الأربعاء: 15/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

فلسطين...القوة الناعمة وعدالة القضية

نشر بتاريخ: 27/11/2017 ( آخر تحديث: 27/11/2017 الساعة: 11:20 )

الكاتب: صلاح الدين جابر
منذ نكبة عام 1948، واقتران اسم فلسطين بالقضية كتلازم قدري اوجدته العصائبية الاممية وغذّاه الضعف العربي والواقع الاقليمي المُستعمًرين، وما تلا هذا التلازم من ابعاد الثورة وشعارات القومية العربية ومشاعرها، دأبت شعوب العالم الثالث الرازحة اصلا تحت الاستعمار على توظيف مصطلح "عدالة القضية" كأحد ابرز ادوات المطالبة بالعدالة الانسانية، ولسان حالها يعبر عن حالة التشابه في المصير المشترك بين الشعوب المُستعمًرة والشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وأصبحت بذلك فلسطين بقضيتها العادلة همً الامة وضمير الانسانية وشاهدها الرسمي وشهيدها، تلا هذه المرحلة، مرحلة تحرر شعوب العالم الثالث وبدأت سفن الثورات ترسو على موانئ الدولة، فيما بقيت سفينة الفلسطيني لاعتبارات اممية تائهة في بحر الاحتلال، وفي خضمّ مرحلة الانتقال الجماعي لشعوب العالم من الثورة الى الدولة بدأت فلسطين القضية تتجه بخطوات متسارعة نحو وحدة المصير لا الحق في تقريره ، وذلك ببساطة لأن مقتضيات الدولة عند المستقلين الجدد تختلف عن مقتضيات الثورة عندنا إلا ما رحم ربي ، وهنا بدأت اولى خسارات القضية.
وبعد نكسة عام 1967 اصبح المزاج الدولي اقل تضامنا ، بل في حالات كثيرة اكثر تصادما مع القضية الفلسطينية ، متأثرا بتقدم المد القُطري على حساب المد القومي العربي ، في وقت كان الحديث فيه عن القضية الفلسطينية قُطريا اداة ناجعة في الدعايات الانتخابية والمناظرات الشعبية ، وباتت المصلحة السياسية هي المحرك الرئيسي لكافة اشكال العلاقة مع فلسطين القضية وهنا كانت ثاني خسارات القضية.
وعند قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 تنفيذا لاتفاق اوسلو ، اختلف المزاج الدولي بشكل واضح ومعلن ، وباتت كثير من دول العالم تمارس قوتها الناعمة في فلسطين بواسطة المساعدات العينية ذات الصبغة السياسية ، الامر الذي انعكس جليا على صدارة القضية الفلسطينية عربيا ودوليا كلما عصفت ازمة ما في العالم ، بل واقل من ذلك كلما طرأت مشكلة داخلية في أي بلد عربي مجاور ، وهنا كانت الثالثة كان لمرحلة السلطة وقعها على المزاج الشعبي الفلسطيني في النظرة الى الاخر كما النظرة الى الذات الفلسطينية ، حيث كانت المساعدات الدولية العينية مطلبا شعبيا شوًش على الصورة النمطية لفلسطين القضية ، وألحق بها اشد الضرر ونحمد الله ان هذه المرحلة لم تطل ولم تجد لنفسها مكانا تحت شمس فلسطين.
وعند بدء ما سمي بالربيع العربي ادركت القيادة الفلسطينية العلاقة الطردية ما بين الخراب العربي وتسمين الاحتلال ، وعليه كان لابد من نهج جديد يوضع فيه الحصان امام العربة وليس العكس ، بتجنيد العالم خلف عدالة القضية الفلسطينية وليس استخدام العالم لعدالة القضية خدمة لمصالحه ، وكان لنا نجاحات في ذلك اكبر من ان تذكر في مقالة واحدة ، اهمها الادراك بأن عدالة القضية وحدها لا تكفي لمواجهة الاحتلال ، بل التفكير بالعقل الجمعي الدولي والذي مفاده ان العلاقات الدولية ليست طريقا باتجاه واحد نأخذ فيه دائما دون مقابل ، ولعل تأخر التفكير الفلسطيني باستخدام ادوات القوة الناعمة كأولى خطوات التأثير ناجم عن الانخراط المبالغ فيه في التفاوض كطريق وحيد لتحقيق طموحات الشعب وتطلعاته ، وبعد سنوات عجاف من الانتظار ، وحيثما لم تفقس بيضة المفاوضات، جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 بتاريخ 29/11/ 2012 بمنح فلسطين صفة دولة غير عضو في الامم المتحدة ، الامر الذي اوجب حسما قاطعا لجدلية السلطة والدولة ، غير ان هذا الحسم المفاجئ لصالح الدولة اوجد حالة من الارتباك في التعامل مع المعطى الدولي الجديد اعلاميا وشعبيا وحتى رسميا، والأمر ليس بغريب ولا مستهجن ، كون هذا الارتباك سببا لمجموع التساؤلات التاريخية والتي تحاول ان تجيب بشكل او بآخر عن اين نحن من السيادة ؟ وهل معركتنا مع الاحتلال تنتهي بالضربة القاضية ام بمجموع النقاط؟
ولعل الجدل الدائر فيما يتعلق بالسلطة والدولة ينم عن اغفال السياق التاريخي لعملية التحول الفلسطيني من الثورة الى الدولة التي انتهجها الراحل ياسر عرفات وفق اتفاق "غزة اريحا اولا " ، والمتجذرة اصلا في الفكر الثوري لحركة فتح من خلال شعارات " الارض للسواعد التي تحررها " و " القبول بأي شبر ينتزع من العدو "، حيث كانت استراتيجية الراحل ياسر عرفات تقتضي البدء بالحصول على السلطة على مراحل وصولا للدولة عام 1999 وفق اتفاق اوسلو ، ولعلها الاستراتيجية نفسها التي يمارسها الرئيس محمود عباس فيما يتعلق بالدولة ، فصفة الدولة غير العضو ما هي إلا بداية وليس اقرارا نهائيا بسقف المطالب الفلسطينية المشروعة.
عندما سؤل الشهيد ياسر عرفات عام 1982 عند خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان الى اين انتم ذاهبون ؟ ، اجاب مبتسما واثقا : الى القدس ، الامر الذي ذكره خبير الاستراتجية والتواصل الدولي جون ويليامز بأنها اعمق رسالة سمعها يوما في مواضيع الاستراتيجية والتواصل الدولي ، انه الامل واليقين والإيمان المطلق بتحقيق الاهداف.
اين نحن من الدولة ؟
بناءً على ما تقدم ، وما سبقه وتبعه من شواهد تاريخية مشابهة في حالات التحول من الثورة الى الدولة ، برز الايمان بالدولة وجدانيا وذهنيا سابقا وممهدا لقيام الدولة ، ولولا ذلك الايمان لما خسرت الجزائر الثورة اكثر من مليون ونصف المليون شهيد بغية التحول من الجماعة السياسية والثورة الى الوحدة السياسية أي الدولة ، ولعل خلق الدولة وجدانيا وذهنيا في عقول وقلوب الشعب والقيادة على السواء عملا بنائيا مختلف المستويات إلا انه يجب ان يراعي معادلة كيف نرى انفسنا ؟ وكيف يرانا الاخرون ؟ وعلى الاجابة تبدأ عملية المراجعة الشاملة وفق اسس علمية تترجم الى خطوات عملية ، تشترك فيها كافة مؤسسات الدولة الى جانب مؤسسات المجتمع المدني بشكل متناغم كتسبيح واحد للإله الواحد وفقا للمعايير التالية :
1. ان نكون كفلسطينيين اكثر ايمانا من غيرنا بوجود الدولة والتصرف على هذا الاساس والبناء عليه
2. لن نكون مقنعين ما لم نكن مقتنعين بحتمية الدولة
3. الاستمرار بالمطالبة بالحقوق الفلسطينية بكافة الطرق المشروعة
4. الاستمرار بتعزيز العلاقات الدولية على اساس التكافؤ وليس على اساس التبعية
5. رد الجميل للدول الشقيقة والصديقة
ان جزءا كبيرا مما ذكر لخصته القيادة الفلسطينية في قرار جريء - يراعي الواقع الدولي الجديد - مطلع العام 2016 بتشكيل الوكالة الفلسطينية للتعاون الدولي ( بيكا ) لتقديم الدعم الفلسطيني للدول الشقيقة والصديقة بناءً على قاعدة التكافؤ ورد الجميل ، مع فتح المجال امام المؤسسات الفلسطينية الرسمية لاستثمار خبرات ربع قرن من عمرها .
وحينما شاركت (بيكا ) في اغاثة المنكوبين في زلزال كالسيتا في الاكوادور والتي ضمت 19 طبيبا وممرضا قدمت نموذجا مشرّفا للدور الفلسطيني المأمول ، ليأتي الرد الشعبي والرسمي الاكوادوري " شكرا فلسطين " ، شكر طال كل فلسطيني اينما وجد، تلاه عدد كبير من النجاحات الاستراتيجية ابرزها تشكيل الفريق الفلسطيني للتدخل السريع ، والذي انيط به تقديم الاغاثة الانسانية لمتضرري الكوارث الطبيعية ، حيث عمل لمساعدة منكوبي اعصار فنزويلا والحضور في منطقة الكاريبي وصولا الى القارة السوداء ، وبينما تجوب (بيكا) العالم مدعومة من كافة المؤسسات الرسمية والمدنية الفلسطينية ، تأتي الترجمة العملية لمجموع الدعوات الفلسطينية لصناعة استراتيجية وطنية لمقاومة الاحتلال بطرق غير تقليدية ، واني لأعتقد دونما مبالغة ان البراعة في استخدام ادوات القوة الناعمة لهي احد اهم وأنجع اركان الاستراتيجية الوطنية لمقاومة الاحتلال على الصعيد الدولي.
ان هذه التجارب الرائدة للوكالة الفلسطينية للتعاون الدولي ( بيكا ) ستبقى محط احترام وتقدير من قبل اصدقائنا في كل العالم ، تلهمنا كمؤسسات رسمية على اللحاق بالركب وتقديم خبراتنا كل في مجاله للانخراط في المنظومة الدولية بجانبها الانساني ونتائجها السياسية.
وتبقى فلسطين التي في خاطري دولة مكتملة الاركان ، تتفاعل مع محيطها الدولي بأدوات الدولة ، وتوظف خبراتها للتأثير والتناغم مع اصدقائها الدوليين ، ليست مكتفية بعدالة قضيتها وحسب بل تضمن لنفسها امتلاك ادوات التأثير وتطويرها بما يخدم قضايا الامة العربية وعلى رأسها ام القضايا قضية فلسطين.

وحدة العلاقات العربية والتعاون الدولي / وزارة الداخلية