وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الرواية التي لم تُكتب بعد عن البؤساء في غزة

نشر بتاريخ: 03/11/2016 ( آخر تحديث: 03/11/2016 الساعة: 11:31 )
الرواية التي لم تُكتب بعد عن البؤساء في غزة
الكاتب: د. وليد القططي
الأدب غالباً ما يعكس واقع المجتمع وصراع الطبقات فيه وأحوال الناس , فيصّور الآمهم وآمالهم ، ويُعبّر عن معاناتهم وطموحاتهم , ويرسم نماذج بشرية من فقرائهم وأغنيائهم . والرواية من أهم أنواع الأدب التي تُلقى الضوء على الظلم الذي يواجهه الفقراء في المجتمعات الطبقية مُجسّدة في جرائم الأغنياء أولى الطول في المجتمع ضد الفقراء , أو ما يترتب على الفقر من جرائم يرتكبها الفقراء نتيجة للحاجة والحرمان . ومن هذه الروايات التي صوّرت ذلك : البؤساء والفقراء والحرام والجوع .

رواية ( البؤساء ) للروائي الفرنسي ( فيكتور هيجو ) تتناول مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية وما سادها من فقر مدقع وظلم اجتماعي , وتدور الرواية حول البطل ( جان فالجان ) الذي قضى في السجن تسعة عشر عاماً بسبب سرقته رغيف خبز ليطعم أخته وأطفالها الجوعى . المأساة التي تعرّض لها بطل الرواية لم تكن مأساة فردية , بل هي مأساة كل البؤساء على الأرض الذين تُقتل أحلامهم البسيطة وباسم القانون أحياناً , هذه الأحلام لا تزيد عن كونها توفير لقمة العيش لهم ولأسرهم .

ورواية (الفقراء ) أو المساكين أو التعساء للروائي الروسي ( فيودور دوستوفسكي ) تصوّر حياة الفقراء التعيسة في روسيا القيصرية , هؤلاء الفقراء الذين يعيشون دون أمل أو رجاء في الحياة . وتدور الرواية حول ثلاث رسائل عن حياة الفقراء الذين لم تُتح لهم فرص الانعتاق من بؤسهم , وتعرض لصور عديدة من مأساة الفقراء منها صورة أب يعجز عن معالجة ابنه المريض بسبب الفقر , وعبر في الرواية عن مأساة فقدان الحلم والأمل وانتظار غدٍ أفضل، التي تعتبر مأساة أكبر من مأساة فقرهم وبؤسهم .

ورواية (الحرام ) للروائي المصري ( يوسف ادريس ) التي تتناول حياة عمال التراحيل في الريف المصري , وتُسلّط الضوء على الظلم الواقع عليهم ومدى استغلالهم بدون ضمانات تحفظ إنسانيتهم وحقوقهم . والرواية ناقشت فكرة الخطيئة والحرام ومسؤولية المجتمع عنها من خلال بطلة الرواية ( عزيزة ) التي تضطر للعمل بدل زوجها المريض وتتعرض للاغتصاب ... فتوضح أن الحرام الذي وقعت فيه يندرج في دائرة حرام أكبر يقوم به أهل البلد هو الذي أدى إلى هذه الخطيئة ، تأكيداً للمسؤولية الاجتماعية عن الفقر .

ورواية ( جوع ) للروائي المصري ( محمد البسطامي ) تصف أحوال القرية المصرية الغارقة في الفقر والجوع والمرض والتهميش والجهل والخرافة . والرواية لا تقف عند حدود جوع لقمة العيش , انما تتناول الجوع المعنوي إضافة للجوع المادي , وهي تصوّر أسرة ريفية تجري وراء رغيف الخبز الذي يصبح همها وطموحها اليومي , ومن خلال تصوير جوع هذه الأسرة البائسة يطل علينا بجوع القرية الذي تسلل إلى كل تفاصيل حياتهم , ولكنه لم يقتل الأمل فيهم بحياة أفضل فلم يتخلوا عن الحب والحلم والأمل وانتظار الفرج ، التي بفقدانها يفقدون معنى ومبرر حياتهم .

ولكن الرواية التي لم تُكتب بعد هي رواية البؤساء في غزة التي ربما تفوق مأساة الفقراء والتعساء في الروايات التي عرضناها والتي لم نعرضها . وتأكيداً لوجود هذه المأساة في قطاع غزة فقد أصدرت ثمانون منظمة أهلية مؤخراً بياناً قالت فيه أن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة تتدهور بشكل خطير , حيث ارتفعت نسبة البطالة إلى نحو 42% ويعيش نحو 65 % من السكان تحت خط الفقر , منهم 38 % في فقر مدقع , ويعتمد نحو 80 % من السكان على المساعدات ... ويعود هذا التدهور حسب نص البيان إلى استمرار الحصار غير الإنساني الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة . وهذا يؤكد دور الاحتلال ابتداء من النكبة ثم النكسة وتبعاتهما من تشريد وتضييق وحصار وانقسام وغيرها على المأساة الفلسطينية خاصة في قطاع غزة .

وإذا كُتبت هذه الرواية عن بؤساء غزة بلغة أخرى غير لغة الأرقام فستكون مليئة بالصور المؤلمة التي لا ينضب مخزونها , فكم من بائس لا يستطيع إيجاد فرصة عمل ليسد رمق أطفاله الجوعى , وكم من رب أسرة أقصى طموحه أن يجد رغيف الخبز ليطعم أولاده , وكم من خريج وخريجة ذهبت أحلامهم أدراج الرياح وخطفهم غول النسيان بين جدران بيوتهم العتيقة لأنهم لم تتح لهم الفرصة لتأسيس بيوت جديدة ، وكم من أب يعجز عن معالجة ابنه أو ابنته بسبب الفقر أو لأنه ليس من علّية القوم ، وكم من شاب وشابة تحطمت أحلامهم على صخرة البطالة أو بوابة معبر رفح ألمغلقة وكم من فتاة انتظرت فارس الأحلام الذي لم يأتِ وقد لا يأتي أبداً لأنه لا يملك أن يفتح بيتاً جديداً أو يدفع مهراً لها , وكم من أحلام البؤساء البسيطة غرقت في مستنقعات الانتهازية والحزبية والفساد النتنة , أو تُرك أصحابها وحيدون في بحر متلاطم من أمواج الاحتلال والحصار والانقسام وكم من رذيلة انتشرت أو جريمة اُرتكبت في المجتمع بسبب الفقر والحاجة والحرمان ...

أليست الرواية التي لم تُكتب بعد عن البؤساء في غزة أكثر بؤساً من الروايات المكتوبة ؟! وإذا كان الأمر كذلك ألا ينهض أولو الأمر منا لتدارك هذه المأساة أو التخفيف من قسوتها على الأقل بما يقع تحت مسئوليتنا وبما يمكننا فعله وفي مقدمته انهاء الانقسام قبل الانفجار الذي سيوّزع شظاياه في وجه الجميع ! .