وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

اللعبة تتواصل ، والحنّاء على الأسلاك

نشر بتاريخ: 18/06/2015 ( آخر تحديث: 21/06/2015 الساعة: 09:30 )
اللعبة تتواصل ، والحنّاء على الأسلاك
الكاتب: المتوكل طه
أول إفطار في رمضان ، هو ساعة القشعريرة والبكاء الذابح الغوليّ، ومغرب الفُقْدان الضاري! إنه يومٌ تتجدد فيه الفجيعة، ويتذكّر الأهل مَنْ كان في رمضان الفائت ، ولم يعد !! ثمة نقصٌ جارح، وثمة شاهدان أو قضبان أو عيادة للمعاقين.. أو سفرٌ بعيد.

هنا صراخٌ مكتومٌ وحشيٌّ يكاد يهرس صدر الآباء والأبناء، وثمة موائد فارغة تتطاير كالمناديل السوداء على طرق المقابر.

ستهمد عيون الوالدين، وتظلُّ الجمرة ! وسيكبر الصغارُ وفي حلوقهمِ مرارةٌ مغثية، يكرهون معها الصيام والعيد ومناسبات التلاقي والثياب والحلوى.. والنسيانَ الذي يُبقيهم وحيدين دون يدٍ أو نداء.

وفي رمضان ، كباقي شهور السنة خذلتني التعويذةُ ، كانت خضراء، كغطاء قبور الأولياء، وأرادتها العينُ زرقاءَ كآفاق الفجر، ويا خُسران الرمّان! دم الأرض وقنديل الجنّة، فقد فـَقـَدَ الصولجان ذهَبَهُ الخالص، وخرجت من عصاه روحُ المحارب، وانتصر رجال المستنقعات.

والولد اللاهث هرباً من خوذات الدببة دلف إلى بيتٍ يقيه الموت، فكانت زليخة التي أجلسته مع وحدتها العطشى، وهدّأت من رعشته انتظاراً لرعشات أعلى، وعادت إليه كما ولدتها السماء، لكنه خاف فهرب غير آبهٍ بالحوت الحديدي الساحق.

والسجين الذي استعصى على مربعات الاحتواء، وعلى الحذف والإلغاء والإضافة، انفجرت لعبته بين يديه، فالرسّام الوهاب ضاق به ذرعاً، وكان يريده بحجم جُرْمه القصير الضئيل، لكنه طائر من أرض العماليق يئزّ على المنارات، فيشعلها بوعوده الأكيدة، إنه الآن حُرّ مثل مُلصقه الذي يحرس المدينةَ والناسُ نيام.

وفي رمضان نام الغدُ في البارحة، واستيقظ اليوم، كان شبيهاً بأمّه، التي اعتبرت نوستراداموس دجّالاً ولاعباً على الاحتمال البعيد.. الممكن.

وقبل الإفطار؛ أوقفه الحاجز، كانوا مستنفرين كالطوفان، وبعد أن أتمّوا حفلة الذّل والتفتيش والتنبيش عن الهواء، قالوا لامرأته أن تخلع كل ملابسها، فثمة وطن سينفجر في بطنها، وارتفع الصراخ الوحشي المجنون، وانغلق العقل- سيعرّونها غـَصْباً- وبعد دقائق كان دمه يشق جداول نحو الشجر اليابس على حافة المجنزرات، وامرأة تستلقي دون ثياب! والمؤذّن يعلن دخول الليل .

ولكن، ماذا يعني هذا؟ لا شيء سوى أن اللعبة تتواصل، ولنا أن نستمرئَ وَهْم الكلمات!

وفي شوارع القدس القديمة ؛ لم تتبدل عربات النحاس كثيراً، ولا الخيول أو الجنود، فلقد كانوا ينزلون بسرعة خاطفة إلى الأسواق، يبعثرون الدكك الخشبية الصغيرة، والطاولات الواطئة، فتقع عنها مِزَق الخضار والباقات وحبّات البيض والفاكهة، وكانت النساء، بثياب الحقول، يرجعن باكيات دون قطع روميّة نقدية قليلة. ومنذ ثمانية وأربعين، والجنود أنفسهم يهبطون بهراواتهم، فيركلون البسطات بالبساطير، ويدعسون على إضمامات النعنع والبقدونس والبصل الأخضر والجرجير، ويتدحرج التين والبرقوق، وتعود النساء اللاطمات دون قروش إلى البيوت المنذورة للهدم والتطـّرف.. والزوال.

ولغزّة التي تتسحّر على دمها المخثّر في العراء ، أقول ؛ أُحبُ وجَهكِ، والشررُ يرتعشُ عليه كالفراشات المتوهجة! وأُحبُ عينيكِ المغنطيسيتين، وثوبكِ الذي بلون زبد البحر! لكني في عالم فَقَدَ رشدَه، ولا يمنحني جنّةً لرمضان أحياها معك.. لأنّ الجنّة ليست مأدبةً عظيمةً فوق الغيوم، أو مشواراً في الليل المائي، إنها الحياة بلا احتلالٍ وجنازات وجنود.

وقبل مدفع الإفطار ، يدهمُ الجنودُ حوش البيت الريفي، ويتدفقون، ويقتحمون الغُرف والمطبخ والحمامات والمخزن، ولا أحد!

كانت المرأة مع ابنتها الطفلة، وأكدت لهم أنه لم يأتِ إلى البيت منذ شهور، اذهبوا وابحثوا عنه.

لمعت الفكرة في ذهن الضابط ؛ أحضَرَ الفتاة، ووضع باطن يديها على زهرات الأسلاك الشائكة، واحتضنها بكفيه، وراح يعصر على الأصابع الصغيرة، والأرضُ تصرخ.. تصرخ.. تصرخ، والعندمُ ينقط.. ينقط.. ينقط.

وما زال الحنّاءُ الناريُّ على الأسلاك.