وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

نتساريم كانت فخ موت وأضحت بقبضة أهلها... مفاجآت سارة ومؤلمة باتساعها المفرط على حساب المخيمات الضيقة

نشر بتاريخ: 13/09/2005 ( آخر تحديث: 13/09/2005 الساعة: 16:30 )
غزة- معا- أكثر ما استرعى انتباه مئات الأطفال الذين وصلوا الى مستوطنة نتساريم هو اتساعها المفرط ومساحتها الكبيرة، فلم يصدقوا أنهم كانوا وما يزالون طيلة 38 عاماً مع عائلاتهم متلاصقين في منازل صغيرة كالعلب في مخيمات ثمانية منتشرة على الشريط الطولي لقطاع غزة في حين كان بضع مئات من المستوطنين يسرحون ويمرحون في كل هذه المساحات الشاسعة من الارض.

كثير من هؤلاء الصبية الذين تراشقوا بثمار المانجو في مستوطنة نتساريم التي اخليت اعتقدوا انهم يعيشون حلماً، فامتداد البصر عندهم لم يأت على نهاية شوارع او أراضي المستوطنة، ولكن بسرعة تستدرك عقولهم أسوار المنازل الرمادية التي تصطدم بها أبصارهم والتي تعيدهم إلى الواقع في منازلهم الضيقة التي تحجب عنهم أشعة الشمس أو أي مساحة خضراء ولو صغيرة فور ارتطامها بتلك الأسوار والأسطح المتواضعة.

فضيق الشوارع والأزقة التي مر بها هؤلاء الأطفال في مخيمات الشاطئ، جباليا، المغازي، البريج، والنصيرات وأحياء الزيتون والشجاعية والتفاح بغزة، قادمين إلى فسيح الأرض في نتساريم ضربت رؤوسهم نوعاً من الدهشة والغرابة المتلازمتين بعدم التصديق انهم عاشوا بمساحة ضيقة جداً ليعيش قرابة 300 مستوطن فقط في مساحة كانوا يعتقدون أن وجودها بالخيال لا محالة.

المفاجأة باتساع حجم نتساريم وهي - من أصغر المستوطنات الإحدى والعشرين في قطاع غزة - كانت سارة جداً، خاصة للحاجة عائشة عبد القادر حميد "65" عاماً التي اتصلت منذ الفجر ب "مهجة قلبها " حسب تعبيرها وهو ابنها المطارد في الجزائر لتعلمه أن شمس الحرية أشرقت على غزة وان بقية الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس ينتظرون يوماً مثل الثاني عشر من سبتمبر يوم تحرير غزة.

وقالت لـ "معا" وهي تحتضن صورة الرئيس الراحل أبو عمار وقد قطعت عشرات الكيلومترات قادمة من حي الشيخ رضوان لتشارك في فرحة الدخول الأول لنتساريم :" مبسوطة كتير بس لسة ما في سلام إلا لما تتبيض كل السجون الإسرائيلية من المساجين زي هالشاشة البيضا" مشيرة إلى غطاء الرأس ومستذكرة كلمة الرئيس حول سلام الشجعان ومهدية الانتصار بالانسحاب إلى أرواح الشهداء.

أما الطفل محمد السموني " 12" عاماً القادم من حي الزيتون وهو الحي الذي أشبعته مستوطنة نتساريم المحيطة اجتياحاً وقصفاً وقتلاً على مدار أعوام الانتفاضة الخمس الماضية، فقد وجدته يقتلع جسماً إلكترونياً معلقاً على سياج إلكتروني واحد من عدد كبير من الأسيجة الملتفة حول المستوطنة.

ويبدو من حديثه انه يقتلع كل شيء يدل على الاحتلال أو على بقاياه انتقاماً لمقتل صديقه وسرقة أراضي عائلته لصالح تلك المستوطنة, وقال بلسان اكبر من عمره :" الحمد لله رجعت الأرض إلنا وعمي قدم كل اوراق اراضينا للسلطة وبننتظر شو العمل وإنشاء الله برجع الحق لأصحابه".

حتى أن السائق الذي أقلنا من مكان العمل إلى موقع المستوطنة المطلة على شاطئ البحر فوجئ لدى دخوله لأول مرة تلك المستوطنة بما آلت إليه من خراب ودمار وجفاف، فقال :" كأن الأشجار ما ارتوت ماء من خمس سنوات" وهو حقيقة ما رأته أعيننا فور دخولنا إلى المستوطنة والتي وصلنا لها في ربع ساعة فقط في حين كان المرور من أمامها باعثاً على الخوف والرعب الشديدين وخاصة في ساعات الظلام، نظراً لما كان يحيط بها من غموض ورهبة وما يحرسها من آليات وثكنات عسكرية ما تفتأ كل يوم تجرف الطريق الساحلي الواصل بين محافظات غزة والشمال ببقية القطاع الذي يمتد على طول 340 كيلومترا وقد أحيط بعدد من الاحزمة الأمنية في أقصى شماله وأقصى الجنوب.

وكجمهور لم يعرف الهدوء منذ وطأت أقدامه ميدان المستوطنة التي أخليت فجراً، تلقف الأطفال والشباب والشيوخ والنساء تراب المستوطنة التي التصقت بها كلمات الرعب والموت والأفخاخ المرعبة وإطلاق النيران الكثيف معلنين أن فرحتهم ستكتمل فقط حين تحرر بقية الأرض في الضفة الغربية والقدس وحين يتمكنون بحق من الذهاب إلى رام الله وبيت لحم والخليل والصلاة في المسجد الأقصى بحرية وانتظام دون خوف وقيود وجيش احتلال مهووس بالدماء والقتل.

هذه المستوطنة التي أقيمت في العام 1972 كانت من أقسى المستوطنات على أهالي قطاع غزة حيث اقامها الاحتلال الإسرائيلي في أخصب الأراضي الزراعية والأغنى في المياه العذبة الصالحة للشرب حتى افرغ القطاع بأكمله من أي شبر مياه عذبة حسب تصريحات سياسيين فلسطينيين، وقتل بالقرب منها 114 مواطناً بينهم 17 طفلاً تقل أعمارهم عن 16 عاماً، وثمانية آخرين تتراوح أعمارهم بين 16 و18 عاماً، ومن بينهم الشهيد محمد الدرة الذي قتل أمام عدسات الكاميرات على المفرق الشهير مفرق الشهداء الذي أشرفت عليه المستوطنة في الجهة الشرقية المطلة على شارع صلاح الدين.

وخلال الفترة ذاتها، دمّرت قوات الاحتلال 105 منازل بشكل كلي و35 منزلاً آخر بشكل جزئي تقع على تماس معها فيما تمتد هي في الوسط إلى الجنوب من مدينة غزة وتأكل أراضي تعود للمواطنين من حي الزيتون، الشيخ عجلين، تل الهوى، وقرية المغراقة القرية الوحيدة بالقرب منها، كما أشرفت في جهتها الشرقية على الشارع الرئيسي في القطاع وهو شارع صلاح الدين وخلفت وراءها مفرق الشهداء الدال على حجم جرائمها التي اقترفتها بحق المواطنين وخاصة الأطفال.

كما اتخذ الإسرائيليون هذه المستوطنة قاعدة عسكرية تتحكم بمدينة غزة والمحافظة الوسطى وقسمت القطاع إلى شطرين وقطنها عدد قليل من المستوطنين وعدد منازلها لم يتجاوز60 منزلاً دمرها المحتلون قبل رحيلهم وقلبوها رأساً على عقب.

التدمير الإسرائيلي لمستوطنتهم وبأيديهم لم يزعج الأطفال الذين احرقوا ما كان يسمى كنيساً لليهود فقالوا:" دمروا بيوتهم بإيديهم وتركو لنا الكنيس بدهم نهتم فيه .. شكلهم مجانين هدول اليهود".

وعلى بعد لم أصدق أنني يوماً سأصل إليه أقلتنا السيارة إلى القرب الشديد من خط الهدنة أو ما يطلق عليه الخط الأخضر حيث تتواجد قوة من الشرطة الفلسطينية التي اتخذت موقعاً لها ونصبت خيمة في مكان يطلق عليه " جحر الديك" ومن خلفه مساحات زراعية شاسعة يكسوها بساط من الحشائش الخضراء فيما جفت آلاف الأشجار داخل المستوطنة التي قتلت كل ما يدل على الحياة فيها وما حولها.