاوم فيها الإنسان الفلسطيني ألوان القهر، فتتحوّل المدرسة إلى منارةٍ لا تنطفئ، تضيء سماء الأمل والتغيير. أولاً: من الإدارة التقنية إلى القيادة التربوية: إن التحول من الإدارة المدرسية التقليدية القائمة على البيروقراطية والضبط إلى نمط قيادة تربوية تحويليّة يُعدّ تحوّلاً جوهرياً في فهم دور المدرسة والقيادة فيها. الإدارة التقنية تعتمد على التحكم في الموارد وتنفيذ السياسات، وقياس الأداء بمؤشرات كمية محددة مسبقاً. وهي بذلك تختزل المدرسة إلى منظمة ذات طابع وظيفي صرف. في المقابل، يرى فولان (Fullan, 2007) تُبنى القيادة التربوية على تصور أوسع يتجاوز الأداء الظاهري، لتصبح فعلاً أخلاقياً يعيد بناء الثقافة المدرسية على أسس من الثقة والاحترام والمسؤولية. المدير التربوي ليس موظفاً إدارياً، بل قائد يزرع في محيطه التربوي الإلهام، ويؤسس لفضاء حواري يفتح المجال أمام المعلمين والطلبة للمساءلة والإبداع. هنا لا يُنظر إلى المدرسة كمؤسسة ضبط، بل كحقلٍ إنساني حيّ يُسهم في إعادة تشكيل الوعي الجمعي. ثانياً: المدرسة كمؤسسة مجتمعية: علاقة تبادلية حيّة: ليست المدرسة، في جوهرها، مجرد بناء مادي أو منشأة وظيفية تؤدي دوراً تقنياً في منظومة التعليم، بل هي كائن اجتماعي نابض، يتنفس من خلال علاقاته مع محيطه، ويزدهر عبر جدله المستمر مع قضايا الناس وهمومهم وتطلعاتهم. هي مرآة للوعي الجمعي، وصدى لصوت المجتمع، وجسر حيّ بين المعرفة والحياة اليومية. حين تنفصل المدرسة عن مجتمعها، تفقد جدواها التربوية، وتتحول إلى مؤسسة صمّاء، معزولة، فاقدة للمعنى. في هذا الإطار، لا تكون العلاقة بين المدرسة والمجتمع مجرد علاقة خدماتية قائمة على التبادل أو التوظيف الموسمي، بل علاقة وجودية تبادلية تتشكل فيها الهوية، وتُعاد فيها صياغة الذاكرة الثقافية. كما تشير إيبستين (Epstein, 2011)، فإن الشراكات الفاعلة بين المدرسة والأسرة والمجتمع لا تُعزز فقط من فعالية التعليم، بل تُعيد تعريف دور المدرسة باعتبارها طرفاً فاعلاً في بناء الرأسمال الاجتماعي والثقافي للمجتمع بأسره. فالشراكة هنا لا تعني إشراكاً شكلياً في مناسبات أو لجان، بل تعني انخراطاً حقيقياً في اتخاذ القرار، وتحمل المسؤولية، وتبادل الرؤية حول المستقبل. في السياق الفلسطيني، لا تنبثق التربية من فراغٍ محايد، بل تتشكّل في قلب صراع محتدم على المعنى، وعلى الهوية والكرامة والوجود ذاته. فالمدرسة هنا ليست مجرّد مؤسسة أكاديمية تَتناقل المعلومات بين جدرانها، بل هي فضاء حيّ للمقاومة الثقافية اليومية، خندق ناعم يتقدّم فيه الطفل خطوة نحو استعادة اسمه، وصوته، ومكانته الإنسانية من بين أنياب التجهيل والإقصاء والتهويد. إنها المساحة التي لا تُلقّن فقط، بل تُنقذ؛ لا تعلّم فحسب، بل تُلهم، وتحتضن، وتُعيد ترميم الذاكرة الجمعية، كي لا تُبتلع في عتمة النسيان القسري. ثالثاً: من الضبط إلى المعنى – إدارة بالقيم لا فقط بالنتائج: لقد حذّرت العديد من الفلسفات التربوية من اختزال التعليم في أرقام جامدة ونتائج قابلة للقياس، كأنّ جوهر التربية يُختصر في مؤشرات الأداء وحدها. فالمدرسة التي تتفاخر بارتفاع معدلات التحصيل، بينما يسودها شعور بالغُربة أو تغيب فيها العدالة والانتماء، إنما تعاني من خلل أخلاقي بنيوي. فلا يمكن للكفاءة التربوية أن تكون بديلاً عن الكرامة الإنسانية، ولا يجوز للإدارة أن تُعلِي من شأن النتائج على حساب العلاقات والمعاني. حين تُهمَل القيم وتُختزل التربية في معايير ضيقة للنجاح، تنزلق المدرسة إلى إعادة إنتاج العنف الرمزي، وتُقصي من لا يستجيب لقوالب التفوق الرسمية. إن الإدارة التربوية الحيّة، التي تُنصت للهامش، وتحتفي بالتنوع، وتُعلي من شأن العدالة، هي وحدها القادرة على إعادة الروح إلى التعليم، والوجه الإنساني إلى المدرسة (hooks, 1994). وحين تعانق المدرسة مجتمعها، تتحول من وسيط ناقل للقيم إلى نَسّاجةٍ للمعنى ذاته؛ تُعيد في تفاصيل يومها تشكيل طرق جديدة للحضور، وتفتح فضاءات للتفاعل الإنساني العادل، والتضامن القائم على الوعي والمساءلة. في هذا المشهد، لا تُفرَض القيم من علٍ، بل تُبنى بشراكة حيّة، تُحرّر التربية من قوالبها التنميطية، وتمنحها نفساً أخلاقياً متجدداً. تصبح المدرسة بذلك منارةً للكرامة الجمعية، وحقلاً خصباً لإعادة إنتاج الوجود الفلسطيني، لا كاستجابة للقهر وحده، بل كإرادة خلاقة تصوغ ملامح الغد، وتزرع في الأطفال بذور السيادة على ذواتهم وعلى حكايتهم. رابعاً: نموذج بديل – الإدارة التي تبني المعنى: يقترح هذا النموذج الإداري قيادة مدرسية تنطلق من فهم عميق لطبيعة المدرسة كمؤسسة إنسانية واجتماعية، لا مجرد منظمة إنتاجية. يقوم النموذج على أربع ركائز، تتكامل فيما بينها لبناء بيئة مدرسية تنبض بالحياة: القيادة التشاركية: ليست القيادة في المدرسة فعلاً فردياً أو استئثاراً بالقرار، بل هي ممارسة جماعية تتسع لآراء الجميع. فالمعلم ليس منفذاً، والطالب ليس متلقياً، وأولياء الأمور ليسوا مراقبين من بعيد. كل طرف شريك في صياغة الرؤية، وتحديد الأولويات، وتقويم الممارسات. إن إشراك هؤلاء جميعاً يعزز الإحساس بالانتماء، ويحول المدرسة إلى فضاء ديمقراطي يُمارَس فيه التغيير لا يُملى من فوق. ولفلسطين التي تحيا بين التضييق والصمود، تصبح القيادة التشاركية وجهاً آخر من وجوه المقاومة التربوية، حيث تُستعاد الثقة من القاعدة، ويُبنى القرار التربوي على الفعل الجمعي لا على التعليمات الفوقية. التحفيز القيمي والاعتراف: لا تقوم التربية الحقيقية على الإنجاز المادي فقط، بل على التقدير العميق للقيم التي يعبّر عنها الناس في سلوكهم اليومي. من يزرع الأمل، من يواجه الفقر بالابتسامة، من يُنقذ الموقف بصبر، هؤلاء يستحقون الاعتراف. في المدرسة، يجب ألا يُقاس النجاح فقط بالعلامات، بل بالنية والالتزام والتعاون. إدارة تثمّن هذه القيم، تنشئ جيلاً لا يسعى وراء التميز الفردي فقط، بل يؤمن بقيمة الجماعة وبالرحلة أكثر من النتيجة. وفي السياق الفلسطيني، حيث غالباً ما تكون الإمكانيات شحيحة، فإن الاعتراف بالقيم يُعدّ استراتيجية نفسية وثقافية لحماية كرامة المتعلم، وتثبيت المعلم في موقعه كمؤثر لا كمنفذ. الربط بالسياق المجتمعي: المدرسة لا تعيش في فراغ. كل طفل يجلب معه ذاكرة حيّه، وهمّ والده، وابتسامة جدته. إن المدرسة المنفصلة عن واقع الناس، مهما علت جدرانها، تظل باردة وغريبة. أما المدرسة التي تعرف مجتمعها، فتُعد مناهجها بضمير حي، وتُصمِّم برامجها بروح المكان والزمان. في فلسطين، حيث تتعدد السياقات من مدينة تحت الاحتلال إلى مخيم محاصر، يصبح هذا الربط شرطاً للعدالة التربوية، فلا تكون المدرسة نسخة مستوردة، بل استجابة ذكية لحاجات الناس الفعلية. المساءلة الأخلاقية التربوية: في غياب المساءلة تتحول الإدارة إلى تسلط، وتتآكل الثقة. غير أن المساءلة التي نريدها ليست حساباً رقمياً، بل مساءلة تقوم على قيم: الشفافية، العدالة، الرحمة، النزاهة. أن تُسأل الإدارة: هل استمعت؟ هل أنصفت؟ هل شرحت؟ هل ضمنت حق الطفل في أن يُسمَع لا فقط أن يُختَبَر؟ في فلسطين، حيث يُساءَل المعلم يومياً من مجتمعه ومن سياق القهر، تصبح المساءلة الأخلاقية درعاً يحمي العلاقة بين التربويين والناس، ويعيد للتعليم معناه الإنساني بعيداً عن العقاب والمراقبة. ختاماً، ليست الإدارة المدرسية فن تقليص الجهد، بل فن تحويله إلى معنى. فالمدرسة، في جوهرها، ليست مسرحاً للضبط والانضباط، بل معملٌ للتكوين الإنساني، ومختبرٌ للتجريب والارتقاء. نحن بحاجة إلى إدارة تصغي بصدق لنبض الطفل، تنصت لأسئلته المتوثبة، وتؤمن أن الكفاءة الحقّة لا تُقاس بالإجابات السريعة، بل بقدرة الناشئة على مساءلة العالم، وإعادة تشكيله بوعيٍ حرّ وأخلاقٍ سامية. |