الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

قبضة أمريكيا باتت ضعيفة أمام المعادلات الجديدة بالمنطقة

نشر بتاريخ: 11/06/2023 ( آخر تحديث: 11/06/2023 الساعة: 11:56 )

الكاتب: مروان أميل طوباسي

الأستفراد بالهيمنة على المنطقة باعتبارها منطقة نفوذ أمريكي في إطار الصراع على النفوذ العالمي مع القوى الكبرى الأخرى هو ما ميز السياسة الخارجية للولايات المتحدة عبر العقود الماضية ، رغم عدد من التحديات ، إذ تمكن الروس من اختراق هذا النفوذ في بعض الفترات الزمنية السابقة في عدد من الدول مثل سوريا والعراق واليمن الجنوبي وليبيا والجزائر ومصر في فترة محددة .

الان النفوذ الروسي والصيني يتمدد اليوم مرة اخرى ليس فقط في تلك الدول حتى بعد ما جرى فيها من متغيرات بتفاوت الاسباب والنتائج ، وبما كان مخططا له وفق الرؤية الامريكية لمحاولات بناء الشرق الاوسط الجديد التي تحدثوا عنه قبل ربع قرن .

تمدد على حساب تراجع أمريكي بعد فشل اهداف ما سمي بالربيع العربي وتحديدا في سوريا وفشل مخططات الشرق الاوسط الجديد أو ناتو الشرق الاوسط الذي كان يخطط له بزعامة دولة الأحتلال . ياتي ذلك في ظل حركة المتغيرات الجارية بالنظام الدولي ليس فقط في تلك الدول التي اعتبرت حليفاً للإتحاد السوفيتي السابق ، لكن في دول عربية جديدة كانت تُحسب على المعسكر الغربي بشكل كامل . كما أن هنالك دول اخرى بالمنطقة قد نجحت في الخروج من دائرة النفوذ الأمريكي مثل إيران بعد الثورة التي اصبحت اليوم تشكل ليس فقط لاعبا هاما على مستوى الشرق الأوسط بل على المستوى الدولي من الصراع القائم وتفرض شروطها في مسار المفاوضات بشان ملفها النووي كما حصل خلال اليومين الماضيين من بدايات اعادة الوصول الى اطار اتفاق والافراج عن جزء من الاموال الايرانية المحتجزة ، وبما اصبحت تمتلكه من قدرات التصنيع العسكري وباعتبارها اصبحت جزء من تحالفات جديدة تفرض مواقف على التوازنات الإقليمية والدولية .

كما أن تركيا وبالرغم من عضويتها في حلف الناتو الأداة التنفيذية للسياسات الخارجية التوسعية للولايات المتحدة إلا أنها باتت تتبنى سياسة مستقلة الى حد ما ، كما انها نجحت خصوصاً في العقدين الماضيين في تحجيم أدوات التأثير الأمريكي والغربي عليها بعد نجاحها في تطوير إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية وبناء علاقاتها الدولية الجديدة وتحديدا مع روسيا وفي البروز كلاعب إقليمي رئيسي يحافظ على مصالحه، بالرغم من ما نتفق أو ما نختلف عليه مع هذه الدولة خاصة في شأن أحلامها باعادة أمجاد أمبراطوريتها أو احتلالها لجزء من سوريا .

هذا إضافة إلى ما نشاهده اليوم من رؤية سعودية جديدة لدورها ، وما له من تأثير على مواقف عدد من دول الخليج ، بل والعربية ايضا ، ورغبتها في إعادة ترتيب الوضع العربي ، حيث باتت تقارب الأمور مع الولايات المتحدة بشكل مختلف عن ما كانت عليه العلاقات سابقا ، وباتت تقرأ المعادلات الدولية الناشئة بتوازن وتتعامل معها على أساس وزنها المفترض في إطار المتغيرات ، مما يدفع الأمريكان الان لأدراك ان السعودية تستوعب بشكل جيد المرحلة القادمة على العالم ، وباتت الإدارة الأمريكية لديها الخوف من تموضع جديد للمملكة السعودية يضعها في مناهضة المعسكر الغربي .

كما تجدر الإشارة إلى أن الأمريكان في العقد الأخير أخذوا يعطون أولوية أكبر لمواجهة الصعود الصيني ، وللتنافس عبر المحيط الهادئ ، كما ايضا لمواجهة روسيا خاصة في منطقة اوراسيا لمنع مزيدا من تمددها ، ومن أجل محاولة وقف خطوات التحول نحو النظام الدولي متعدد الاقطاب ، ولهذا كان افتعال حربها بالوكالة ضد روسيا في اوكرانيا ، كما واضعاف الدور الأوروبي المستقل حتى يبقى في الفلك الأمريكي ، الأمر الذي بات يشهد معارضة كبيرة من شعوب القارة الأوروبية ويهدد توافقات ومستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه.

ان ذلك ربما أضعف بشكل محدود درجة التركيز الأمريكي على الشرق الأوسط ، غير أنه لم يؤثر على جوهر السياسة نفسها التي ترغب باستمرارها الولايات المتحدة والتي اخذت فيها المنطقة وشعوبها الى الحروب والتدمير . فالمصلحة الأمريكية التي ما زالت قائمة على رؤية الهيمنة تتطلب ابقاء المنطقة بل العالم قائم على الصراع وإبقاء وجود بؤر من التوتر حتى تبقى قادرة على فرض دورها ودور دولة الأحتلال بالمعادلات التي تريدها بالمنطقة وفق محددات رؤيتهم المشتركة .

الا انه من جهة اخرى يبدو ان الولايات المتحدة قد اصبحت تدرك حقيقة المواقف والسياسات الجديدة في منطقتنا خاصة مع ما يدور من أزمة عميقة بالمجتمع الإسرائيلي وانفضاح امر نظام الابرتهايد فيها والانتقادات الواسعة لذلك بالرأي العام وباوساط تقدمية بل ويهودية بامريكيا ، كما واصبحت تدرك المقاربات التي باتت تميز علاقاتها مع العديد من الدول العربية والتي لم تعد كما كانت بسابق عهدها عندما كانت تملي فيها الادارات الأمريكية ما تريده منها ، كذلك النقاش والاسئلة المطروحة حول عدم نفاذ وتمدد اتفاقيات ابراهام التي ما زالت الولايات المتحدة تسعى لها من خلال رؤية متجددة لصفقة القرن .

وامام ذلك فإن هنالك متغيرات في السياسة الأمريكية، ترتبط بالسياسات والإجراءات والأدوات التي تستخدمها في رعاية مصالحها وإنفاذ ثوابت سياساتها. وهنا تتدخل مجموعة من العوامل مرتبطة بالخلفيات والميول السياسية الفكرية خاصة باختلاف المفاهيم المثالية والواقعية بادارة سياساتهم والظروف الاقتصادية الأمريكية والتي باتت في أزمة عميقة اليوم ، ودرجة الشعور بالمخاطر الخارجية والتعامل مع التنافس الدولي والقوى الكبرى وخاصة الصين وروسيا وعدد من دول تحالف "البريكس" ودول معاهدة شنغهاي كما وفي القارة اللاتينية ، وسلوك الدول الاخرى السياسي والعسكري والاقتصادي الذي قد يمس المصالح الأمريكية أو يزاحمها في دوائر نفوذها ، وهو ما يجري اليوم .

الا ان الولايات المتحدة باعتقادي قد عادت الى منطقتنا من زاوية رؤية أخرى تمثلت قبل أيام بالبيان المشترك الصادر عن لقاء وزراء خارجية دول التعاون الخليجي مع الوزير الأمريكي بلينكين ، الذي اضطر لعمل أستدارة عن المواقف الأمريكية السابقة وخاصة بعد القمة العربية الاخيرة والمتعلق منها في شأن المواقف من سوريا وعودتها ، انهاء حرب اليمن ، الاتفاق السعودي الايراني وتمدده الى دول جارة اخرى ، كذلك ما له علاقة في شأن القضية الفلسطينية والاشارة الى حدود حل الدولتين التي جائت بالبيان المذكور .

واضح أن تمسك السعودية بالمبادرة العربية وبحل الدولتين على أساس حدود ١٩٦٧ وعدم الانجرار في علاقات التطبيع مع دولة الاحتلال دون ثمن ودون حل القضية الفلسطينية اولا كما صرح وزير خارجيتها امس ، إضافة إلى اصرارها على خفض انتاج البترول وعدم الرضوخ للرؤية الأمريكية بشان ذلك وبما يتعلق ايضا بعضوية روسيا بالأوبيك ، زيادة على توسع العلاقات مع الصين وفتح آفاق التعاون معها قد دفع الأمريكان لتلك الاستدارة بمواقفهم ومراجعتها .

الا ان هامش التغيير في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط يبقى برأيي محدوداً في طريقة إدارة الثوابت وعلى رأسها حماية دولة الاستعمار الإسرائيلي من جهة والتعامل التكتيكي والمرن مع التطورات من جهة اخرى بما يخدم مصالحها في محاولة افشال التحول الى نظام دولي متعدد الاقطاب . وهي في كل الأحوال لن تقف بجانب شعبنا الفلسطيني في كفاحه ضد الأحتلال الإسرائيلي وصولا إلى حقوقنا التاريخية والسياسية وبالمقدمة منها حق تقرير المصير في وطننا التاريخي الذي لا نملك سواه ، غير أنها قد تتعامل بواقعية وبراجماتية عندما تنجح الشعوب في فرض إرادتها ، أو عندما تجري الأمور في غير مصلحتها. ولكنها سرعان ما تعيد تموضعها بما يخدم إنفاذ سياستها من خلال دعم ما يتبقى لها من "حلفائها" ، أو بوسائل الإفشال والإسقاط المختلفة لإعادة تطويع النظام السياسي بما يتوافق مع مصلحتها.

لكن الدول وشعوبها حين تحسم أمرها وتصر على تحقيق استقلالها وانهاء تبعيتها فهي قادرة على فرض إرادتها والسير في دروب نهضتها سواء أحبت أمريكا أم كرهت .