وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

روسيا في السياسة العالمية البديل الافتراضي الواسع النطاق..

نشر بتاريخ: 13/07/2011 ( آخر تحديث: 13/07/2011 الساعة: 14:32 )
الثورات العربية باعتبارها نموذجًا للانقلاب المانوي

بقلم : ألكساندر موزيكانتسكي
رئيس كلية السياسة العالمية بجامعة ( لومونوسوف) موسكو الحكومية بموسكو.

الملخص: إن التفسيرات السياسية والاقتصادية العديدة للأحداث التي تسمى "الربيع العربي" لن تعطينا صورة واضحة لأسبابها. وذلك لأن فهمها لا يمكن إلا من خلال تحليل التحولات الاجتماعية والثقافية – التحليل الذي من شأنه كشف التطورات الباطنية للنفسية الاجتماعية وليس فقط من خلال مجرد رصد الوقائع السطحية العابرة.

شهدت بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سلسلة من الاضطرابات الجماهيرية وأحداث الشغب الواسعة النطاق منذ أوائل عام 2011. فيسعى العلماء والدبلوماسيون والخبراء في علوم الاستشراق والدين الإسلامي، والمحللون والكتّاب إلى أن يشرحوا ويفسروا طبيعة هذه الظاهرة وأسبابها وقواها المحركة وقاعدتها الاجتماعية وتداعياتها القريبة والبعيدة المدى، ويطرحون وجهات نظر مختلفة حولها.

فيعتبر الكثيرون الأحداث الجارية في المنطقة نتيجةً لتدخل خارجي، معتقدين بأن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما، وإسرائيل والمتطرفون الإسلاميون وتنظيم القاعدة أو القوى الأخرى التي يطلقون عليها كلمة ((هم)) دون تحديد هويتهم – هي تلك القوة الخارجية التي تقف وراء عواصف الاحتجاج الجماهيري التي تدوّم فوق المنطقة العربية. أما المحللون الذين يميلون إلى البحث عن الأسباب الداخلية لتلك الأحداث، فيرونها في نشاط أصحاب الأصولية الإسلامية "الإقليمية". ومن بين الأسباب الداخلية يذكر البعض الكثير كذلك انتشار الرشوة والفساد والبطالة والفقر وغلاء المواد الغذائية والتكاثر السكاني وما يسمونه بـ"المصيدة التي كشفها (مالتوس)"، كما ظهر مؤخرا مصطلح جديد وهو "الحدبة الشبابية" التي يقصد بها نسبة عالية للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة في الحجم العام للسكان العرب. وهناك فكرة يرددونها باستمرار تقول إن أبناء الشعب التونسي (أو المصري، أو الليبي) مجرد تعبوا من الحكام الدكتاتوريين (بن علي أو مبارك أو القذافي..).

لكن كل هذه التفسيرات على كثرتها تكوّن فسيفساء مبرقشة وليس صورة متكاملة واحدة. بينما نحن نعتقد أن الأجوبة المعقولة والمقبولة على الأسئلة المطروحة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال تقييم الأحداث من زاوية التحولات الاجتماعية والثقافية الشاملة - التقييم الذي يمكّننا من كشف التطورات الباطنية لأساليب التفكير والنفسية الاجتماعية والتي تختفي وراء الأحداث التاريخية السطحية العابرة وتشكل سببا حقيقيا للتقلبات الاجتماعية الهائلة التي تشهدها المنطقة.

نموذجان للوعي

يطلق الكتاب بقلم (إيغور ياكوفينكو) ومؤلّف هذا المقال (ألكساندر موزيكانتسكي) والذي صدر مؤخرا تحت عنوان: "المانوية والغنوسطية: الكودان الثقافيان للحضارة الروسية" – يطلق مفهومين جديدين وهما: النموذج المانوي والنموذج الغنوسطي للوعي. ويمكن تلخيص مضمون هذين المفهومين بشكل مبسط جدا على النحو التالي:

- تقول النظرة المانوية إن العالم مكوَّن من أصليْن (أو جوهرين) وهما: (نحن) و(هم). فالهدف الوحيد لـ(هم) هو القضاء على (نحن). والآن يشهد العالم المعركة الأخيرة التي ستكون لنا (نحن) الغلبة فيها.

- أما النظرة الغنوسطية فتقول إن الإنسان يعيش في العالم المعادي له والمليء بالمخاطر. وليست حياة الإنسان في هذا العالم إلا سلسلة الآلام والمعاناه المستمرة. فالخلاص لا يأتي إلا من خارج هذا العالم.

إن المذهبين – المانوي والغنوسطي – متأصلان في الثقافة الروسية والمجتمع الروسي. بل وأكثر من ذلك، فإن تحليل التاريخ الروسي على مدى القرون العديدة المتعاقبة يمكّننا من طرح الفرضية الآتية: إن "الأطوار المتكررة والغامضة" للتاريخ الروسي التي ينتهي كل منها بتحطّم الدولة، شأنها شأن آلية التحطم نفسها، تعود كلها إلى تقلب شامل يحدث في الوعي الاجتماعي الروسي في فترات تاريخية معينة، حيث يُستبدل النموذج الغنوسطي للوعي الاجتماعي (والذي يتسم بشعور من الخمول وخيبة الأمل) بالنموذج المانوي (الذي يحمل طابعا انفعاليا وعدوانيا).

ففي المرحلة التي يسود فيه النموذج الغنوسطي، تقع عقول وعواطف الناس تحت سيطرة الإحساس بالحيرة والخمول والخوف من المستقبل والشعور المؤلم بالغموض والفراغ والوحدة وانفراد شخصية الإنسان في الكون. وأخطر شيء – هو الشعور بعدم وجود المخرج من تلك الحالة المزعجة وعدم رؤية المستقبل النيّر وضياع الأمل في الخلاص منها. إنها الحالة التي يمكن أن نطلق عليها حالة اليأس الاجتماعي المطلق.

أما المحتوى السياسي لتلك المرحلة فيتمثل في وجود أنظمة طغيانية أو دكتاتورية بحتة تهتم قبل كل شيء بالحفاظ على "الاستقرار" في المجتمع. وفيما يتعلق بآليات تحقيق "الاستقرار" فمنها زيادة مركزية الدولة وإشاعة البيروقراطية وممارسة سياسة الاستبداد وقمع الحريات المدنية. ومع مرور الزمن ينتشر ذلك الوعي الغنوسطي (أي اليأس الاجتماعي) ويعم مختلف الأوساط الاجتماعية واحدة تلو الأخرى، حيث تقع تحت تأثيره ليس فقط الفئات الفقيرة والهامشية المحرومة من العمل والسكن، بل وأصحاب الطبقات الغنية نسبيا كذلك، مثل أرباب العمل الصغار والموظفون والمثقفون. والفئة التي تتأثر بهذه الحالة أكثر من الفئات الأخرى هي الشباب، وخاصة المتعلمون منهم والذين لم يجدوا بعد التخرج مكانا لهم في المجتمع.

وبقدرما تتفاقم الأزمة بقدر ما يتعمق ويترسخ الوعي الغنوسطي. ويصبح قسم كبير من أبناء المجتمع يدركون نواقص الواقع الذي يعيشون فيه، فيصير ذلك الإدراك يخرّب وعيهم. كما يتم في ظله تشويه وجه المنظومة الفكرية السائدة والهيكل السلطوي الحاكم نظرا لعجزه عن تفادي الأزمة الفكرية والنفسية التي تعم المجتمع. ويؤدي توسع المعاني الغنوسطية وزيادة تأثيرها في الجماهير إلى ظهور خطر على وجود المجتمع نفسه وبقائه. فإذا استمرت سيادة تلك المعاني فترة طويلة، فقد يموت ويهلك ذلك المجتمع وينسحب من الساحة التاريخية نهائيا (وهناك أمثلة عديدة لاضمحلال الحضارات نعرفها من التاريخ البشري).

وفي مثل هذه اللحظة بالذات قد يحدث في أوساط أغلبية أبناء المجتمع "إعادة إطلاق" أي تبدّل نموذج وعيهم. فتبصر النور فكرة جديدة، من شأنها "إعادة بناء الواقع" - الفكرة التي تجتذب وتحمّس وتشجّع الجماهير العريضة، وتكوّن لها حوافز ودوافع قوية للنشاط. وبالتالي يزداد ويتضاعف عدد أنصار تلك الفكرة. وهي مقرونة عادةً بانتشار الانتقاد الشديد وحتى السخريه من الأنظمة القائمة والهيكل السلطوي والفكري الحاكم الذي يحاول الحفاظ على الواقع السابق. ولكن كل تلك التحولات ليست كافية لتحقيق التغيير، حيث أن العنصر المكون الأساسي للفكرة الجديدة والذي يغرس في أذهان الجماهير الأمل في حل الأزمة (وهو يساعد على تجاوزها بالفعل) هو، ربما، صورة العدو الذي يتحمل المسؤولية عن الأخطاء والمشاكل والصعاب التي أدت إلى ظهور الأزمة. فكلما تظهر تلك الصورة كلما يحدث انشقاق داخل المجتمع، الذي ينقسم إهله إلى شريحتين وهما (أصحابنا) و(الغرباء). والألية الوحيدة والطبيعية لتجاوز الأزمة هي الصراع غير القابل للتوفيق أي الصراع بمفهومه المانوي بين هذين الشقين للمجتمع – الصراع الذي قد يرتدي أشكالا مختلفة – منها انتفاضة فلاحية، أو ثورة، أو حرب أهلية، أو إعادة البناء، أو تمرد وآلخ.. ويظهر في مثل هذه الحالة تصور ذو طابع كوني ومصيري يصبح شائعا في أوساط الجماهير، وهو التصور بأن هناك "معركة أخيرة" تجري في المجتمع الآن، وأنها المعركة التي من شأنها أن تحسم كل الأمور وتحل كافة المشاكل دفعة واحدة. وهذا يعني أن الحقبة "الوسطية" البعيدة نفس البعد عن ولادة الكون وعن آخر الدنيا، تُبدَّل بالحقبة الجديدة التي تُفهم وكأنها "ختام للتاريخ". وهكذا يتم استبدال الفكر الغنوسطي في وعي المجتمع بالفكر المانوي.

أما الوعي المانوي الوليد فيلعب – من الناحية الموضوعية - دورا إيجابيا بالنسبة للمجتمع، حيث يعتبر جزء من أبنائه (أي الجزء الذي تخلص من التصورات الغنوسطية السابقة) يعتبر نفسه وكأنه يمثل قوى الخير والنور، الأمر الذي يعطيه دافعا قويا لوقف وردع تصاعد الأمزجة الغنوسطية التي كانت تخرّب الكيان الاجتماعي الثقافي.

وفي بعض الأحيان تشكل الأمزجة المانوية، التي أصبحت تعم السواد الأعظم لأبناء المجتمع، سببا مباشرا لتحطم الدولة وسقوطها. فالخلفية المانوية للصراع الدائر هي التي تسبب سرعة ذلك التحطم وطابعه المأسوي. "ليس الفكر السياسي أو الشعارات الثورية أو المؤامرة أو التمردات، وإنما الحركة الجماهيرية العفوية هي التي أحرقت السلطة القديمة وقضت عليها في لحظة واحدة.." – هكذا وصف ما حصل في روسيا في فبراير/شباط 1917 (فلاديمير ستانكيفيتش) الذي شهد تلك الأحداث بل وشارك فيها.


توجه عقول الناس في اتجاه واحد

موضوع آخر ذو أهمية بالغة في ضوء القضايا المطروحة هو موضوع مصادر الدعم الجماهيري لتلك "الحركة العفوية" المدمرة التي لم تكن "مؤامرةً ولا تمردا". بعبارة أخرى، المقصود هو السؤال التالي: كيف تتشكل القاعدة الاجتماعية للانقلاب الذي يرتدي طابعا مانويا؟ في محاولتنا الاجابة عن هذا السؤال نواجه عددا من الأمور التي تتعدى أطر تفسيرها التقليدي.

تؤكد أمثلة تاريخية عديدة على أن تبدّل نموذج الوعي الغنوسطي بالنموذج المانوي أمر مفاجئ حتى بالنسبة للمراقبين الذين يتتبعون تطورات الأوضاع عن كثب وبكل اهتمام. فإذا لخّصنا ما لدينا من أمثلة استطعنا أن نستنتج بأن تبدّل الوعي الغنوسطي بالوعي المانوي يجري، في الواقع، ليس خلال فترة زمنية ممتدة، وإنما أثناء لحظة واحدة، وكأنه إيحاء فوري يستحوذ أذهان الجماهير الغفيرة.

كان (ألكسندر زينوفييف) في روايته "القمم المنفرجة" قد طرح الفكرة القائلة بأن هناك "خطوط قوة" "توجّه أحيانا عقول الناس وتجعلها تسير في اتجاه واحد". كان (زينوفييف) يقصد بذلك، في الواقع، خطوط القوة القائمة داخل الفضاء الاجتماعي، أي تلك الأجزاء للفضاء الاجتماعي والثقافي التي يكتسب فيها التعامل والتواصل بين الناس طابعا مكثّفا للغاية، الأمر الذي يسفر عنه "توجه عقول الناس في اتجاه واحد". فإذا وقع الإنسان في مثل هذا الفضاء الاجتماعي، أصبح يتصرف بشكل تلقائي وعلى نحو محدد، وكأنه ينفذ الأوامر الآتية إليه من الخارج. ومن تجليات "توجه العقول" هذا، على سبيل المثال، التزام الجماهير بالمقاييس الموحدة للموضة ونماذج الاستهلاك، أو الانشغاف بما يسمى بـ"الثقافة العامة". ويعتبر انتقال المجتمع الفوري من الوعي الغنوسطي إلى الوعي المانوي – الانتقال الذي يبدو وكأنه يحدث بلا سبب – مثالا آخر لنفس الظاهرة المذكورة آنفا.

ويترتب على ما استعرضناه أعلاه عدد من الاستنتاجات الهامة، وهي كما يلي:

أولا: في العديد من الحالات ليست الأساليب الحديثة للدراسات الاجتماعية، ولا تحليلات الخبراء قادرة على التنبؤ الصحيح بمثل هذه التحولات، حتى وإن تمت تلك الدراسات أو التحليلات قُبَيل حدوث التحول بفترة وجيزة. إن علم الاجتماع الحديث يدرس ويقدّر، كالعادة، مدى استعداد الفرد الواحد للقيام بعمل أو تحرك ما في المجال الاجتماعي (وهذا الاستعداد قد يكون ضعيفا في لحظة دراسته)، في الوقت الذي تقتضي الضرورة دراسة وقياس مدى التوتر القائم على مستوى الفضاء الاجتماعي كله وليس على مستوى الفرد. فإذا تعدى ذلك التوتر الاجتماعي حدا معينا، ارتفع مستوى الاستعداد للأفعال لدى الأفراد أضعافا، وذلك خلال أيام وحتى ساعات معدودات. غير أن علوم الاجتماع الحديثة، على ما نعلم، لا تمتلك الأدوات الملائمة الضرورية للقيام بمثل هذه الدراسات.

ثانيا: إن الكلام السابق يسمح لنا بإلقاء نظرة جديدة على القاعدة الاجتماعية للانقلابات من النوع المذكور. فالاستنتاج الذي توصلنا إليه يبدو مفاجئا إلى حد كبير، وهو كما يلي: الانقلاب من الطراز المانوي لا يحتاج إلى أية قاعدة جماهيرية متكونة مسبقا. كما لا يحتاج إلى أشكال التنظيم التقليدية الخاصة بالمجتمع المدني مثل الأحزاب والبرامج والمواثيق والحركات الاجتماعية. الشيء المطلوب الوحيد هو انتقال الجماهير العريضة إلى النموذج المانوي للوعي بناءًا على الآليات الخاصة بذلك الانتقال.

فيما يتعلق بالكتاب المذكور في بداية المقال، فيستعرض نظرية الانقلابات من الطراز المانوي استنادا إلى الأمثلة المأخوذة من تاريخ روسيا. إلا أن هذه النظرية يمكن الاعتماد عليها كذلك لوصف وتفسير الثورات التي قامت في المجتمع العربي في مطلع عام 2011.

لقد نال العديد من البلاد العربية استقلالها الوطني في الخمسينات والستينات من القرن الماضي (وفي بعض الأحوال تم ذلك جراء نضال عنيف) وتأسست فيها دول ذات سيادة. فكانت تلك الحقبة التاريخية حقبةً من النهوض والحماس الجماهيري، مليئةً بالآمال والتوقعات، أي حقبة من التطور المانوي الواضح، حيث كانت نفسية الجماهير المنتصرة يسودها الوعي المانوي المفعم بشعور البهجة والارتياح بكمال الوجود الإنساني، يرافقه النهوض العاطفي الذي لم يسبق له مثيل. كان هذا الأمر يساعد على توحيد المجتمع وتراصه الذي استمر فترة طويلة إلى حد ما. وكان الحماس الجماهيري يجعل الناس يصبرون ويتسامحون بوجود بعض المشاكل والصعوبات.

إلا أن الاحساس المانوي بالحماس والنهضة لا يستمر إلى الأبد. فصار الناس يدركون أكثر فأكثر مع مرور الزمن أن البلاد العربية، رغم بعض الانجازات المنفردة التي تحققت فيها ورغم بعض الحالات الاستثنائية، إلا أنها لم تحرز أية نتائج ذات شأن في المجال الاقتصادي، أو في تطوير مؤسساتها الديمقراطية، أو في تحقيق أمنها الوطني.

وفي الوقت نفسه، فإن تراص الأنظمة الطغيانية وترسخها في معظم بلدان المنطقة أدى إلى تفاقم الوضع، حيث انتشرت فيها البطالة والفقر والجور الاجتماعي السافر، وهذا الأمر الأخير ذو أهمية قصوى لأنه قد يقضي على الإنجازات الاجتماعية التي يحرزها المجتمع.. (ويجب القول إن الدول العربية التي عمتها الاضطرابات الجماهيرية، ما عدا، ربما، اليمن، لا تنتمي موضوعيا إلى مجموعة الدول المتخلفة أو الراكدة. فإن مصر، مثلا، كانت لها فرصة للتحول إلى إحدى دول العالم التي يتطور اقتصاداتها بوتائر سريعة، وذلك في الفترة التي لا تتجاوز 3 أو 4 سنوات). أضف إلى ذلك اغتراب الجماهير عن السلطة وغياب المشاركة في البناء الوطني، وادراكها بأن الحكام، إلى جانب اغتصابهم السلطة، أقاموا أنظمة تتسم بالفساد والسرقة التي لا يمكن مكافحتهما، ووضعوا تشريعات يدوم مفعولها عشرات السنين وتبيح لأجهزة القوة بتجاوزات فظيعة حتى أصبح بعضها يمارس التعذيب إزاء المحتجين – من ناحية، ويقضي على كافة الأقنية للتعبير عن الاحتجاج الاجتماعي – من ناحية أخرى. فتخلق هذه الأنظمة وتعزز وتوسع بنشاطها اليومي – دون أن تعي ذلك هي نفسها – تخلق قاعدة واسعة لانتشار الوعي الغنوسطي في أوساط المجتمع.

إنها صورة كاملة وواضحة للشعور باليأس الاجتماعي المطلق التي تلازم حالة استعداد المجتمع للانتقال إلى المرحلة المانوية. أما الانتقال نفسه فكان يتميز بالسمات التالية:

كانت الفكرة المانوية التوحيدية تتلخص في شعار بسيط مفاده "ليسقط الدكتاتور الذي أزعجنا جميعا". كان ذلك الشعار واضحا وبسيطا ومفهوما. وتركز أساسا على تحديد من هو العدو، فمعناه الباطني أن الانتصار على ذلك العدو سيؤدي إلى حل كافة مشاكل البلاد على الفور.إن إبراز صورة العدو هي الفكرة التي تشق المجتمع إلى شقين: الشق الأول يتمثل في "أصحابنا" والثاني في "الغرباء". وبذلك تكونت الظروف الملائمة لتصبح فكرةً ينبني عليها العالم الجديد، طالما لم تكن هناك أية فكرة أخرى تصلح لذلك.

أما سرعة الانتقال ومفاجأته فتعودان إلى شبكات الانترنت. كان دور تلك الشبكات يتلخص في التكوين السريع للفضاء الاجتماعي المناسب والارتقاء به إلى الحد الذي يفرض انتقال المجتمع إلى طور جديد. كان هذا الدور عظيما بالفعل. ولكن ليس أكثر من ذلك.

عندما نشاهد التلفزيون ونرى فيه سرور الجماهير المنتصرة وبهجتها، يظهر لدينا الإحساس بأننا كنا قد شاهدنا شيئا مماثلا في السابق. هناك أناس متحمسون يعتنقون بعضهم البعض ويرفعون أعلاما وطنية – إنها مشاهد البهجة الجماهيرية التي نراها في برامج الرياضة حين ينتصر فريقنا لكرة القدم على خصومه. والمعلوم أن عرض المباراة في كرة القدم وكل ما يحيط بها ليس إلا نوع من أنواع البديل الافتراضي الهادف إلى تشغيل الناس عن التفكير في الواقع المحيط بهم ونقلهم إلى عالم وهمي حتى يرتاحون فيه ويجدون فيه فرصة المتعة العاطفية. ويمكن القول ان الانقلابات من الطراز المانوي التي عمت الوطن العربي هي الأخرى نوع خاص من البديل الافتراضي الواسع النطاق الذي يلعب نفس الدور الاجتماعي، أي يتيح للأفراد فرصة ليتعدوا – ولو لفترة وجيزة – حدود الواقع المزعج والمتعب من أجل الحصول على النصيب الكامل من المتعة العاطفية.

إن الطابع المانوي للانقلاب يفترض استحالة أية حلول وسط، حتى القيام بالتفاوض بحثا عن تلك الحلول ("... ندمر كل شيء حتى الأساس.. ثم نرى ماذا يحدث في النتيجة" ). فبعد أن انشق المجتمع انشقاقا مانويا لا جدوى من الإدلاء بتصريحات متأخرة تحتوي على الوعود بالقيام بإصلاحات..

أما الآفاق المستقبلية التي يرسمها المنتصرون بعد تحقيق انقلابهم، فهي غامضة في أغلب الأحيان، إذ ان الأمزجة المانوية تستهدف قبل كل شيء إلى التدمير وليس إلى البناء. أضف إلى ذلك أن عمر الحماس المانوي ليس طويلا، فبعد أن تم تطبيق الشعار الوحيد – "ليسقط الدكتاتور!" – يبقى المجتمع دون أي شعار على الإطلاق، أي دون فكرة قادرة على تحميس أو تحريك الجماهير وتوحيدها. ذلك لأن القيام بالانقلاب من الطراز المذكور – كما أشرنا إليه سابقا – كان لا يحتاج إلى وجود أي برنامج سياسي مدروس أو أي حزب سياسي يطرح ذلك البرنامج. فكانت لا توجد بالفعل.. أما المشاكل والصعوبات الخاصة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسكاني فلم تتلاشى، وسوف يحس الناس بوجودها بعد قليل، ومن بينهم حتى الناشطين الذين شاركوا في الأحداث مشاركة مباشرة.. كما ستضاف إلى تلك المشاكل الفوضى الناتجة عن انقطاع نشاط أجهزة الدولة، وهو الأمر الذي لا مفر منه. والجدير بالذكر أنه من بين النازحين الواصلين الآن بكميات متزايدة إلى جزيرة لامبيدوزا، يوجد أولائك "الناشطين" الذين تناسوا أمزجتهم المانوية السابقة..

وفي أواخر الطور المانوي، أي بعد انتهاء النهضة العاطفية، تحل محل الحماس والبهجة مشاعر الخمول التي تجعل المجتمع يشبه "ورقة بيضاء" يمكن أن ترتسم عليها صور الماضي التي يزيّنه الناس أحيانا، إذ أنهم أصبحوا يدركون أنهم عاشوا في ظله حياة لا بأس بها مقارنة بالحاضر (على كل حال كان فيه النظام أكثر منه الآن)، أو قد تبرز على تلك الورقة نصوص مختلفة حتى النصوص ذات المضامين الراديكالية..