وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

نتائج بلا أرقام: فلسطين تكتب رواية الحياة في زمن التحدي

نشر بتاريخ: 28/07/2025 ( آخر تحديث: 28/07/2025 الساعة: 11:26 )
نتائج بلا أرقام: فلسطين تكتب رواية الحياة في زمن التحدي

في فلسطين، لا تُعلَن نتائج التوجيهي كما تُعلَن في سائر البلدان. إنها ليست مناسبة للاحتفاء العابر، بل لحظة تُعيد فيها الذات الجماعية النظر إلى مرآتها المتصدّعة، محاولةً أن ترى فيها ما بقي من ملامح الكرامة، وما نجا من المعنى في خضمّ الردم والخذلان. إعلان النتائج هنا لا يقول فقط: “لقد نجحنا”، بل يهمس بحزم: “لم نُمحَ بعد”.

في غزة، حيث تختلط الورقة الامتحانية بشظايا الزجاج، وحيث يُكمل الطفل دراسته في خيمة نزوح أو على أطلال بيتٍ لا سقف له، يصبح التعليم فعلاً وجودياً لا مجرد استحقاق. الطالب الغزّي لا يُمتحَن في الجغرافيا والرياضيات فحسب، بل في القدرة على التشبّث بالحياة، في مقاومة اللاجدوى، وفي كتابة اسمه فوق صفحةٍ يريدها العالم بيضاء من أي أثر.

أن تنجح في فلسطين، لا يعني أنك حصلت على معدل عالٍ، بل أنك قاومت الصمت، وتجاوزت فكرة السقوط في فخّ التكيف مع العبث. فالتفوق هنا لا يُقاس بالعلامات، بل بإصرار الطالب على أن يبقى تلميذاً في وطن يُراد له أن ينسى القراءة، وأن يُؤمن بأن المدرسة مشروعٌ فائضٌ عن الحاجة في زمن الطائرات المسيّرة.

النتائج لا تأتي وحدها، بل محمّلة بظلال القصف، وصور الشهداء، ودموع الأمهات اللواتي لم يُنهين الحداد لكنهن حضرن حفلة المدرسة، لأنهن يُدركن أن الحياة لا تنتظر أن ينتهي الموت كي تبدأ من جديد. كل شهادة تُسلَّم اليوم في فلسطين، هي بيانٌ رمزيّ ضدّ الإبادة التعليمية، وضد اختزال المعرفة في خدمات رقمية أو “كفاءات قابلة للتشغيل”.

التربية هنا ليست مهنة ولا مساراً وظيفياً. إنها مشروعٌ للصمود الرمزي، حيث تُصاغ الفكرة لا لتُلقّن، بل لتُجابه. المعلم ليس ناقلاً للمعلومة، بل حامل نارٍ في العاصفة، يدرك أن كل حصةٍ دراسية قد تكون آخر ما يُقال في زمن تغدو فيه الكلمات مستهدفةً كما الأجساد.

وحين تعلن فلسطين نتائجها، فهي لا تُكافئ المتفوقين فحسب، بل تُعيد الاعتبار لقيمة الفعل التربوي نفسه. تُعلن أن التعليم ليس بوابة للهروب من الواقع، بل مسارٌ لاختراق جدار العدم. وأن المدرسة ليست مجرد مؤسسة، بل مقامٌ يتجسّد فيه الكرامي والمعرفي والوطني في لحظة واحدة.

هي لحظة تربوية فلسفية وإنسانية لا تشبه غيرها، لأنها لا تُختزل في أسماء الناجحين، بل تتّسع لتشمل سؤالاً عميقاً: كيف بقي فينا ما يستحق أن يُعلَّم؟ وكيف ظلّ فينا ما يستحق أن يُتعلَّم؟

ما معنى أن ينجح طالبٌ في غزة؟

وأيُّ فلسفة يمكن أن تعبّر عن طفلٍ حفظ دروسه، بينما تنهار السماء فوق رأسه؟

وأيُّ معجمٍ يستطيع أن يصف ذاكرة طالبةٍ هجّرت مرتين،

واستيقظت ذات فجرٍ لتجد مدرستها قد ِصارت تراباً؟

والإجابة لا تنبع إلا من هناك، من القدسِ الأبية، وغزة الصامدة، ومن جنين الشامخة، وطولكرم الحاضنة، ونابلس التي تنبض بتاريخٍ عريق، ومن كل ركن في الضفة وغزة، حيث ينبض القلب الفلسطيني. هناك حيث يقف كل طالب فلسطيني شامخاً يرفض أن يكون رقماً في قوائم الإحصاءات، أو مجرد نتيجة تُحسب، ليقول للعالم بصوتٍ لا يخبو: نحن الرواية، قصة الوجود التي لا تُمحى، والحلم الذي يزهر رغم كل الجراح.

وحين تُعلَن النتائج في فلسطين، فإنها لا تُعلَن كما تُعلَن في سائر البلاد، بل تتفجّر من بين أنقاض البيوت ومن حناجر الأمهات المكلومات، كأنها نداء حياة في زمن الموت. لا تُقاس هنا بدرجات، بل تُوزن بميزان البقاء، وتُكتب لا بالحبر وحده، بل بدم الشهداء ودموع المعلمين والطلبة الذين عبروا الجحيم حاملين كتبهم كأنها ألواح نجاة. هي ليست نجاحاً، بل شهادة أن الفلسطيني ما زال يقاوم بالنصّ، ويحتفظ بالمعنى في زمن التفريغ، ويكتب اسمه في دفتر الحياة، لا ليُحصى، بل ليُروى. في فلسطين، النتائج ليست أرقاماً، بل بيانُ كرامةٍ ومعرفةٍ وصمود، ودرسٌ أخير في أن التعليم ليس مخرجاً من الألم، بل معناه الأسمى.