الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

"لا صوت يعلو فوق صوت كورونا"

نشر بتاريخ: 09/04/2020 ( آخر تحديث: 09/04/2020 الساعة: 14:47 )

الكاتب: وزير الزراعة رياض عطاري

التاريخ قبل كورونا , ليس كما بعده , وهذا ما تؤكده  مقولة "أن التاريخ لا يسير بخط مستقيم ",  فلكل مرحلة رموزها ,أبطالها , قادتها  واختراعاتها , فبعد الحرب العالمية الثانية,  أعيد تشكيل النظام العالمي من جديد , وفقاً لقانون شريعة الغاب , حيث فرضت الدول المنتصرة بالحرب,  شروطها على الدول المهزومة ,وأعيد توزيع الثروات وفقاً لهذه المعادلة ,  وانقسم العالم من جديد, وفقا لسياسة المصالح  , وفي هذه المرحلة  تشكلت منظومة القيم الجديدة,  للتحكم بمقدرات الشعوب , بين معسكرين  متصادمين ,  يعملان وفقاً لنظرية الرأسمالية والشيوعية , وفي الحالتين تم تسخير مقدرات الشعوب , للتسابق في  صناعة أدوات  القوة والإرهاب للإنسانية , بدلاً من تعزيز مفهوم التنمية الاجتماعية بكل أبعادها ,   وتسابق المعسكران  في اختراعات إبادة البشرية , "تحت شعار حمايتها من خطر الأخر", ومع استمرار العجلة,  تغيرت المفاهيم في توصيف الاصطفاف,  ولكنها بقيت بالنتيجة موحدة في التسابق على احتواء مقدرات الشعوب  خلال حقبة من الزمن .

في عصر كورونا  وفي زمن قياسي لا يتعدى شهور , أعيد تشكيل موازين القوةقبل أن تبدأ المعركة ,  وبدون تخطيط  واتفاق مسبق ,  فرضت كورونا  بدون إنذار معلن , حالة الطوارئ في كل أنحاء العالم , وأصبح الجميع خاضعاً  لها ,  وبدأت حالة المخاض بين الدول , بالفرار عن بعضها , و ظهرت  منظومة القيم الجديدة   داخل الدولة نفسها , فتعزز السلوك الأناني في حماية الذات , على المستوى  الجماعي والفردي ,فالمصاب بالدولة متهم  يجب احتجازه , والمصاب  بالأسرة وجب التبليغ عنه , تغيرت العادات السلوكية التي استمرت عبر الزمن , وتغيرت سلوكيات العلاقة مع الجماعة والأفراد , وبهذا تشكلت الأنماط السلوكية الاجتماعية  الجديدة داخل الأسرة وخارجها ,   تغيرت منظومة القيم ,لإعادة التحكم في مسار البشرية,  بشكل مناقض لكل  ما رسمته مراكز التخطيط , التي أمضت وانفقت الكثير من الوقت والمال , حيث أعيد تقسم  العالم إلى معسكريين, الأول كورونا والثاني دول العالم مجتمعة , وبلحظة فارقة , أصبحت كورونا القوة العظمى,  التي وحدت كل الأعداء  ضدها ,  وأحدثت انقلابا  عالميا , وأبطلت كل معايير القوه للدول التي كانت تسمى بالدول العظمى , والتي أنفقت أرقاماً مالية لا يستطيع عقلي أن يضع تقديراً لها ,  في سبيل بناء أدوات السيطرة , فأدوات السيطرة قبل زمن كورونا كانت ترتكز على مجموعة من المرتكزات , ومنها "امتلاك الأسلحة , القوة الاقتصادية والمالية , الأيديولوجيا , النفوذ الدولي , القانون , القيم ,القدرات التعليمية والعلمية وغير ذلك " .

 كورونا استطاعت بعدة أيام او أكثر قليلاً. اختصار الزمن وحسم نتائج المعركة دون اتفاق , وأعادت  تعريف  مفهوم  السيطرة , وأسقطت  كل مؤشرات القياس لها  , فمفهوم السيطرة والقوة , أصيب بالعجز  , لأن نظرية   الانتصار بالحرب تغيرت, بالانتقال المفاجئ  من  مفهوم الهجوم إلى الدفاع , فكل الدول اليوم تحاصر نفسها,  لمحاربة عدوها الساكن في أعماقها  , وبذلك لم يعد مفعول القوة العسكرية,  للانتصار في الحرب  قائماً, لأن كل ترسانتها العسكرية معطلة , فهي  لا تسطيع إطلاق النار على نفسها , كما أن  نظرية الحماية الذاتية  التقليدية, انقلبت من مفهوم  الاختباء بالملاجئ المقاومة لأسلحة الدمار الشامل,  التي دفعت الشعوب الفقيرة ثمنها ,  إلى مفهوم  الاختباء  وراء قطعة قماش ( كمامة ) لا يصل سعرها ثمن فوطة,  لمسح الغبار عن جزء صغيير  من ترسانتها العسكرية ,و أصبحت العديد من دول العالم التي تمتلك صناعة الصواريخ عابرة القارات ,عاجزة  عنصناعة عصا  صغيرة((swap عابرة للأنوف .

كورونا غيرت معايير  موازين القوى, فأصبحت أية دولة فقيرة,  لديها مئة مصاب مثلاً,  مؤهلة لأن تكون  دولة نووية ,  تهدد السلم العالمي ,  بلا  تكلفة مالية , وأن تهدد أكبر دول العالم امتلاكا لأسلحة الدمار الشامل , فصفقات امتلاك القوة , أصبحت تشارك  بها الدول الفقيرة ,  كما الدول الغنية , فهي قادرة على تغيير كل الاتفاقيات الدولية التي لم تكن  يوماً , طرفاً بها , إلا من زاوية , إخاضعها للقوى المسيطرة بالعالم  , كما لم يعد هناك قيمة في عهد كورونا,  إلى أهمية  امتلاك عدداً من الدول,  للقوة القانونية والسياسية, للتحكم بالقرار السياسي  في أهم هيئة دولية ’ لأن كورونا أغلقت كل قاعات اتخاذ القرار,  على المستوى الدولي, فمن يمتلك اليوم كرت الفيتو في مجلس الأمن,  كمن يمتلك ورقة نقد مالية , لدولة لم تعد قائمة ,لأن  كورونا , اصبحت تمتلك حق الفيتوا لوحدها , لحظر عقد  اجتماع لأكثر من خمسة أشخاص , وهذا ما أفقد هذه الدول ممارسة ساديتها  على الدول الفقيرة ,  وبهذا أرادت كورونا أن تعيد اصطفاف العالم  من  جديد عبرتكريس المساواة بقوة الوباء الذي لم يعد امتلاكه حكراً على أحد.

كورونا أعادت صياغة مفهوم  العدالة الاجتماعية , وانصاع الجميع لها , وكرست المساوة بين البشر , أكثر مما وحدتها الأيديولوجيا والقانون , فهي أزالت كل الفوارق الطبقية , وأصبح الكل ضعيفاً أمامها , لأنه يمتلك نفس السلاح في الدفاع عن النفس , فالأثرياء فقدوا  قدرتهم واحتكارهم,  للتمتع بأموالهم المسروقة من الفقراء  عبر الزمن , ولم يعودوا قادرين  للوصول إلى أفخم الفنادق والملاهي والمطاعم,  التي بناها الفقراء بعرقهم  , ولا ركوب الطائرات التي اعتاد العمال ,  أن ينظفوا سلالمها  صباحا ومساءً , لم تعد المستشفيات حكراً لهم , فالمال لم يعد وسيلة للإقامة بأجمل الفنادق , بل الإصابة بالوباء هو الوسيلة, فبفضلها حقق  الفقراء  حلم إبليس بالجنة  ,   وبهذا تكون كورونا قد  أزاحت سلطة المال ,وأعادت تكريس  سلطة الإنسانية  , فكل الأسواق المالية تحطمت وانزوى الساسة في غرف مغلقة  كالمنبوذين.

في أوج سلطة الشيوعيين  والعلمانيين ,  لم يتمكنوا من إغلاق مسجد أو كنيسة,  في حين أن رجال الدين في عهد كورونا , أصدروا فتاوى لإغلاقها , فتوقف الطوفان في الكعبة , والحجيج في كنسية المهد , والصلاة في كنيسة القديس بطرس في روما , وفي مقابل ذلك عجز رجال الدين في زمن ما قبل كورونا أن يغلقو مسرحاً أو دار أوبرا , فقامت كورونا بمهمتهم .

كورونا غيرت مفهوم الوعي,  وأعادت للإنسان إنسانيته  من جديد,  بعد أن سحقتها عجلة الاستغلال  ,  فكل ما يجري اليوم يمثل حالة انشغال للحفاظ على الإنسانية , فالإنسان  اليوم يمثل المثلث متساوي الأضلاع ,فهو القوة التي تهدد العالم , وهو بنفس الوقت عامل النجاة  , و الهدف الذي يقاتل العالم من أجله , فكل مقدرات العالم تنهار بسببه , وكل التكنولوجيا عاجزة اليوم ,   عن استبدال دوره , فاليوم كل شوارع العواصم تخلو من المارة , وتتعطل كل عجلة الإنتاج في سبيل حمايته .

 كورونا  ألغت كل الفروق العلمية , وأحرجت مهنة الطب ولو مؤقتاً , فلم يعد شرطاً أن تنفق آلاف الدولارات لتكون طبيباً ,  فكل إنسان هو طبيب في هذه الحرب, فالإنسان اليوم يحتاج, فقط لقرار ذاتي  لحماية وعلاج  نفسه بدون طبيب , ودون تكاليف مالية .

كورونا اليوم هي العدو الأكبر للعالم , كما يصورها محتكرو القوة , الذين اعتادوا على ممارساتها , فهل نرفع لها القبعات , لأنها اعادت تكافئ موازين القوى بين شعوب الأرض,  وأزالت كل الفوارق الطبقية والعرقية والدينية  بينها , وجعلت الفارق بين إنسان وآخر,  بكونه مصاب أم لا , لقد حسمت كورونا شروط الانتصار بالمعركة الدائرة في كل شبر من العالم , فلم يعد  امتلاك الصواريخ, أداة الحسم لتحقيق الانتصار,  وإنما شروط الحسم,  سيحققها أصحاب الياقات البيضاء , الذين لا يملكون سوى أدوات البحث والقلوب الرحيمة , ومن سيمتلك لقاح علاج كورونا هو من سيمتلك حقيبة الأزرار النووية لحماية البشرية , بعد أن منحتنا كورونا لحظات هزيمة المنظومة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية , وأعادت للإنسانية مكانتها .

كورونا هي الاسم الأول الذي انتصر على كل الأسماء , دون دعاية أو ترويج باهظ الثمن , فهي اليوم ربما وصلت لكل بيت,  لتعلن أن "كل البشر سواسية"  فلا مناعة للأثرياء دون الفقراء , ولا ضرورة  لنهب ثروات الشعوب , لبناء  ترسانة الأسلحة , التي صممت لإبادة البشرية , وعجزت عن إبادة فايروس,  لا يرى بالعين المجردة , فهل تستحق كورونا جائزة نوبل للسلام  في العام 2020 بعد أن أبطلت مفعول كل أسلحة الدمار الشامل وهيأت فرصة للسلام العالمي  , فهل ستستفيد البشرية من الدرس بعد أن يقرع الجرس ؟