الخميس: 02/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

رمضان شلّح.. الرمز والفكرة

نشر بتاريخ: 13/06/2020 ( آخر تحديث: 13/06/2020 الساعة: 17:14 )

الكاتب: د. وليد القططي

لكلِّ شعبٍ رموزهُ الوطنيةُ الموّحَدة، وعناوينهُ القوميةُالموّحِدة، العلم الوطني، والنشيد القومي، والزعيم المُحرِر... وقد تتسع الرموز والعناوين لتُغطيَ مساحةً أكبر في العقل الجمعي الشعبي، خاصة عند الشعوب التي تعيشُ مرحلة التحرر الوطني كالشعب الفلسطيني، فامتدادها مع امتداد الزمن، فمن عزالدين القسام وعبدالقادر الحسيني وياسر عرفات وأحمد ياسين وفتحي الشقاقي إلى مروان البرغوثي وكريم يونس إلى محمد الدرة ورزان النجار وصولاً إلى رمضان شلّح، فحين يشتدُ ليل الاحتلال حِلكةً وظلاماً تبقى رموزنا نجوماً يهتدي بها الشعب إلى سواء السبيل وطريق الحرية.

وإذا كان الشعب الفلسطيني بحاجةٍ إلى الرموز الوطنية لتوّحده وتهديه،فهوأشد حاجةً لها في زمن الانقساموالفُرقة، وحينيعزُّ الإجماعُ الوطني يبدعُ الناسُ من رموزهم الوطنية الإنسانية قواسمَمشتركة تجمعهم وتوّحدهم... هكذا كانَ الأمرُمعرحيلِ القادة الرموز ياسر عرفات وأحمد ياسين وفتحي الشقاقي، وهكذا الأمرُ مع رمضان شلّح، عندما اختارهُ الفلسطينيون ليوّحدهم في لحظةٍ وطنيةٍ حرجة كانوابأمس الحاجة إليها، ليمنحوا أنفسهم لحظة وحدةوتوحيد، تُعطيهم شحنةً وجدانية، وقوة معنوية، وطاقة إيجابية، وحماسةوطنية...، فيُضفي عليها من روحهِ قبساً من المهابةِ والجلال، وجذوةً من العظمة والوقار... فكان رمضان شلّح من أولئك الرموز الذين جسّدوا معاني السمو في الغايةِ والوسيلة، وقيم الثباتِ على المواقف والمبادئ، وصفات القيادة المتمسكة بالحقوق والأهداف، وسمات الزعامة المؤمنةِ بالشعب والنصر.

لقد كان أبو عبدالله منالذينَ آمنوا بشعبهم وقدرته علىصنعالمعجزات وتجاوز التحديات، فالفلسطينيقادرأن يأخذ الريح إلىاتجاه النصر، فبادلهُالشعبٌ نفسَ الإيمان، ففي حضرة الغياباستحضره شعبهُ في عُرسٍ وطني مشهود، خرج فيه من سجون الحزبية الضيقة إلى فضاء الوطن الواسع، وتحرر فيه القائد الوطني من أُحادية اللون الواحد لرايات الفصائل الحركية إلى تعددية ألوان علم فلسطين الوطني... فلم يُعد رمضان شلّح أميناً عاماً لحركة مقاومة فلسطينية فقط، بل قائداً فلسطينياً، ورمزاً وطنياً، ومُفكّراً ثورياً، وزعيماً وحدوياً، وفارساً شجاعاً... قال كلمته بصدق ورحل، وسجّل شهادته بشجاعة وغادر،وأدى واجبه بمسئولية ومضى، ونصحَ قومه بأمانة وذهب، وأوجع عدوه بقوة وترجّل... وعبّرَ عن ضميرِ شعبه، وروح أمتهِ، ورائحة أرضه، وبرتقال الجليل،وعنب الخليل،وزيتون غزة، وشعر محمود درويش، وأدب غسان كنفاني، وتمرد القسام، وثورة الشقاقي، وجهاد الياسين... وكان نتاج كل ذلك تمسكه بالحقوق الوطنية بقوة لا ضعف فيها، وبوضوح لا غموض فيه، وبمثابرة لا مساومة فيها، وبعناد لا هوادة فيه، وباستراتيجية لاخداع فيها... ففلسطين من البحر إلى النهر، وليست الضفة والقطاع، والقدس الموّحدة الكاملة، وليست القدس الشرقية، والتحرير يتم بالمقاومة والجهاد، وليس بالتسوية والتقسيط.

رمضان شلّح كان واضحاً وحاسماً في مبادئهِ الفكريةومواقفه السياسية المتمسكة بالحقوق الوطنية الفلسطينية والمعارضة الجذرية لنهج التسوية واتفاقية أوسلو ومُخرجاتها، وكان صادقاً مع نفسهِ وحركتهِ وشعبه، فلم يُشارك في أي مؤسسة سياسية أفرزتها اتفاقية أوسلو أو تحت سقفها، تماماً كسلفه الشهيد فتحي الشقاقي، ورغم ذلك كان خطابهُ السياسي وطنياً محوره رفض نهج التسوية بعيدا عنمُهاجمة الأشخاص وتخوينهم، وإقصاء المُخالفين تمهيداً لشيطنتهم وتجريمهم وصولا إلى سفك دمائهم _وهذا أصل الفتنة والاقتتال الداخلي_، فقد آمن أن الاختلاف مع إخوة الوطنمهما كان كبيراً وعميقاًيبقىفي دائرة الخلاف الفكري والسياسي، بالإمكان أنيُحل بالحوار الوطني، ليبقى التناقض المركزي مع العدو المُحتل للأرض، ليواجه بالعنف الثوري والمقاومة المُسلّحة،آمن بالوحدة الوطنية القائمة علىكل مكونات الشعب الفلسطيني، وبالشراكة الوطنية المرتكزة على عدم نفي الآخر، ولم يمنعه خلافه معالزعيم الراحلياسر عرفات على إنصافه كقائد تاريخي كبير دفع حياته ثمناً لدفاعه عن حقوق شعبه الوطنية.

وكما كانالمُفكررمضان شلّح ضد التخوين السياسي في الإطار الوطني، كان ضد التكفير الديني في الإطار الإسلامي، إدراكاً منه بخطورة مآلاته ونتائجه.فخط بحروف من ذهب وثيقته الفكرية لحركة الجهاد الإسلامي في لحظة تاريخية زاخرة بأمواج الفتن، في كتابه (الأسس والمفاهيم الإسلامية) كاشفاًاللثام عن أساس معضلة التكفير لبعض الحركات، النابع من إيمانها بأنها اوحدها الفرقة الناجيةوتمتلكالحقيقةالمطلقة بما تمتلكه من تفسير وتأويل خاص بها للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فمن كلماته النورانية فيمقدمة الكتاب "لا تزعم الحركة أنَّ هذه الوثيقة تُعبّرُ عن الحقيقة المُطلقة النهائية أو خاتمة فهمها للإسلام، بل هي اجتهاد متواضع في زمن الصراع على الإسلام"، وبهذاالوعيأخرج نفسه وحركته من أُحاديةِ الرؤية، والنظرة الإقصائية،وعقيدة الفرقة الناجية، بما تحمله من مخاطر على المجتمع والأمة، ومؤكدا فينفس السياق رفضهأنْ تُعرّف أي حركة إسلامية نفسها بأنها (جماعة المسلمين) واعتبرها (جماعة من المسلمين)، والفرق بينهما كالفرق بين الموت والحياة.،هكذا كان رمضان شلّح الرمز والفكرة.

أمّا رمضان شلّح المجاهدكما عرفه كاتب هذه السطور من خلال شهادته ومشاركته في إحدى محطات حياته وسيرته الجهاديةفي النصف الأول من ثمانينيات القرن السابق، وهي محطة عودته إلى الوطن مع رفيق دربه ومعلمه الشهيدفتحي الشقاقي_الذي وصفه بالجامعة، حينقال في ذكرى رحيله أنه تخرّج من جامعتين في مصر، هما جامعة الزقازيق وجامعة فتحي الشقاقي_ ،وتضمنت تلك المحطة مشاهدَ عديدة امتدت ما بين مساجد غزة خطيباً وداعياً للإسلام وفلسطين والجهاد، وباحات المسجد الأقصى المبارك بالقدس في ليالي القدر مُبشّرِاً بالثورة ومُحرّضاً على المقاومة، وبيوت حارات غزة ومخيماتها- بعضها بحضور المعلم الشهيد فتحي الشقاقي–مُنظّرِاً لنهج الإيمان والوعي والثورة، وزارعاً لبذرة الإسلام المقاومفي فلسطين... وصولاإلى محطة الغُربةعام 1986، مع غربةكاتب هذه السطور بعدها بثلاث سنوات إلى محطة السجن... حتىدار الزمن دورته بعد عشرين عاماً فكان اللقاء في دمشقحيث وصلقطار حياته وجهاده إلى محطة الأمانة العامةثم إلى مرحلة الغياب.

رحمك الله يا أبا عبد الله،حاولتتوحيدنا حياً ووحدتنا ميتاً كما وصفهكاتب تقرير تلفزيون فلسطين عندما كتب يقول: "وحدتنا يا رمضان، أيُّ قامةً وطنيةً هذه التي ترحلُ في زمنٍ صَعُبَ فيه اجتماعنا، ويُحيلنا بموتهِ من انقسامٍ إلى اتحاد، أيُّ رجلٍ هذا الذي استطاع برحيلهِ أن يُعيدَ إلينا الثقةَ بأننا بخير، وأن أخلاقنا الوطنيةِ ما زالت بعافيتها، وأنَّ فلسطين توّحدنا فعلاً وليس شعاراً... استطاع بهذا الرحيل أن يشعرنا بقوتنا ويجدد فينا عنفوان الفلسطينية الواحدة بكل ألوانها، فالكل الفلسطيني نعى قامةً وطنية صاحبة فكر وطني لا قداسة عندهإلاَّ لفلسطين من بعد الله... أخلاقه الوطنية ستظل تُقدّم دروساً في أخلاقيات الاختلاف دون الخلاف على الهدف...".