الكاتب:
د. عبد الرحيم جاموس
في مثل هذا اليوم، الخامس عشر من أيار/مايو من كل عام، تحلّ ذكرى النكبة الفلسطينية الكبرى، التي شكّلت واحدة من أبشع الجرائم الاستعمارية في التاريخ الحديث.
ففي عام 1948، وتحديدًا بعد إنهاء بريطانيا لانتدابها الاستعماري على فلسطين، فتحت الأبواب مشرعة أمام المشروع الصهيوني الاستيطاني، ليُعلن عن قيام "دولة إسرائيل" على أنقاض الوطن الفلسطيني، وعلى أشلاء أكثر من 950 ألف فلسطيني جرى تهجيرهم قسرًا من ديارهم إلى المنافي والمخيمات، داخل فلسطين وخارجها، وتحويلهم إلى لاجئين مجردين من حقهم الطبيعي في الأرض والمكان والهوية.
لقد جاء ما يُسمى بـ"استقلال إسرائيل" تتويجًا لمخطط استعماري استيطاني، رعته القوى الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا، التي لم تكتف بإعلان وعد بلفور المشؤوم، بل سهّلت عمليًا جلب المستوطنين اليهود من شتى أصقاع الأرض، وقدّمت لهم الدعم العسكري والسياسي لتدمير أكثر من 550 قرية ومدينة فلسطينية في حملة تطهير عرقي ممنهجة، كانت نتيجتها طمس هوية شعب بأكمله، واستبدالها بهوية مصطنعة زرعت بالإكراه.
وإن الحديث عن "استقلال" هذا الكيان هو في جوهره حديث عن الكذب والتضليل، لأن الاستقلال الحقيقي لا يُبنى على أنقاض الآخرين، ولا يقوم على الإبادة والاحتلال والعنصرية والاقتلاع من الجذور. إن ما يُحتفل به في الكيان الإسرائيلي بوصفه "عيد الاستقلال" لا يعدو كونه وجهًا آخر من أوجه الظلم التاريخي، الذي ما زال يُمارس حتى اليوم بحق الشعب الفلسطيني، الذي بقي، رغم مرور 77 عامًا، صامدًا متمسكًا بحقوقه الوطنية والتاريخية غير القابلة للتصرف، وفي مقدمتها حق العودة إلى دياره التي هُجّر منها قسرًا، وحقه في تقرير مصيره على أرض وطنه، وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
لقد تحولت النكبة من لحظة زمنية إلى بنية قائمة، تُعاد إنتاجها يوميًا عبر سياسات التهويد، والاستيطان، والحصار، والقتل، والتجويع، كما نشهد اليوم في قطاع غزة الذي يتعرض لعدوان هو الأبشع منذ النكبة، وكأن إسرائيل تسعى لاجتثاث الشعب الفلسطيني مرةً أخرى، بوسائل أكثر تطورًا ووحشية.
ورغم هذا الواقع المرير، تبقى النكبة شاهدًا حيًا على فشل المشروع الصهيوني في اقتلاع الهوية الفلسطينية، لأن الأجيال المتعاقبة ما زالت تتوارث الرواية والحق، وتحمل مفاتيح العودة، وتدافع عن كينونتها وحقها في الحياة، في مواجهة واحدة من أطول وأعنف عمليات الاستعمار في العصر الحديث.
وفي ضوء هذا الواقع المتجدد، فإن جوهر الحل العادل والدائم لا يكمن في مقايضات سياسية سطحية أو تسويات ناقصة، بل في معالجة جذور الصراع التي تتمثل في نفي وجود الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه.
وهنا تبرز ضرورة التأكيد على أن أي تسوية حقيقية للصراع لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الإقرار الكامل بحق الفلسطينيين في المواطنة الكاملة على كامل أرض فلسطين التاريخية، وفي العودة إلى ديارهم، وفي إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية حرة، تُبنى فيها العلاقات السياسية والقانونية على أساس المواطنة المتساوية، لا على أسس العرق أو الدين أو الجنس.
دولة يعيش فيها جميع من يقيمون على أرضها – فلسطينيين ويهودًا وغيرهم – كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، دون امتيازات عنصرية أو تمييز ديني، هي وحدها الكفيلة بوضع حد نهائي لهذا الصراع الدموي المستمر منذ أكثر من قرن.
وما عدا ذلك من حلول مجتزأة أو نظم استعمارية فصل عنصري (أبرتهايد) لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الصراع، واستمرار الحروب والدمار، وغياب الأمن والاستقرار في فلسطين والمنطقة برمتها.
إن ذكرى النكبة هي دعوة للعالم، لا للتضامن الرمزي فحسب، بل لاتخاذ خطوات سياسية وأخلاقية حقيقية نحو تصحيح هذا الظلم التاريخي، والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والعدالة والكرامة.