الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الجانب المظلم من حملة التطعيم الإسرائيلية

نشر بتاريخ: 28/01/2021 ( آخر تحديث: 28/01/2021 الساعة: 11:20 )

الكاتب: د. جمال زحالقة

اجتاز عدد الإصابات بوباء كورونا في العالم 100 مليون، ويتسارع التزايد في هذا العدد يوميا بسبب ظهور طفرات للفيروس، تنتقل بشكل أوسع وتجعل الإصابة به أسهل، ما يجعل الجائحة أكثر خطرا، ويصعب مواجهتها والوقاية منها.

وإذ ينهمك العالم بالجري وراء التطعيم، الذي أثبتت التجارب أنه آمن وفعال، تتوجه الأنظار، بشكل لم يكن متوقعا، إلى دولة صغيرة مثل إسرائيل. ويعود هذا الاهتمام بتداعيات الوباء في إسرائيل إلى ما يسمى «التجربة الإسرائيلية» التي تجري على أساس صفقة بين شركة «فايزر» الأمريكية، التي كانت أول من أعلن تحقيق النجاح في تطوير لقاح فعال وآمن، والحكومة الإسرائيلية، الذي يهدف إلى تطعيم شامل في إسرائيل حتى بداية آذار/مارس المقبل، لتكون أول دولة في العالم تقوم بذلك، وحتى تعلن إسرائيل وفايزر معا الفوز في المعركة ضد وباء كورونا.

وإذ تتأهب إسرائيل للاحتفال بنصر جديد، وبإعجاب عالمي جارف بنجاح حملة التطعيم والقضاء على الوباء، وضعت منظمات حقوق إنسان علامات استفهام حول الجانب المظلم من حملة التطعيم الإسرائيلية، وهو أنها تعبير آخر عن الأبرتهايد الإسرائيلي، وهذه المرة الأبرتهايد الصحي. ومثلما كتب فولتار بنيامين في نصه المذهل «حول فكرة التاريخ» فإن «أي شهادة على الحضارة تحمل في الوقت نفسه شهادة عن البربرية». ومع أن الشهادة عن البربرية كثيرا ما تكون خفية، وبحاجة إلى سبر الأغوار لاكتشافها، فهي في حالة الأبرتهايد الإسرائيلي مكشوفة ومفضوحة، حيث أن دولة الاحتلال، التي تتحمل المسؤولية القانونية وحتى «الأخلاقية» إذا صح التعبير، عن صحة وسلامة الواقعين تحت الاحتلال، تتهرب من هذا الاستحقاق وتعرض حياة الناس للخطر، على الرغم من مسؤوليتها، ومن قدرتها على حماية صحتهم وأرواحهم. وهذا ليس خرقا «عاديا» للقانون الدولي الإنساني، بل هو جريمة ضد الإنسانية، فالتسبب بالموت بالتهرب ليس أقل فظاعة عن القتل المباشر. لقد طرحت «منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان» مسألة تطعيم الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال، في رسالة وجهتها إلى وزارة الصحة الإسرائيلية، طالبت خلالها «باقتطاع كميات نسبية من التطعيمات للفلسطينيين في الضفة والقطاع، لأنهم تحت احتلال يمنعهم من الحصول على حقوقهم الصحية بشكل مستقل». وأكدت المنظمة أن «إسرائيل تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية وإنسانية لتطعيم الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال، استنادا إلى معاهدة جنيف الرابعة، التي تلزم دولة الاحتلال بتوفير وسائل الحماية والوقاية اللازمة، لمنع انتشار الأوبئة والأمراض المعدية». تعالت مثل هذه المطالب من دول ومنظمات وهيئات، وبدأت حملة غير منظمة (للأسف غير منظمة) لفضح جريمة الاحتلال الصحية، التي ذهب وسيذهب ضحيتها آلاف الضحايا الفلسطينيين. وما يزيد من مسؤولية دولة الاحتلال، أن الجائحة انتقلت من إسرائيل إلى مناطق السلطة الفلسطينية، التي فرضت، ولأول مرة، إغلاقا من جانبها، بعد أن كانت إسرائيل هي التي تفرض الإغلاق. وقبل أن تأخذ حملة فضح الجريمة الصحية الإسرائيلية مداها، سارع المدافعون عن جرائم الاحتلال إلى اختلاق الأعذار وتبرير التملص من المسؤولية استنادا إلى التفسير الإسرائيلي للقانون الدولي ولاتفاق أوسلو المشؤوم ووليده اتفاق باريس المجحف.

وردا على النقاش حول مسؤولية إسرائيل كقوة احتلال، كتب السفير الإسرائيلي السابق في كندا وعضو «منتدى الضباط القومي» د. ألن بيكر، مقالا في صحيفة «معاريف» بعنوان «تزويد سكان المناطق (المحتلة) بالتطعيمات ليست مسؤولية إسرائيل» ادعى فيه أن إسرائيل ليست دولة محتلة، وأن معاهدة جنيف الرابعة غير سارية المفعول في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكما هي عادة أبواق الدعاية الإسرائيلية، بدأ بالشكوى والتباكي من أنه «كما كان متوقعا وكما هي الحال مع أي إنجاز إسرائيلي إيجابي، يجري تشويه مشهد النجاح الإسرائيلي في الحصول على التطعيم ضد فيروس كورونا، بموجة عكرة موازية من النقد المعادي لإسرائيل من أطراف دولية ومنظمات ودول ومن الإعلام العالمي».

من المهم أن يكون هناك رد مفصل ومقنع على الادعاءات الإسرائيلية، التي قد تبدو للفلسطيني أو العربي واهية، لكن حتى تكون واهية بنظر العالم يجب أن يكون هناك توضيح، وأن لا نقع مرة أخرى في فخ أننا نعرف أن «الحق معنا» وأن ذلك ليس بحاجة إلى شرح وإثبات. فما دامت إسرائيل تطرح ادعاءاتها بالتكرار وبالتفصيل، في غياب رد عربي وفلسطيني مناسب، تبقى الرواية الإسرائيلية هي الغالبة. وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام تقريرا مطولا ومفصلا، تناول بإعجاب حملة التطعيم الإسرائيلية، ولم يرد فيه أي ذكر لمسؤوليتها كدولة احتلال في توفير الحماية الصحية للفلسطينيين، الواقعين تحت الاحتلال، والمعترف به دوليا كاحتلال، ويبدأ المقال بجملة «إسرائيل تقود العالم في تطعيم سكانها ضد فيروس كورونا تأتي علينا بالأخبار المشجعة» ثم يستعرض ما تقوم به وزارة وشركات الصحة الإسرائيلية، لدرجة اعتبارها مثالا يحتذى به، من دون ذكر للابرتهايد الصحي ولا حتى لكلمة ضفة أو غزة. تقارير من هذا النوع وهي كثيرة، أقوى من مقالات الدفاع عن الموقف السياسي الإسرائيلي، لأنها تصور الحالة الإسرائيلية كحالة طبيعية، عبر تجاهل الضحية ومعاناة الضحية، فقط صحة وعلوم وتكنولوجيا ومشهد حضاري مفبرك، يعرض كأنه الواقع، فيبدو كل من يناقش كأنه «يخرب الحفلة».

ما هي إذن الادعاءات الإسرائيلية للتملص من المسؤولية لحماية صحة الواقعين تحت الاحتلال؟ لم يصدر عن إسرائيل أي موقف رسمي بهذا الشأن، ولكن أبواق دعايتها تتحرك بسرعة لصد أي حملة تفضح السلوك الإسرائيلي الإجرامي بهذا الشأن:

لا يوجد احتلال، غزة كيان مستقل والضفة تحت سلطة السلطة.

القانون الدولي بشأن مسؤولية الاحتلال عن منع انتشار الأوبئة لا يسري مفعوله في الضفة وغزة.

اتفاق أوسلو واتفاق باريس أنهيا مسؤولية إسرائيل عن صحة السكان وكل ما فيها هو تبادل المعلومات بشأن انتشار الأوبئة، وإسرائيل مستعدة للتعاون على هذا الصعيد.

صحيح أن اتفاق باريس يحظر توزيع أدوية في مناطق السلطة، قبل حصولها على مصادقة من الجهات الصحية والطبية في إسرائيل، لكن إسرائيل مستعدة للتساهل في هذا الأمر، وسمحت بإدخال كميات من التطعيم الروسي، على الرغم من أنه لم يصادق عليه اسرائيليا، وهي مستعدة للسماح بذلك في المستقبل أيضا.

يدل البند الرابع على مدى النفاق في الموقف الإسرائيلي، فهي رفضت في الماضي وبشدة إلغاء هذا البند من اتفاق باريس، لكنها اليوم مستعدة للسماح بما لا تسمح به حتى تتمكن من التملص من مسؤوليتها في توفير اللقاح لمن هم تحت سلطتها، بشكل مباشر أو غير مباشر. ما تقبل به إسرائيل هو أن تتبرع دول العالم باللقاح للفلسطينيين وهي «تسمح» بدخوله إلى الضفة وغزة، لتتبجح بعدها، أنها قامت بما هو أكثر من واجبها في توفير التطعيم للفلسطينيين.

يعكس التعامل الإسرائيلي مع انتشار جائحة كورونا في الضفة وغزة موقفا متلونا، حسب المصلحة والطلب، فهي حين تريد تدعي أنها صاحبة السيادة ويحق لها دخول أي منطقة تريد، وأن تتحكم بدخول وخروج البضائع والبشر، وحين يكون هناك التزام واستحقاق لا يروق لها ترفع يدها وتقول إنه لا يوجد احتلال والسلطة هي المسؤولة عن كل شيء، استنادا إلى أوسلو. هنا لا بد أن يكون الرد بسيطا، فإذا كانت إسرائيل تقول إن الاحتلال انتهى، عليها أن تنهيه فعلا. إنه احتلال من نوع غريب لا يعترف فيه المحتل بوجود احتلال واستحقاقات احتلال.

قد يجد البعض حرجا في المطالبة بأن تقوم دولة الاحتلال بتوفير التطعيمات لشعبنا الواقع تحت الاحتلال، على اعتبار أن هناك سلطة، عليها الاهتمام بهذا الموضوع وحل المشكلة. هذا في رأيي منطق ضعيف لأن عدم المطالبة بذلك فيه اعتراف ضمني بأن الاحتلال قد انتهى وهو لم ينته بعد. إن طرح قضية الابرتهايد الصحي، ستلقى هذه الأيام آذانا صاغية في العالم، كما سيعكر ذلك صفو الاحتفال بإسرائيل كدولة اللقاحات والصحة والعلم والحضارة، ما يساهم في فضح المشروع الكولونيالي العنصري، الذي يلاحق الفلسطيني في كل مناحي الحياة بما فيها صحة البشر.

رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48