وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

أعراس القدس الغائبة

نشر بتاريخ: 03/02/2015 ( آخر تحديث: 04/02/2015 الساعة: 17:44 )
أعراس القدس الغائبة
لا أعراس في القدس؛ لا دفّ ينفض معه الحمامُ حباتِ الماس عن جناحيه، ولا كمنجة تذبح الدوريّ على السور، ولا عود يروي عروق الحجارة في الطرقات، ولا غيم على الفتيات يدفّ بأذياله الناصعة الطاهرة، ولا إكليل سوسن أو قرنفل، ولا بُحة رجال يمسكون بذراع العريس، ويدفعونه إلى الحوش النابض بالنسوة واللّوج والخمار الأبيض الذي تشف تحته شمس الليل، وهم يُصلّون ويسلّمون على الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم-.
لا صينية حنّاء وشموع، ولا جلوة ولا غلالات أو طيب أو أعواد بخور في المجامر، ولا زينة تتعلق بالدوالي والأقواس، ولا حلوى على أكتاف السناسل، ولا شراب مذاباً بِسُكّر التوت الغامق، ولا ملبّس ولا حافلات ولا أطفال ملفّعين بأزياء الكبار، ولا فساتين جديدة للعّمات والخالات، ولا نقوط ولا حقائب ولا دمع الانتقال من دار العذرية إلى بهو الزوج أو الأب الجديد، ولا صخب الغداء، أو امتلاء الأزقّة بالضيوف.
لا أعراس في القدس منذ وقعت "أوسلو" مثل كوكب الخراب على أرض المدينة، فأغلقتها ونشّفت عروقها وعزلتها عن الحياة، وأقامت حولها أسوار الفصل العنصري والإغلاق.
لا أعراس في القدس الأرملة الثاكل اليتيمة النائحة الجائحة المفجوعة أُم الحسرات ونبع الدمع والأحزان والآلام، لا أعراس لأبناء هذه السيدة إلاّ خارج أسوارها، حتى يتمكّن أقارب العروس أو العريس من سكان الضفة الغربية، الذين لا يحملون "هوية القدس"، ولا يستطيعون دخولها، من المشاركة في فرح ابنهم أو ابنتهم، فيقيمون الأعراس في بلدات شرقي القدس: العيزرية أو أبو ديس أو في بلدات شمالي القدس: الرام أو ضاحية البريد . وإذا كان أهل العريس من الطبقة المستريحة فربما يقيمون الفرح في بيت لحم أو أريحا أو رام الله، وعندها يكون العُرس في هذه المدن، وتكون العتمة والصمت في القدس الحزينة.

*

أعتذر، فإن ثمة مَنْ يغني للقدس! إنها "زهافا بن" اليهودية التي عَبْرَنَتْ أغاني أم كلثوم، أي جعلتها أغنيات عبرية برغم إصرار زهافا على ترنيم مطوّلات كوكب الشرق بالعربية، كما وردت على لسان الست!
وبعد الاعتذار، أنقل للعرب والمسلمين بشرى، وهي: أن سائقي التاكسيات وسيارات الأجرة في القدس العربية المحتلة يضعون أشرطة المغنين والمطربين الإسرائيليين، فتسمع صوت "شلومو ليفي" يلعلع في شوارع القدس العربية! وتُشنّف آذانك، أيضاً، أغنيات "إيال جولاني"، وتكاد تهتّز طرباً لدى سماعك صوت "إيتسك كالا" أو "حاييم موشيه"، وبالتأكيد تودّ أن ترقص على لحن أغنيات "شلومو سريف" المأخوذة من التراث والغناء اليونانيين. أما إذا سمعت أغنيات "سبلمنل فتسيل"، فإنك تخجل من التماهي مع موسيقاه وأغانيه، لا لشيء إلاّ لأنه يسبّ العرب في كل أغنية ويشتم "الأغيار، الأعداء، المتوحشين، الإرهابيين، قَتَلة الأطفال" العرب والمسلمين!
والملاحظ أن أغنيات المطربين هؤلاء هي نسخ عن موسيقى أو أغنيات يونانية أو تركية أو عربية أو غربية، ولا تكاد تجد أغنية إسرائيلية من لحم ودم وأعصاب ونسغ جديد، كإبداع وخلْق لم يسبق أن سمعته أو تعرّفت إليه، ما يعنى أن كل إثنيّة أو جماعة هاجرت إلى هنا حملت معها تراثها وثقافتها، وما فتئت تتكئ عليها وتعيش معها، أي أن هذه "الدولة" لم تستطع على مدار ستة وستين عاماً- هي عُمْر احتلالنا واغتصابنا ونكبتنا- أن تصهر في مرْجلها كل تلك الثقافات، وتنهض بثقافة "إسرائيلية" خالصة، حتى إننا نصل إلى نتيجة موضوعية تؤكد أن "ثقافة" هذا الكيان ما زالت ثقافة مُلفّقة وهجينة، وذلك يتضح في "العولام" أو ما يُسمّى بقاعات الأفراح أو المرابع الليلية، حيث ترفع كل "طائفة" أو "قومية" من شأن أغانيها، فتصطهج القاعة بأغنيات القوم أصحاب المناسبة أو القوم الحضور.
والملاحظة الأخرى أن بعض أصحاب محلات بيع الكاسيت والأقراص المدمجة والأشرطة الغنائية الموسيقية في القدس العربية باتوا لا يخجلون من عرض "البضائع الفنيّة" الإسرائيلية، بل ربما يضع صاحب المحل أغنية يبثّها بصوت مرتفع تسويقاً للمنُتَج الاحتلالي الغنائي، وبات الناس لا يُلقون بالاً لذلك، كأنهم اعتادوا أو ملّوا أو يئسوا، خصوصاً أن معظم الشباب المقدسي بات في كلامه يستخدم الكثير من المفردات العبرية كجزء لا يتجزأ من لغته المحكية، دون أن يثير ذلك استغراب أحد أو انتقاده! وبالتحديد تلك المفردات التي تتعلق بمؤسسات الاحتلال الصحيّة أو الأمنية أو التجارية، وما أكثرها!
والملاحظة الأخيرة أن القدس مأخوذة خلف جدار، ومعزولة عن محيطها تماماً، وبات غيابها عميقاً، فهي بالكاد تُذكُر على ألسنة السياسيين وبعض المثقفين.