الكاتب: توفيق أبو شومر
سأظل أتذكر أنَّ منسوبي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في سبعينيات وثمانينيات اعتبروا المقاومة المسلحة أحد أشكال المقاومة، وليست هي كل المقاومة، فقد كانت المقاومة تعني النضال في كل مجالات الحياة بما يتوفر من جهد وإمكانات، أي أنها وسيلة للحصول على الحرية والاستقلال كهدف رئيس.
تمثلتْ أبرز أنواع المقاومة الفلسطينية في الإعلام الفلسطيني، وفي مجال التوعية والثقافة، وفي المجال المعرفي والتربوي، وكانت المقاومة تعني النهوض بقطاع الأعمال والتجارة، وتعني كذلك بناء أسس العدالة، والديموقراطية، وكانت المقاومة تعني كل أشكال المقاومة السابقة، وكانت تعتمد على أساس معرفة العدو، لأن معرفته ركنٌ رئيس من أركان هذه المقاومة، لذلك شرع الفلسطينيون في بناء أساس ثقافي مهم يتمثل في معرفة العدو، كأساس رئيس للمقاومة الفلسطينية، بدأ ذلك بتأسيس، مؤسسة الدراسات الفلسطينية قبل تأسيس منظمة التحرير، يوم 12-12-1963م، ثم طوروا هذه المؤسسة، لتصبح مركزا للأبحاث الفلسطيني عام 1965م بعد إعلان قيام منظمة التحرير، ظلَّ مركز الأبحاث الفلسطيني متخصصا في ثقافة معرفة العدو، وهو المركز الذي أدركتْ إسرائيل خطورته، لذا قامت بتفجيره عام 1983م، ونهبت محتوياته، كانت المقاومة في هذين المركزين مقاومة بطولية، برز أثرها في إثراء الوعي والمعرفة، كما أن هذين المركزين كثفا التأييد والنصرة للمقاومة الفلسطينية في معظم أرجاء الوطن العربي والعالم، لأن العالم اعتبر هذه المقاومة جزءا رئيسا من حضارة الشعب الفلسطيني!
أما المقاومة الأخرى في سبعينيات القرن الماضي، كانت المقاومة في مجال الإعلام بكل لغات العالم، هذه المقاومة اعتمدت على السفراء الفلسطينيين الأكفاء، ممن أجادوا لغة الإعلام الفلسطيني المقاوم والمؤثر، هؤلاء كانوا هم رجال إعلام فلسطين المقاوم، ممن دفعوا حياتهم ثمنا لهذا النوع من المقاومة، وكانت هذه المقاومة أخطر بكثير على إسرائيل من المقاومة المسلحة، لذلك اعتمدت إسرائيل مبدأ اغتيال معظم الإعلاميين الفلسطينيين الأكْفَاء في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مثل محمود زعيتر، وغسان كنفاني، ومحمود الهمشري، وأبو يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر، وخليل الوزير، وصلاح خلف، وعاطف بسيسو، وماجد أبو شرار، وكثيرين غيرهم، وكانت تلك المقاومة الإعلامية هي الأبرز والأكثر تأثيرا على قضيتنا الفلسطينية، فهؤلاء الأبطال قادوا مقاومة بطولية نضالية إعلامية مشرفة. ظلت إسرائيل حتى اليوم تعمل لتصفية الإعلاميين المقاومين، لأنهم كانوا أشد خطرا على أمنها الإعلامي من كل حاملي السلاح، لذلك عملت إسرائيل على متابعتهم وتصفيتهم في خضم هذا الحرب العنصرية في غزة منذ يوم السابع من أكتوبر 2023م، فقد بلغ عدد الصحفيين الذين اغتالتهم إسرائيل بقصد وتخطيط أكثر من مائتين وثمانية وعشرين إعلاميا حتى آخر شهر يونيو 2025م!
كذلك اعتمدت بعض الأحزاب الفلسطينية مقاومة أخرى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي اختطاف الطائرات المدنية للمساومة على تحرير الأسرى الفلسطينيين، وبدأت تلك العمليات في وقت مبكرٍ جدا عام 1969م، غير أن تلك المقاومة لم تحظَ بموافقة أغلبية أحزاب فلسطين، لذلك جرى تجاوزها، ولم تعد ضمن أولويات المقاومة الفلسطينية!
ولا أنسى أيضا مقاومة مسلحة تمثلت في عملية تفجير حدثت في سد عيلبون، الواقعة ضمن مدينة طبريا في أخر يومين من عام 1964م، وعلى إثر نجاح هذه العملية جرى اعتماد الأول من يناير 1965م ليكون يوم انطلاق الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، جرت هذه العملية مقاومة لمشروع احتكار وسرقة مياه فلسطين، حين أرادت إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن ليسقي المستوطنات، فأقدم المقاومون الفلسطينيون على تخريب هذا المشروع!
هذه المقاومة العسكرية لم تكن وحدها هي المقاومة، بل تعددت مفاهيم المقاومة الفلسطينية، ولا يمكن أن نُغفل المقاومة الثقافية والأدبية التي حظيت بترحيب كبير عند الفلسطينيين والعرب والعالم أجمع، لذلك برز شعراءُ الأرض المحتلة المقاومون بسلاح الأدب والفن، وأصبحت لوحاتهم وأشعارهم الوطنية هي أرفع درجات المقاومة، وقد تصدَّر قائمةَ هذه المقاومة كلُّ شعراء الأرض المحتلة، ولم تقتصر المقاومة الأدبية والفنية عليهم فقط، بل فتح هؤلاء الأدباء والفنانون ملف شعرائنا الوطنين الكبار مثل، إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود وغيرهم، أصبحت المقاومة بالشعر والأدب في القرن الماضي مقاومة أدبية رفيعة وسامية، حظيت بمشاريع الترجمة، والتأليف، والطباعة والنشر، أصبحت هذه المقاومة الثقافية والفنية مقاومة فعَّالة لها نتائج وطنية رائعة، وساهم في ذلك انتعاش التآخي بين هذه المقاومة الفلسطينية وبين أدباء العرب والعالم، لذلك تُرجمت الأشعار الفلسطينية والأعمال الفنية باعتبارها أدبا عالميا مقاوما بكل لغات العالم!
كل تلك الأشكال من المقاومة كانت تخضع لحساب النتائج المترتبة عليها، من حيث ربح القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وإعادة تقييم أدائها! ولم يجد الفلسطينيون عيبا في ترك بعضها وإنعاش بعضها، أو استحداث أنماط جديدة وأشكالٍ للمقاومة تُناسب الواقع الراهن!
إذن، لم تكن المقاومة المسلحة في بدايات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي تجمع كل أنماط المقاومة، فالمقاومة المسلحة لم تكن سوى جزءٍ من مفاهيم المقاومة الشامل، ولم يكن نقد بعض أشكال المقاومة محظورا في إطار الحديث عن الجدوى والفائدة كما يحدث اليوم!
للأسف، اعتادت الكتب المدرسية والأبحاث أن تفسر كلمة المقاومة وتصنفها تصنيفا مدرسيا، ورسخت في أذهان الكثيرين؛ أن هناك قسمين للمقاومة، المقاومة (السلبية) وهي تعني المقاومة غير المسلحة، هذه الكتب صنفتها وفق قادتها، جعلت، مارتن لوثر كنغ، ونيلسون مانديلا، والمهاتما غاندي من مؤسسي المقاومة (السلبية)! لم أكن يوما موافقا على تلك التسمية، لأن المهاتما غاندي كان مقاوما ثائرا قاد الجماهير الهندية نحو الحرية، وكذلك المحامي، مانديلا كان أيضا قائدا مقاوما، مع العلم أن قادة هذه المقاومة (السلبية) قد نجحوا في تغيير الواقع الاستعماري الظالم، وقادوا شعوبهم إلى التحرر من عبودية المستعمرين!
أما النوع الثاني من المقاومة وهو المعتمد مدرسيا وشعبيا! فهو المقاومة الحربية المسلحة أو ما سمي (مقاومة الغوريلا) وهي تعني المقاومة الحربية المسلحة! ولا أعلم لماذا سميت بهذا الاسم، هل يعود ذلك لشبهها بقردة الغابة الضخمة العدائية، أم انها تشير إلى التوحش!
كل ما سبق أوردتُهُ ردا على حالتنا الفلسطينية الراهنة، لأن كثيرين من مثقفي الأحزاب الفلسطينيين، وكثيرين من العرب أيضا، من رواد القنوات الفضائية المختصين بالتحليلات السياسية والخبرات الإعلامية والثقافية، أصبحوا لا يقبلون أيَّ نقدٍ يوجَّهُ للمقاومة المسلحة، فهؤلاء يعتبرون هذه المقاومة المسلحة هي جُماع كل أشكال المقاومة، لذا فإنها عندهم مقدسة، لا يجوز انتقادُها أو توجيه اللوم لكل من يحمل السلاح باعتباره مقاوِما مقدسا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! كذلك هم يؤمنون بأن منتقدي المقاومة المسلحة ليسوا سوى عملاء، أو مرتزقة، أو محرضين ينتهكون قدسية هذه المقاومة المسلحة!
هؤلاء عاشقو المقاومة المسلحة لا يسمحون لأحدٍ أن يناقش طريقة أداء هذه المقاومة، ولا البحث في نتائجها وآثارها، وهم بالتأكيد لا يسعون لتقويم مسارها، وإعادة تعريفها، واقتراح ألوانٍ جديدة من المقاومة تناسب واقعنا الراهن، وهم يخشون أن يتهموا المقاومين المسلحين غير الواعين بأنهم يستخدمون الفلسطينيين ضحايا لمغامراتهم غير المحسوبة، ولا يجب أن ننسى أن المقاومة المطلوبة في ألفيتنا الثالثة هي، المقاومة الرقمية، والمقاومة في مجالات الإبداع والاختراعات، والمقاومة في مجالات البيئة، وآليات توفير الغذاء والكساء، ومقاومة الإسراف والتبذير، وتعزيز صمود الشعب ثقافيا وفكريا وفنيا، ومقاومة انتاج الثقافة الفنية والأدبية!
--