الأربعاء: 08/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

مقدسيات..باب الأسباط .... الغزالي .... وحقوق الإنسان

نشر بتاريخ: 14/02/2016 ( آخر تحديث: 14/02/2016 الساعة: 12:56 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

لدى وقوف الزائر أمام باب الأسباط في القدس سيشاهد تمثالين لأسدين فوق الباب. وهذان قد نحتا أيام حكم الظاهر بيبرس وكانا موضوعين في خان له خارج القدس والذي أوقف عليه عدة أماكن من جملتها قرية لفتا. ولدى ترميم أسوار المدينة في زمن السلطان سليمان القانوني العثماني تم وضع التمثالين فوق الباب المذكور. وإذا ما سار الزائر عشرون خطوة داخل الباب سيجد الى يمينه مدخل المدرسة الصلاحية والتي كانت الدراسة فيها ولقرون عدة في مقام الدراسة في الأزهر في القاهرة. أما إذا ما انعطف زائرنا يسارا بعد دخوله باب الأسباط فسيجد أمامه ساحة معروفة بإسم "الغزالي". وقد دفن في زاويتها بعض ملوك مصر من الإخشيديين. وإذا ما استمر الزائر في السير فسيصل الى باب الرحمة من داخل سور المدينة. وهذا الباب قد أغلق منذ عهد صلاح الدين صونا لحرمة باحات الحرم الشريف. وإذا ما نظر زائرنا الى باب الرحمة سيجد في أعلاه غرفتان صغيرتان كان صاحبنا الامام الغزالي يعتكف بهما أثناء إقامته في القدس خلال عام 1098 م.

وقبل أن نسترسل في هذه المقالة يجب أن نضع كل ما ذكر في حقبته التاريخية. فالإخشيديين انتهى حكمهم في مصر والقدس في سنة 969 م, وتوفي صلاح الدين الأيوبي (مؤسس المدرسة الصلاحية) بعد أكثر من مائتي عام, أي في 1193 م. أما الظاهر بيبرس والذي اتخذ من الأسد شعارا له فقد توفي في 1277 م, وتوفي السلطان العثماني سليمان بعده بنحو ثلاث قرون, أي في 1566 م. وعليه فإن زائرنا في باب الأسباط ومن بعد خطوات منه سيستنشق نسيم ستماية عام من مرور الزمن على ذلك الموقع.

أما الامام محمد بن محمد الغزالي (أبو حامد) وباعتراف من يعلم في الشرق وفي الغرب فقد كان من أعظم مفكري الإسلام. إذ أن فلسفته والمناظرات بشأنها والتي كتب عنها العبقري الآخر الاندلسي ابن رشد تدرس اليوم في جامعة هارفارد وجامعة القدس وجامعة كوالالمبور في ماليزيا وغيرها. ولكن من غير الإنصاف أن نثقل على القارئ العادي خوض الافكار الفلسفية هذه. فذلك يحتاج الى ذوي الاختصاص والمعرفة. وعليه لندع الغزالي الفيلسوف جانبا. فالقارئ اليوم مثقل بتحصيل العيش وسبل حماية نفسه من الظلم. وأجدى بنا أن نفيد القارئ بحساسية الغزالي تجاه الظلم من خلال التطرق لعبقريته في الفكر القانوني. وتجدر الإشارة الى أن الغزالي كان من كبار علماء أهل السنة (إذ كان شافعي المذهب) ولكنه عاش ومارس فكره في القدس وبحرية تامة أثناء الحكم الشيعي (الاسماعيلي) الفاطمي للمدينة. فحرية الفكرغالبا ما كانت من سمة الدولة الاسلامية وبغض النظر عن مذهب حكامها من سنة أوشيعة.

إذا ما شأن الغزالي بالقانون وحقوق الإنسان ؟ وللجواب على ذلك يجب أن نذكر أن أهل الاجتهاد في الاسلام بعد القرن الرابع الهجري (وبعد أكثر من قرن على وفاة الامام الشافعي) خرجوا علينا بفكر جديد في القانون لم يكن سائدا من ذي قبل ولا يوجد مثيل له اليوم في الغرب. فقد ناظروا وحاججوا سؤالا جوهريا ألا وهو: لماذا نضع القوانين والأنظمة لضبط مجتمعاتنا ولأي غاية ؟ وشارك في مناقشة هذه الأفكار معظم التيارات الفكرية والدينية آنذاك من معتزلة وأشاعرة وكبارعلماء الدين مثل الجويني, الملقب بإمام الحرمين والذي كان أستاذا للغزالي. إذ لم تكن هذه الافكار وليدة شخص واحد أو فئة واحدة بل نتاج حوارات ومناظرات سعت للوصول الى استنتاجات مفيدة. ونتيجة كل ذلك أوجد المسلمون نهجا جديدا للاجتهاد أطلقوا عليه اسم "المصالح المرسلة" أو "مقاصد الشريعة". وكان الغزالي من الأوائل الذين شاركوا في مناقشة هذا النهج الفكري والذي استمر بعده لأكثر من قرنين من الزمان حتى وفاة العلامة الاندلسي الفذ الشاطبي في 1388 م. ثم ما لبث أن عم الخمول الفكري هذه الأمة حتى حل العصر الحديث. حينذاك بدأ رجال الإصلاح الديني يكتشفون كنوز فكر أسلافنا. فمثلا كان الامام محمد عبده (مفتي الأزهر) في أواخر القرن التاسع عشر يجهل الكثير من أعمال الشاطبي. ولدى اكتشافه لمؤلفاته ذهل لما قرأه وأمر بطباعة كتبه فورا.

لا يمكن تلخيص علم مقاصد الشريعة وتفريعاته في كتاب واحد. ولكننا نقول أن علماء الفكر القانوني الاسلامي استنتجوا أن الغاية من التشريع وسن القوانين هو جلب المنفعة للإنسان في خمسة أمور: بدنه وعقله ودينه وماله واستمرار نسله. وأن هذه الأمور جميعها متساوية في الأهمية, كما أن درء المفسدة عنها تأخذ الأولوية على جلب المنفعة لها. وقد وضعوا معايير للتفضيل فيما بين نواحي وتفاصيل الأمور الخمس المذكورة لدى حصول تضارب فيما بينها. وأكد الغزالي أن استقرائه للديانات الأخرى تشير الى سعيها لتحقيق ذات الغايات أعلاها. إن هذا النهج من الاجتهاد له أهمية قصوى في التشريع وسن القوانين في يومنا هذا. وهي خير بوصلة للاهتداء الى التفاصيل ضمن رؤية شاملة للجوهر. ونسوق فيما يلي مثالين ناقشهما الغزالي من خلال هذا النهج. الأول هو كيفية الجواب على السؤال عن ما إذا يجوز قانونا وشرعا أن نعذب المتهم لاستنطاقه, والثاني هو متى يجوز قتل البرئ.

كان تحليل الغزالي آية في المنطق والبساطة. إذ كان المفتاح عنده التمييز فيما هو مؤكد وما هو غير ذلك, أي تغليب ما هو قطعي على ما هو ظني وفق تعابير أهل أصول الفقه. وعليه فإنه من المؤكد أن تعذيب المتهم سيسبب ضررا له (سواء كان ذلك جسديا أو معنويا), علما أنه من غير المؤكد أن يكون لدى المتهم أي معلومات قد تدل على ارتكابه أو ارتكاب آخرين لجريمة ما. وعليه فإن درء المفسدة الأكيدة عنه ترجح على أي منفعة غير أكيدة قد تجنى من تعذيبه. وبلغت حساسية الغزالي تجاه صون حقوق المتهم أشدها حين كتب بأن ترك الضرب في مذنب أهون عليه من ضرب البرئ.

وهكذا أيضا تشدد الغزالي في حججه في صون حياة البرئ من القتل وكان يرى بأن قتله لا عهد به ولا أصل له في الشرع. وأضاف بأنه يجب توفر ثلاث عناصر مجتمعة للإقدام على قتل البرئ يكاد تحصيلها جميعا في آن واحد شبه مستحيل. الأول منها أن يكون قتل البرئ ضروريا, والثاني أن تكون فائدة قتله قطعية (بمعنى مؤكدة), والثالث أن يتعلق بقتله إنقاذ كافة المسلمين وبالتالي الإسلام. فإلقاء برئ من قارب لنجاة الآخرين من الركاب ليس فيه تأكيد على نجاتهم, وحتى لو هلكوا جميعا فهم قلة ولن ينتهي الإسلام بموتهم. والهجوم على قلعة تحصن الكفار بها وتترسوا برهائن من المسلمين لن تكون الغلبة فيه مؤكدة ولا نهاية للكفار بل كل ما هو أكيد هو مقتل الابرياء من المسلمين. كما أن التسبب في قتل الرهائن من المسلمين ليس ضروريا نظرا لتوفر فرص أخرى لمحاربة الكفار. وحتى الظالم من الناس لا يقتل في نظر الغزالي لأن ذلك ليس ضروريا للحد من ظلمه إذا ما كان في سجنه كف لإبعاد آذاه عن الناس. وأعطى الغزالي أمثلة كثيرة أخرى لبيان صعوبة بل استحالة اجتماع العناصر الثلاث التي يجب توفرها لقتل البرئ والتي استندت جميعها على التحري عن ما هو مؤكد وما هو مدعاة للظن.

إن حساسية الغزالي القانونية في صون حياة الإنسان البرئ وحمايته من الظلم أتى بعد اجتهاد فقهي مؤسس على دراية وعلم بكافة أوجه الشريعة. أن استنتاجاته لم تنبع عن عاطفة ولا نطقت عن هوى أو استحسان, أو فطرة مجردة. وهذا جوهر التشريع. وليس غريبا أن جاء هذا العبقري الفذ وغيره من علماء الماضي بهذه الأفكار قبل ثمانماية عام. ولكن الغريب أن العديد منا ينظر ببلاهة الى مؤسسات حقوق الانسان المنتشرة في الغرب اليوم وينتظر إعلانها عن ما هو منسجم مع حقوق الإنسان وما هو مخالف لها. والأغرب من كل هذا هو جهلنا لكتابات من سلفنا من ذوي الفكر الثاقب والتحليل السليم خاصة وأننا نتعرض اليوم لفائض من الظلم وسلب الحقوق.

يذكر الفيروزآبادي أن معنى "الظلم" في اللغة هو "وضع الشئ في غير موضعه". وعليه فإن النفس البشرية تأباه مهما طال عهده واستفحل شره, سواء تأتى منا أو من غيرنا.... ولا بد لليل أن ينجلي, أو كما روى أحدهم قبل مئات السنين ما رآه مكتوبا على قبر كافور الإخشيدي حاكم مصر وفلسطين والذي دفن في القدس:

أنظر الى عبر الأيام ما صنعت أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت
دنياهم ضحكت أيام دولتهم حتى إذا فنيت ناخت لهم وبكت