وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

مراجعات الغنوشي: تجنحٌ أم ركوب لجادة الصواب

نشر بتاريخ: 28/06/2016 ( آخر تحديث: 28/06/2016 الساعة: 21:48 )
مراجعات الغنوشي: تجنحٌ أم ركوب لجادة الصواب
الكاتب: د.احمد يوسف


جاءت تصريحات الشيخ راشد الغنوشي في المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية بتاريخ 21 مايو 2016 بمثابة وقع الصاعقة على رأس الكثير من الإسلاميين، ربما من ناحية التوقيت وحجم التحول في الرؤية الفكرية والحركية التي انتهجها الرجل، الذي يتمتع بمكانة قيادية وتاريخية متقدمة في المؤسسات الدولية لحركة الإخوان المسلمين.

ونظراً لمنزلة الرجل وهيبته الفكرية، وسيرته الطويلة في مقارعة العلمانية والتغريب والظلم والاستبداد في بلاده، والتي استمرت لأكثر من أربعة عقود، حيث اضطر بعد سنوات من الاعتقال والاضطهاد في عهد الرئيس بن على إلى مغادرة تونس باتجاه الجزائر، ومنها للسودان، لينتهي به الحال بعد فترة قصيرة لمغادرة الخرطوم، وطلب اللجوء السياسي في بريطانيا.

في الثمانينيات، التقيت الشيخ راشد في بيته في العاصمة البريطانية لندن، وتعرفت عليه وعلى فكره الدعوي ورؤاه السياسية وتجربته الإخوانية، وأجريت حواراً صحفياً مطولاً معه لإحدى المجلات الإسلامية، ثم تكررت لقاءاتي به في أمريكا، حيث كان ضيفاً – دائماً - على مؤتمرات رابطة الشباب المسلم العربي (MAYA)، والاتحاد الإسلامي لفلسطين (IAP)، والجمعية الإسلامية الأمريكية (MAS)، وغيرها من المؤسسات المحسوبة على التيار الإسلامي في الغرب.

لقد أثرى الشيخ الغنوشي المكتبة الإسلامية بمحاضراته وكتبه، وعمَّق بتحليلاته واجتهاداته الفقهية والسياسية الثقافة الإخوانية، وأوجد أرضية للفكر المنفتح الذي يتمتع بالمرونة والوسطية، حيث امتزجت أدبيات دراسته في جامعة الزيتونة واطلاعه الواسع على "فقه المقاصد" للطاهر بن عاشور، مع واقع معايشته للثقافات المتعددة في الغرب، وأجواء التسامح والتغافر التي جمعت بين تلك الشعوب، بالرغم من الاختلافات الدينية والعرقية والبيئات الحضرية، لقد كانت تلك الرحلة الطويلة التي قطعها الشيخ راشد في تنقلاته لطلب العلم والأمان؛ من فرنسا إلى مصر وسوريا، إلى أن حط رحال الغربة في بريطانيا لأكثر من عشرين سنة، كانت حصيلتها – بلا شكٍّ - هو ما شاهدناه من عمق الرؤية والفهم، وسعة الصدر والحكمة، والتي لمسناها في حوارات الرجل وكتاباته، والتي منحته مقام الأستاذية والتميز بين أقرانه من مفكري الحركة الإسلامية ودعاتها.

تسونامي الغنوشي: الموقف وردود الفعل

ما الذي طرحه الشيخ راشد الغنوشي، وأحدث به هذه الصدمة، التي لم يتوقعها الكثيرون من الإسلاميين أو أنصارهم في العالم العربي والإسلامي؟

إن الذي ذكره الشيخ الغنوشي في ذلك المؤتمر هو أن النهضة تطورت من حركة عقائدية إلى حزب ديمقراطي، وإنها جادة في الاستفادة من أخطائها.. كما دعا لشراكة حقيقية بين كل القوى الوطنية والسياسية في البلاد، وإلى مصالحة وطنية شاملة تمنع توريث الأحقاد، وتعمل على بناء مشروع وطني يتطلع إلى المستقبل.

وقد شدد الشيخ أمام أنصاره على أن الدولة العصرية لا تدار بالأيديولوجيا، بل من خلال البرامج والحلول الاقتصادية، ومعالجة قضايا التنمية، والتشغيل لضمان العيش الكريم للمواطنين. وعلى المستوى الاجتماعي، دعا رئيس الحركة إلى "التهدئة الاجتماعية" من أجل إنقاذ الاقتصاد التونسي.

في الحقيقة، كانت هذه التحولات في لغة الخطاب - بالنسبة لي - هي بمثابة خطوة لتفقد خارطة الطريق، وإجراء مراجعة اضطرارية لحماية المشروع الإسلامي في تونس من الترنح والسقوط، وهذا ولا يعني التراجع عن الرؤية، بل محاولة لتصويب المسار وحماية البلاد من التصدع والانهيار كما جرى في بلدان عربية أخرى.

في الواقع، اختلفت وجهات النظر حول خطوة الشيخ الغنوشي بين مندهش وشامت ومصدوم، وكانت معظم التعقيبات التي صدرت عن مفكري اليسار العلماني والليبراليين وخصوم الإسلاميين هي التشفي والشماتة وقراءة المزامير، والقول: بأن "الإسلام السياسي"، الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين هو في حالة احتضار أو تودع منه، وأن الغنوشي بهذه المراجعات قد وضع نهاية له.

إن هناك العديد من المقالات التي خرجت عناوينها تبشر بقرب نهاية "الإسلام السياسي"، وأن هذا الخطاب الذي جاء به الشيخ الغنوشي إنما هو إرهاصات ذلك. ترى ما هي أبعاد تلك الحملة؟ وما هو الهدف من وراء القول بأن "الإسلام السياسي" وصل إلى حائط مسدود، ولن تقوم له قائمة بعد اليوم؟ ولماذا يتم تصوير المشهد وكأن الشيخ الغنوشي قد وضع عنق هذا التيار في حبل المشنقة، وحكم بالإعدام على كل ما يتحرك - سياسياً - باسم الإسلام.؟!!

إن الكثير من التحليلات التي سطرتها أقلام من خارج التيار الإسلامي كانت تحمل نبرة الشماتة والتشفي، وتأتي في سياق الانتقام والتشكيك بأطروحات الإسلاميين وفرص فاعليتهم في المستقبل، ولا تعكس قراءة موضوعية، حيث إن الحركات الإسلامية؛ سياسية أو سلفية تعيش في حالة من المدِّ والجزر، ولكنها – كالبشر - لا تموت إلا بأجل مسمى، وبعد أن تفقد حواضنها الشعبية، وهذه حالة غير قائمة اليوم، حيث ما يزال الخطاب الإسلامي فتيِّاً في جاذبيته ويلقى ترحيب الملايين من شباب الأمة، وأن حظوظه المتميزة بالنجاح وفرص الكسب هي الشاهد على ما نقول، كما أن تصدره في الانتخابات السياسية أو النقابات العمالية والاتحادات الطلابية هي ما يؤكد ذلك.

الغنوشي: أبعاد الرؤية والموقف

لقد حاول الشيخ الغنوشي توضيح خطوته التي أذهلت الساحة الإسلامية بالقول: "إن التخصص الوظيفي ليس قراراً، بل جاء تتويجاً للمسار السياسي والتطور وبحكم الدستور. فحركة النهضة تكرس بذلك التمايز الواضح بين المسلمين الديموقراطيين، الذين هم نحن، وبين تيارات التشدد والعنف، التي تنسب نفسها ظلماً وزوراً إلى الإسلام". وأضاف بصراحة وبدون مواربة: "إن حركة النهضة تطوّرت من السبعينيات إلى اليوم من حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية، عندما كانت الهوية مهددة، إلى حركة احتجاجية شاملة تدعو إلى الديموقراطية في مواجهة نظام شمولي، إلى حزب ديموقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر".

وكان أن سبق للشيخ الغنوشي أن أوضح فكرته تلك في حوار أجرته صحيفة (لوموند) الفرنسية معه بتاريخ 19 مايو 2016، والذي أعلن فيه أن حركته "ستخرج من الإسلام السياسي، وستتحول إلى حزب مدني، يفصل الدعوي عن السياسي".. قائلاً إن "حركة النهضة هي حزب سياسي، ديمقراطي مدني، له مرجعية قيم حضارية مُسلمة وحداثية". وأضاف: "نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المُسْلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون، ولا نعرّف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي، ونحن نتجه للتحول نحو حزب يختص في الأنشطة السياسية، بحيث يكون النشاط الديني مستقلاً تماماً عن النشاط السياسي". مضيفاً: "هذا أمر جيد للسياسيين؛ لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية. وهو جيد أيضاً للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفاً من قبل السياسيين". وقال أيضاً: إن مفهوم الإسلام السياسي شوهته القاعدة و(داعش). وفي رسالة وجهها للإخوان، قال: "طريقكم خاطئ وجلَبَ الويلات للمنطقة".

وفي سياق البحث عن إجابة لتبرير هذه الخطوة "التسونامي"، التي قام بها الشيخ الغنوشي، كتب الأستاذ فهمي هويدي مقالاً في صحيفة (الشروق) بعنوان: "ذكر ما جرى في تونس"، بتاريخ 31 مايو 2016، عرض فيه أجابه الشيخ الغنوشي لسؤاله حول رأيه في الأصداء التي أحدثها إعلانه السابق، في النقاط التالية:

أولاً) أنه لم يتحدث عن فصل الدين عن السياسة، لكن استراتيجية الحزب تنطلق من التمييز بينهما؛ لأن شمولية الإسلام لا تعنى شمولية الأنظمة العاملة له؛ ولأن مجالات تلك الأنظمة متعددة، فإن التخصص أصبح يفرض نفسه في الوقت الراهن. بوجه أخص فإن فصل السياسي عن الدعوى يسمح للدعوة بأن تستمر دون أن تتأثر جهود القائمين عليها بتقلبات عوامل المد والجزر، التي يتعرض لها الحزب أثناء التدافع السياسي.

ثانياً) إن حركة النهضة ظلت تطور أفكارها طول الوقت كما طورت عنوانها، فقد بدأت باسم "الجماعة الإسلامية"، ثم حملت اسم "حركة الاتجاه الإسلامي"، وبعد ذلك اختارت "النهضة" عنوانا لها، وفى مرحلة بورقيبة التي هبت فيها رياح التغريب قوية على تونس، كانت الحركة عقائدية تخوض معركتها من أجل الهوية، وفى مرحلة بن على ونظامه الشمولي والاستبدادي تحولت الحركة إلى احتجاجية تقاوم ظلمه وترفضه. وبعد إطاحة النظام السابق وحسم مسألة الهوية بالنص في الدستور على أن "دين الدولة هو الإسلام" فإن الحركة ارتأت أن تتحول إلى حزب ديمقراطي وطني له مرجعيته الإسلامية، والتزامه بمقتضيات الدستور وروح العصر، بالتالي فالتطور الأخير لم يكن نتيجة لإكراهات الواقع، وإنما هو تتويج لمسار تاريخي طورت فيه موقفها تبعاً لمقتضيات التفاعل مع الواقع ومواجهة تحدياته.

ثالثاً) إن تونس تعانى من التطرف على الصعيدين الإسلامي والعلماني، ومن أسباب التطرف الإسلامي أن الدولة في العهدين السابقين، وخلال ٢٢ سنة، فرضت حالة من التجريف الديني في تونس، وهى التي أطلقت الدعوة إلى "التحريض الديني"، وحين ركزت على مواجهة حركة النهضة، فإن ذلك فتح الأبواب واسعة لانتشار السلفية بمختلف أشكالها، وحين قامت الثورة أطلق سراح نحو ٣٠٠٠ سلفي، وهؤلاء استولوا على المساجد خلال السنوات الثلاث الأولى للثورة التي شغلت خلالها السلطة بترتيب البيت التونسي، وإلى جانب هؤلاء نمت حركة التطرف العلماني، الذى كان تأثره قوياً بالعلمانية الفرنسية المخاصمة للدين والمعاندة له. ومن تجربة حركة النهضة، التي تداخل فيها الدعوى مع السياسي، أدركنا أن السياسة أضرت كثيراً بالدعوة، التي ظلت ضحية الصراع ضد النظامين السابقين.

وتعقيباً على هذا التوضيح للشيخ الغنوشي، خلص الأستاذ فهمي هويدي إلى نتيجة مفادها: إن "هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن الخطوة التي أقدمت عليها حركة النهضة أقرب إلى التجربة المغربية في الفصل بين الدعوى والسياسي. إلا أنها تقدمت عليها في الخروج من فضاء الدعوة. وهى أقرب إلى النموذج التركي في الاكتفاء بالنشاط السياسي، وإن اختلفت عنها في المرجعية؛ لأن حزب العدالة والتنمية التركي مرجعيته علمانية وليست إسلامية.

وزيادة في التوضيح وتجلية الأمور كتب الشيخ الغنوشي مقالاً بعنوان: "شمولية الإسلام لا تعني شمولية الأحزاب الإسلامية"، بتاريخ 3 يونيه 2016، هدف فيه الرد على النقاش والجدل الدائر حول القرارات الأخيرة لمؤتمر الحركة العام العاشر. وقد كانت لغة العتاب على إخوانه في الحركة الإسلامية واضحة في كلماته، حيث أشار:

"كثيراً ما قادت شدة الغيرة على شخص أو هيئة أو قضية إلى ضربٍ من الخنق أو القتل، وفي الأقل إلى الإساءة، من حيث أريد الإحسان والحفظ، وهو ما يأتيه هذه الأيام بعض الغيورين على المشروع الإسلامي التونسي، في ردِّ فعل مبتسر ومتسرع لما أقدم عليه إخوانهم في تونس من تطوير لمشروعهم".

وأضاف موضحاً: "في مرحلة ما بعد سقوط آخر خلافة، وفي سياق أنظمة شمولية سائدة كالنازية والشيوعية والفاشية والقومية، نشأت تنظيمات إسلامية شمولية، تختزن داخلها تمثيل كل أبعاد المشروع الإسلامي الدعوية والسياسية والخيرية وحتى العسكرية، مما حسبه البعض لازماً من لوازم الإسلام والعمل لإحيائه، وليس بالتأكيد كذلك". وأشار بأن هذا النهج وإن كانت له مبرراته ومنافعه، إلا أنه جلب على المشروع الإسلامي بلايا عظيمة لجمعه بين أعمال من طبائع مختلفة إن لم تكن متصادمة، كالجمع بين العسكري والمدني، والجمع بين السياسي والحضاري، فكان يكفي أن تصطدم السياسة بالحكم وهي كثيرا ما تكون في مشاكسة وحتى صدام ، فتهب ريح السَّمُوم على كل غراسات الحقل لا تبقي ولا تذر.

وتساءل قائلاً: "هل بقي مجال في مجتمع مفتوح متطور إلى قيام مؤسسة أخطبوطية هي بمنزلة دولة شمولية تدير أخطبوطاً من المؤسسات المترامية الأطراف المختلفة الطباع؟ وما ضرورة ذلك؟".

وختم بالقول: "نحن هنا في النهضة اخترنا بعد تجربة زهاء نصف قرن في خدمة الإسلام والوطن، أن نقوم على خدمة ديننا ووطننا تونس ودولتنا الحبيبة، انطلاقاً من هذه الرؤية .

مراجعات الغنوشي: الأثر والتداعيات على القضية الفلسطينية

في ندوة عقدها مركز التخطيط الفلسطيني بعنوان "أثر المرجعيات الفكرية للحركات الإسلامية على القضية الفلسطينية" بتاريخ 2 يونيه 2016، وكانت مشاركتي فيها للرد على عدة تساؤلات بهذا الشأن، منها: أولاً؛ أثر المراجعات على الحركات الإسلامية الفلسطينية، وخاصة حركة حماس؟ ثانياً؛ هل ستؤدي المراجعات إلى تحولات تنظيمية (بنيوية/ وظيفية) على مستوى الحركة؟

كانت مداخلتي تتناول توضيح جذر المشكلة، حيث إن الحركة الإسلامية في كل مكان من عالمنا العربي تعيش أوضاعاً صعبة وحالة مأزومة، وتشهد تراجعاً ملحوظاً في شعبيتها، حيث تكالبت عليها الأنظمة والأمم لكسر شوكتها، ووأد طموحاتها في التغيير والإصلاح، كما أن ما يجري من تشويه وتدمير لصورة الإسلام العظيمة، وشيطنة مقصودة للإسلاميين وتيارات الإسلام المعتدل، عبر مشاهد القتل الوحشي والدمار الذي يمارسه البعض باسم الإسلام في سوريا والعراق، لا شكَّ أن ذلك قد أدى إلى ترجع الدعم والتأييد للقضية الفلسطينية، الأمر الذي فرض على بعض قوى "الإسلام السياسي" التحرك، وإجراء مراجعات لإخراج نفسها من دائرة الاستهداف، وما قام به الشيخ الغنوشي إنما هو محاولة ذكية للنجاة بالحركة الإسلامية في بلاده، وتجنيبها الدخول في مواجهات دامية قد تؤدي إلى استئصالها أو اقصائها عن الحياة السياسية.

وعليه؛ فإن أنظار الإسلاميين في كل مكان ترقب - اليوم - ما يجري من تطورات التغيير في تونس، كما كان الحال مع حزب العدالة والتنمية التركي، عندما قرر التصالح مع العسكر، وتقديم تنازلات بهدف الحفاظ على الدولة، وتحقيق الأمن الاستقرار والازدهار في البلاد. لم يسلم – آنذاك – الرئيس رجب طيب أردوغان من الاتهامات، التي وجهها له الإسلاميون من الدول العربية، والتي أثبتت الأيام بطلانها، وأن الرجل كان على حق، بديل أن الكل منهم – اليوم - مجمع على قيادته ونهجه الحكيم في العمل، بعدما نجح في الارتقاء ببلاده لتصبح دولة قوية تنافس الدول الكبرى، وتأخذ مكانتها بين الأمم .

أعتقد أن الشيخ راشد الغنوشي يمثل - اليوم - حكيم الحركة الإسلامية، وعلى الإسلاميين اقتفاء أثره، والبحث عن مصالحات وتوافقات مع الأنظمة القائمة تحمي البلاد والعباد، وتجنب الإسلاميين السقوط في وحل الإرهاب، والذي سيجعلهم عرضة لمعارك غير متكافئة مع الأنظمة الحاكمة، والتي تجد العون والإسناد العسكري والأمني من جهات غربية لا تريد لراية الإسلام أن ترتفع أو تحكم في بلادنا.

إن الخطوة التي قام بها الشيخ الغنوشي سيكون لها أثر في كل ما يجريه الإسلاميون من مراجعات بما فيهم حركة حماس، حيث باتت هناك قناعة لدى الكثير من تيارات الإسلاميين بضرورات الفصل بين الدعوي والسياسي، باعتبار خصوصية كلٍّ منهما.

وقد قرأنا – في مارس الماضي - ما كتبه د. عمر دراج؛ وزير التخطيط المصري السابق والقيادي في حركة الإخوان المسلمين، حيث طالب بضرورة القيام بـ"مراجعات سياسية بين الدعوي والحزبي". وقد غدت مثل هذه المطالب تتردد على ألسنة الكثيرين من قيادات الحركة الإسلامية في العديد من الدول العربية .

ختاماً.. إن السنوات الخمس القادمة سوف تشهد تحولات كبيرة داخل تيارات الإسلام السياسي، بما فيها حركة حماس، وقد يكون بعضها بنيوي، إذا ما نجحت تجربة الشيخ الغنوشي، وقدمت نموذجاً للاحتذاء.

وتبقى الحكمة التي تقول: لا يمكن الاستمرار في البقاء على نفس الحال فيما الحراك هو سيد الموقف.. فالحركات - كما الإنسان - حتى تحمي أركان وجودها فلا بدَّ أن يكون منطقها "نُغير ونتغير"، أي الاجتهاد في التكيّف مع المتغيرات، وهذا يتطلب – بالطبع – فراسة الرجل الرشيد، وفلسفته التي تعي جدلية المُلك والحكمة.