الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

"مدرب الكوفية" في الأشرفية

نشر بتاريخ: 02/03/2023 ( آخر تحديث: 02/03/2023 الساعة: 23:18 )

الكاتب:

زاهر أبو حمدة

قاد ايهود باراك عملية إنزال في مخيمي البداوي ونهر البارد، كان ذلك في شباط 1973، والهدف اغتيال مناضل كبير وأحد مؤسسي حركة "فتح"، منصور قرطام (أبو حسن منصور). لاحقته العصابات الصهيونية قبل النكبة حيث ولد في قرية شفاعمرو (قضاء عكا) حين عُرف بانتمائه الى مجموعات الشيخ عز الدين القسام، وأحد القادة الميدانيين للثورة الفلسطينية الكبرى. لكنه استطاع الإفلات من القبضة الصهيونية والبريطانية، إلى أن وقعت النكبة، فتهجر مع عائلته الى لبنان. لم يستكن أبداً، وواصل نضاله حتى استشهد على يد "الكوماندوز الاسرائيلي"، فكان تشييعه مع رفاقه الشهداء استفتاءً وطنياً كبيراً للثورة، وحينها كان الظهور الأول لياسر عرفات في شمال لبنان.

قبل استشهاد هذا القائد الوطني، وضعت زوجته طفلاً في ليلة الميلاد عام 1955، وأسماه إسماعيل. انتمت العائلة بأكملها الى الثورة الفلسطينية واستشهد أحد أفرادها (محمد)، إلا أن إسماعيل اختار طريقاً موازياً للنضال. كانت هواية في البداية، فشارك في تأسيس نادي "الهلال" في مخيم البداوي، لتصبح بعد ذلك الهواية الرياضية هي حياته، فمن لاعب كرة قدم إلى مدرب. انطلق من المخيم إلى بلغاريا وألمانيا وتونس، ليحصل على شهادات عليا في التنمية والتدريب. وتمكن من كسر الحواجز نحو المحيط اللبناني، فدرّب أندية الشمال اللبناني (السلام زغرتا، طرابلس، الرياضة والأدب، الاجتماعي...). وفاز بكأس لبنان مع نادي "طرابلس" وبطولة لبنان لفئة دون 18 عاماً، ودرب منتخبي لبنان للناشئين والاشبال. وتوسع نشاطه ليدرب نادي "الاخاء عاليه"، ويصل إلى "القلعة البيضاء" في الأشرفية، ويعود بفريق "الراسينغ" إلى الدرجة الأولى في الدوري اللبناني بعد غياب 4 أعوام في دوري المظاليم. وهنا القصة والقضية، فكيف لفلسطيني أن يستقر في الأشرفية؟ هذا انجاز. هذا تطور رهيب. هذا تحطيم لصورة نمطية يحاول فلسطينيو لبنان منذ أكثر من 30 عاماً اختراقها.معروف أن ايلي كوبلي، أحد مؤسسي "الراسينغ"، فلسطيني الجنسية. وكان ذلك عام 1950، أي بعد النكبة بعامين. كان تأثيره كبيراً واستمر بعد وفاته، ففاز الفريق بالدوري ثلاث مرات، وتنقل في آسيا والدول العربية ومثل لبنان في بطولات قارية ودولية فاتخذ لقب "سندباد الكرة اللبنانية". ولعب للنادي أكثر من لاعب فلسطيني منهم عيسى الجمال، عمر طه، هيثم فرنجية، خالد حماد... ولم تدق الطائفية أو المناطقية أو العنصرية باب "القلعة البيضاء" منذ تأسيسه. لكن النادي كما الواقع اللبناني في الحرب الأهلية، وما بعدها من أزمات كثيرة ضربت البلد، ظل يصارع ليستمر، لكنه سقط للدرجة الثانية. حتى تسلمت باولا فرعون سليمان، رئاسة النادي، وهي كريمة راعي المؤسسة الوزير السابق ميشال فرعون. من اللافت أن تترأس امرأة نادي رياضي في لبنان والدول العربية، لكنها نجحت في المهمة. ووقع اختيارها على إسماعيل قرطام، ليتسلم الادارة الفنية. يُلقب أبو طارق بـ"مدرب الكوفية" لأنه دائماً ما يضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه وهو على خط الملعب أثناء المباريات. وتمكن من الفوز بلقب الدوري للدرجة الثانية والصعود مجدداً الى الدرجة الأولى. هذا انجاز رياضي فردي للمدرب، وجماعي للفريق، لكنه انجاز فلسطيني في مساحة ضيقة للاجئين الفلسطينيين. فهنا الفلسطيني ممنوع من العمل والتملك والتنقل، ومحروم من حقوقه الإنسانية. وأن يأتي لاجئ ابن شهيد وشقيق شهيد، ويصبح مشهوراً في الكرة اللبنانية والأشرفية تحديداً حيث ما فيها ما صنع التاريخ بين أهلها والفلسطينيين؛ يعني أن حدثاً مهماً حصل وتغيراً جوهرياً يمكن تلمسه. هذا التغير هو النظرة اللبنانية عموماً والمسيحية خصوصاً الى الفلسطيني، وكرة القدم مساحة للتلاقي والتسامح وهذا ما فعله قرطام.

استطاع أبو طارق، محو تاريخ طويل لا داعي للغوص فيه، حتى أن رئيسة النادي اعتمرت الكوفية، تقديراً لقرطام وتمثلاً به. وهنا رسالة مهمة لكل أبناء المخيمات أن الكفاءة هي الأساس لتحقيق الطموح. فالكابتن إسماعيل، لم يجلس في المخيم يبكي حظه ويندب همومه، إنما ربى في ظروف صعبة وتوجه نحو ما يحب أن يفعل متخطياً كل الحواجز، ليصبح بطلاً صاحب كفاءة قل نظيرها، وليؤسس عائلة نفتخر بتميزها الأكاديمي. أما الرسالة الأخرى فهي لبعض المجتمع اللبناني، الذي يرى في المخيم "جزيرة أمنية" وفي الفلسطيني "عدواً". فما صدّره أبو طارق من تفانٍ وعطاء وحضور تمكن من محو سلبيات عند جزء من عاشره واحتك به. وهذا هو المطلوب، أي التعارف والتواصل والاحتكاك لمعرفة من الفلسطيني من زاوية إنسانية وليست أمنية. ولعل فلسطينياً واحداً يترك أثراً طيباً في منطقة تخاف رفع علم فلسطيني فيها، كما حصل قبل فترة فاستنفرت قواها لمنع ما أسموه "غزو الأشرفية".إني كفلسطيني لاجئ في لبنان، أفتخر بالعم أبو طارق، لما يقدمه من صورة ناصعة عن أبناء المخيمات، فهو حمل إرث الشهداء وناضل بطريقة مختلفة. وما يُحسب له أيضاً أنه أطلق العديد من المواهب الفلسطينية، إن كان عبر منتخب "الشتات الفلسطيني" لكرة القدم في مرحلة سابقة، أو عبر تبنيها للعب مع أفضل الأندية. شكراً يا أبا طارق.