الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

بستان سامر يغتسل بعبق الجوري في الشروق والغروب

نشر بتاريخ: 24/05/2019 ( آخر تحديث: 24/05/2019 الساعة: 01:07 )

الكاتب: د. حسن عبد الله


فكرة جميلة ولدت هناك في الغربة، حيث أمضى المهندس سامر عشرين عاماً من عمره، بين دراسة وعمل، ينتظر يوماً أن يتسنى له تحقيق حلم طالما راوده وهو يبسط نظره متأملاً خضرة البلاد التي عاش فيها عقدين من الزمن. وهناك أينما كان ينظر توقظ الطبيعة الخلابة في داخله مشروعه الشخصي – الحلم - ويتمنى، وكم تمنى في النهارات والليالي الطوال، أن يعود إلى الوطن ليكتب بحروف من عرق قصته مع بستان زرع أشجاره وهندس ممراته في الخيال، لتترسم بدايات تحقق الحلم، ما إن ابتاع ثلاثة دونمات في بطن جبل يطل بعينيه على قرية بيت عور التحتا وينظر أبعد من ذلك بكثير، أي إلى فضاء الساحل.
كنت شاهداً على البدايات، وأحد الذين واكبوا مراحل إزالة الحجارة وتنظيف الأرض وتسويتها وانقاذ أشجار الزيتون القديمة التي غرست منذ عقود في هذا المكان، ولم تتلق أي نوع من العناية، وتركت وحدها تواجه مصيرها، وكأن قدرها أن تصارع من أجل أن تبقى. وشهدت خلال زياراتي بصحبة المهندس إلى المكان، كيف وفي أقل من ستة أشهر ضجت الحياة في بقعة كان كل ماضيها كئيبا مهملاً، وصارت ممهورة بالورد ومزدانة بأشجار مثمرة، حتى تشكلت قسمات بستانٍ كرس له المهندس الجهد والمال، مستعيناً بخبرات "أبي مؤنس" الذي له باع طويلٌ في البستنة والتعمير، لكن رؤية المهندس قد ترسمت على كل ساق شجرة، وعلى كل حجر، وعلى كل متر من الأرض. لم يرقب العمل عن بعد ولم يكتف بزيارات متباعدة، وإنما كان يستثمر ساعات ما بعد الظهر وأيام العطل الرسمية، ليتحرر من العمل المكتبي والروتين الوظيفي كونه يضطلع بمهمة إدارة مؤسسة تعليم عال خاصة فلسطينية لها مكانتها.
كان يبلور الفكرة، بعد أن يستعرض عبر مواقع متخصصة على "الإنترنت"، تجارب محلية وعاليمة، يقتبس منها ما يراه مناسباً لأرضه ويضفي عليها لمساتٍ فنية من إبداعه، مراعياً خصوصية المكان.
أحضر أسرته من بلاد الغربة، انطلاقاً من فلسفة أن الإنسان يجب أن يعيش في بيئته، ويتنسم هواءها ويشرب ماءها، فكما الأشجار تنمو وتخضر في تربةٍ تناسبها، ومناخ يلائمها، فإن الإنسان حينما ينتزع من بيئته، تظل جذوره غير قادرةٍ على التغلغل في العمق.

صار البستان متعة الصغار ووالديهم، يمضون فيه أجمل الأوقات، وقد تفتحت عقول وخيالات الأطفال في الطبيعة مع الزهور والأشجار، وأخذوا يوماً بعد آخر يميزون بين زهرةٍ وزهرة، ويتابعون النباتات وتنوعها ويتعمشقون أشجار الزيتون القديمة التي دبت فيها الحياة من جديد بفضلِ العناية الفائقة.

بستان المهندس تحوّل بعد خمس سنواتٍ إلى شاهد جمالي مبهر، حافل بتفاصيل كثيرة وأماكن مخصصة للجلوس والراحة والتأمل، وساحة لعب للأطفال، حيث تغيرت قسمات وملامح جبلٍ عانى إهمالاً ووحدة وحزناً وأصبح مسكوناً بالحياة. لكل شجرةٍ قصة ولكل وردة جوري سيرتها الذاتية منذ أن كانت نبتة في يد المهندس إلى أن غدت مصدر بهجةٍ وعبق.
ويخيل واعتماداً على تجربتي الشخصية مع الأشجار والنباتات في بستاني المتواضع، وكما رصدت ووثقت ذلك في كتابي "البستان يكتب بالندى".. يخيل لي أن الأشجار تشبه البشر، وفي أوقاتٍ كثيرة يتلبسني اعتقاد أنها ترى وترقب وتفرح وتتأمل وتتنشق العبير وتؤرخ رحلتها الحياتية "ذهنياً"، أتخيلها تعيش في مجموعات كما الإنسان، تتآزر وتتعاضد وتتقوى ببعضها بعضاً، تهمس، تضحك، تتبادل الحديث، وتتقن لغة الجسد حفيفاً وتمايلاً وتماوجاً.

في بستان المهندس تأملت أشجاره وأزهاره، ابتداءً من صفي النخيل على جانبي الطريق الموصل إلى عمق البستان وكأنهما جنود في حالة حراسة دائمة ومروراً بزاوية الصنوبريات إلى زاوية الجوري وركن الحمضيات و"حارة" اللوزيات، ووصولاً إلى خط الدفاع الرئيس "أشجار الزيتون"

البستان في منظور المهندس ليس مجرد أشجار وحجارة تحيط بها أو تصطف بانتظام ودقة بينها، وإنما هو مشروع حياة لأسرة تتكون من خمسة أفراد جاءت من بعيد إلى هنا، لأن الجذور تضرب في عمق الـ "هنا"، وتعمّد أفرادها جمالاً وعرقاً وبهجة وتأملاً وتوازناً وتسامحاً وتأقلماً. أسرة تعيش البستان عندما تكون في حضرته وبين يديه، وتعيشه بعد عودتها إلى البيت. وهل يوجد مكان في العالم من شأنه أن يجعل روح الصغيرة "هيام" تمرح وتبتهج وترقص وتنتشي سوى في هذا البستان؟!! ومن أين للطفل "حمزة" أن يُمسك قلمه ويرسم على دفتره الصغير تصوراً لملاحق جديدة مقترحة للبستان لو لم يكن قد ارتوى إبداعياً من البستان ذاته!!
ومن أين للصغير "عمر" أن يركض خلف فراشات تتطاير هنا وهناك بأجنحتها المنقوطة إلا في البستان!!
البستان قصة عشق المهندس سامر للأرض. البستان روحه المتماهية مع الطبيعة وروحه المتبخترة على وجه أرضه. البستان خلاصة قصة عودة واستقرار في الوطن، والبستان قصة فصولها تتابع لتجسد ذروة الالتحام بالوطن . والبستان الذي تطوّر مؤخراً ليغدو أوسع من بستان وأقرب إلى متنزه، بقيت هويته بستانية على وجه العموم، مفرداتها خوخ وتفاح ورمان وحمضيات ولوز وتين وعنب وإجاص وبرقوق وبلح و..و..
والأدق أنه ليس بستاناً بالمعنى الحرفي ولا متنزهاً واسعاً بالمعنى المحدد للكلمة، بل هو مزيج من حجارة بناء قديمة تم ابتياعها من القرى المجاورة ونقلها إلى المكان لتشيّد بها جدران ومجسدات هندسية بين الأشجار وفي الزوايا المنوعة، وتشكل أمام الناظر رؤية معمارية، يقول فيها الحجر القديم كلمته، وتنشد فيها الشجرة قصيدتها، فيتداخل جمال الشجر والحجر ويعزفان سيمفونية حلم كان وصار حقيقة تؤسس لحلم آخر بملامح جديدة يعطي للعمل محفزات، لكي يظل حصان الإنجاز يعدو بسرعة وقوة ورشاقة في الحقيقة والخيال على حدٍ سواء في متنزه أو مجموعة من اللوحات المعمارية أو مشهد خليط بجماليات كثيرة إلا أن روح البستان هي التي تسود وتنشر ألقها في المكان.
في كل ليلة يعود أفراد الأسرة من البستان إلى البيت، تهيئ "أم حمزة" العشاء وتتأكد أن كلاً من أطفالها قد تناول وجبته كاملة، فيما يراجع المهندس سامر بعض الأوراق الخاصة بـ "العصرية الجامعية"، وينام الأطفال في الحقيقة، بيد أنهم يتحركون ويلعبون في الحلم، يرى "حمزة" نفسه وهو يحتضن بذراعيه الصغيرتين بستاناً بمساحة ثلاثة دونمات!! أما "هيام" فتمضي ليلتها تمشط شعر زيتونة بطول وطن!! ويتقلب أصغرهم "عمر" في سريره، لأنه ظلّ يتنطط بين أشجار البستان، إلى أن توقظه أمه في الصباح الباكر ليتناول فطوره، في حين ينهض البستان من نومه ويتخلص من نعاسه ثم يغتسل بماء الورد الجوري، ويلبس بهاءه ويتعطر بالياسمين، ليسجل بداية يوم جديد في عمره المديد كجزء من طبيعة فلسطين.