الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
في كل الأمم تعتبر قضية التقاعد للإنسان، قضية مثيرة للجدل ومتعبة نفسياً للمتقاعد ولمن حوله. كون الأمر غير متفق عليه ويحمل اختلافات في الثقافة وفي الوضع الاجتماعي والمالي والسيكولوجي.
التقاعد للموظف العمومي ولرجال الأعمال ورجال السوق والعمال والمزارعين وحتى للعاطلين عن العمل هو فترة خريف العمر، ولذلك تشكل صدمة عند معظم البشر وكثير من الناس يدخلون في مرحلة الإنكار والمكابرة صحياً ووظيفياً، ومن لا يدخل مرحلة الإنكار فإنه يدخل عنوة في مرحلة الابتزاز العاطفي من عائلته وأولاده وأهل بيته بحيث يواصلون الطلب منه للقيام بنفس دور الإنتاج الاقتصادي والاجتماعي دون أي مراعاة لحالته النفسية والوظيفية.
فمن شغل رتبة عميد عسكري وتقاعد، تواصل العائلة والعشيرة وحتى القرية مطالبته للقيام بأدوار هو لم يعد يستطيع القيام بها مثل التوظيف والنفوذ، ولأن الإنسان بطبعه مكابر فإن غالبية المتقاعدين لا يجرؤون على البوح علناً أنهم لم يعد لديهم قوة نفوذ وتأثير كما قبل، فيحاول المتقاعد التدخل وغالباً يفشل، ويعيد المحاولة بعصبية ويفشل فيصاب بالإحباط وتتوتر علاقاته بعائلته وزملاء عمره وبأقربائه وهكذا.
وكان حري به أن يقول لهم منذ اليوم الأول للتقاعد، أن يقول لهم: أنا وصلت مرحلة التقاعد ولم يعد لي نفوذ والآن سوف أهتم بعائلتي وبنفسي ولا أحاول أن أنافس الجيل الذي تسلم الراية بعدي، وعلى المستفيدين الأبديين من كل منصب أن يتفهموا ذلك وإذا لا يتفهموا فهذه مشكلتهم وليست مشكلته هو. وليس مطلوباً أبداً من المتقاعدين أن ينهمروا في كتابة منشورات عبر الفيس بوك للفت الانتباه أو كتابة مقالات خلافية تدخلهم في إرباك وتحشرهم في معارك جانبية تركوها وراءهم.
المتقاعدون في السلطة الفلسطينية هذا العام هم أبطال الانتفاضة الأولى عموماً. وقد عاشوا تجربة خطيرة وشيّقة، وبالمجمل العام تجربة ناجحة تاريخياً وقاسية شخصياً أسفرت عن انتصارات مرحلية وقيام سلطة وطنية ونضوج سياسي نحو الدولة.
ومن وجهة نظري فإن متقاعدي هذا الجيل ليسوا خاضعين للتقييم من أي جيل ومن أي طرف، لأنهم صنعوا "معجزات" منذ نعومة أظفارهم حيث ولدوا في منازل ليس بها كهرباء ولا خطوط ماء ووصلوا اليوم إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي.
في الدول الغنية مالياً مثل الخليج العربي وكثير من دول أوروبا وأمريكا. إن مشاكل المتقاعدين أكثر بكثير من مشاكلنا هنا، سواء من خلال العيش في مراكز العجزة، أو من خلال ضياع أموالهم في صناديق التقاعد كما فعل ترامب بهم الشهر الماضي. كما أن المتقاعدين في معظم دول العالم لا يحظون بدورات إرشاد في كيفية التصرف اجتماعياً واقتصادياً. فيقومون بالمغامرات دون إرشاد، منهم من يستثمر دون حساب ويخسر كل تعب حياته، ومنهم من يحاول تأسيس عائلة جديدة بسرعة دون إرشاد فيخسر عائلته القديمة ومنهم من يغامر سياسياً ويتورط مع انتهازيين و...
قال لي أحد موظفي البنوك: أشعر بالشفقة وأنا أرى المتقاعدين يوقعون كفالات مالية كبيرة لأولادهم من أجل أن يفتحوا مشاريع شبابية مغامرة وغير مضمونة!!
التقاعد مرحلة إجبارية في جميع المجتمعات وفي كل الأمم. وإن قبولها عن رضى هو أحد أسرار نجاح هذه الفترة. وأنصح جميع المتقاعدين أن يشاهدوا عبر الإنترنت تجارب الآخرين وتجارب الشعوب الأخرى قبل أن يقوموا بأية مغامرات، وأن يضاعفوا ثقتهم بأنفسهم وأن لا يتأثروا بالآراء السلبية. ولا مانع إذا يتخلصوا أصلاً من الأشخاص السلبيين حولهم وأن يقطعوا علاقتهم بهم لأنهم يحطمونهم عاطفياً وعصبياً وفكرياً وسلوكياً.