السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

رواية "امرأة عائدة من الموت" لنافز الرفاعي

نشر بتاريخ: 03/03/2015 ( آخر تحديث: 03/03/2015 الساعة: 12:55 )

الكاتب: تحسين يقين

رواية "امرأة عائدة من الموت" لنافز الرفاعي: سئلة التحرر والوهم والجنون والإنسانية وسط صراع لا يرحم!

للراوي قصته أيضا، وللمصغية للرواية-الخطاب، ولكلّ قصته وروايته، لكل هذه الشخصيات الكثيرة المبثوثة والمنثورة في ثنايا الرواية، كأنها فسيفساء تحيط بعدد قليل من العناصر، فهل كان لزاما على الراوي أن يروي أكثر من عشرين قصة قصيرة وهو يروي عن الشخصيات الرئيسة في روايته؟!

ولماذا ربط مصير شخصياته بكل هذا الكم من الشخصيات الثانوية؟

هل كان لذلك ضرورة فنية؟ وكيف يمكن تفسير الرواية على مستويي الشكل والمضمون؟

أسئلة كثيرة تظهر من خلال قراءة "امرأة عائدة من الموت" وبعدها خصوصا حول مصير "مرام" الاستشهادية الناجية من عملية تفجيرية قامت بها و"فتاة الفنون" التي تخلصت أخيرا من الاستلاب الذكوري، بل و"زوج إلهام" الذي استردّ حقّه من خلال تمثيل دور المجنون، حين سطا عليه تاجر لصّ بدعم من خاله، في زمن التحول الاجتماعي، حيث تم إيهام أسرته بالربح من خلال الاستثمار بعد "توقيع اتفاقية أوسلو. وكيف كان "الأستاذ" شاهدا ضميريا على كل ما يجري محاولا تعديل المسار والمصير وطنيا من خلال عدم اللجوء إلى العمليات التفجيرية، وعلاقة ذلك بالتفوق الأخلاقي على الاحتلال، واجتماعيا من خلال حماية الإنسان الفلسطيني من مرحلة التحولات وعلى رأسه الوهم الاقتصادي.

الشخصيات

لا أميل إلى الأسلوب التقليدي في النظر إلى الرواية، لكن لا بأس بهذا المدخل في ظل الحاجة له.

تظهر في البدء شخصيتا الراوي والمصغية لها، لكن بعد مضي ربع الرواية، تبدأ شخصيات أخرى بالظهور، بحيث يترسخ على طول الرواية وجود كل من الراوي والمستمعة والمحاورة والمنفعلة فالمتحولة أدبيا واجتماعيا وعاطفيا وإنسانيا.

في ظل الاستمرار بالقراءة، نجد أن هناك ثلاث شخصيات رئيسة ظلت خيوطها وخطوطها الدرامية متتابعة إلى نهاية الرواية، وهي:

- مرام.

- فتاة الفنون.

- زوج إلهام.

وفي ظل استمرار وجود الراوي كجزء من الرواية، يصبح هو أيضا شخصية رئيسية، كما تصبح "فتاة القبعة الحمراء"-كما أسلفنا-شخصية رئيسية لها مصير أيضا خصوصا أنها انفعلت وبالتالي عاشت الرواية فصارت جزءا منها. بل صارت ما هو أهم، صارت نتيجة وعبرة لها، فراحت هي الأخرى تقرر مصيرها العاطفي، متأثرة –كما يبدو-من مجمل الأحداث وحياة الشخصيات، وبشكل خاص بعاشقة المقاوم التي تتحرر من إجبار أهلها لها على الزواج من ابن عمها، لتختار ما يهوى قلبها، حيث لا وقت للتردد، لأن وقت تقرير المصير وقت محدد، ولا مجال للانتظار، لا مجال لانتظار الحرية والتحرر، بل لا بدّ من فعل على الأرض، أكان فعل مرام أو عرين أو المقاومين، لا بدّ من فعل!

لذلك خاطبت الراوي: "أتعبتني كثيرا، ألم تر نضوج الألوان في ملابسي..ألا تجد عمق الكلمات وغنى العبارات والروابط القلقة في حروفي"، وهي التي اندفعت نحو الروايات لتقرأ العالم والحياة والوجود من خلالها.

أما الراوي فيصبح كذلك كحال فتاة القبعة الحمراء، كونه روى عن نفسه حين عاش أيام الحصار، فقد صار جزءا عضويا، شاهد شهد الأحداث، فهو أيضا صار شاهدا ضميريا أيضا كالأستاذ.

لقد ملت –والرواية تقترب من نهايتها- إلى اعتبار الراوي وفتاة القبعة من الشخصيات كون مصيرهما أيضا ارتبط بمصير الشخصيات الأخرى رئيسية وثانوية.

مرام والخلاص الوطني

الكوافيرة المبدعة أم الطفلة ديانا، تنفعل جدا بالأحداث في الانتفاضة الثانية، خصوصا قتل الأطفال، بدءا من مقتل إيمان حجو، مرورا بحالات القتل في بيت لحم، واستدعاء لمأساة اللاجئين من قبل، ومن بعد من خلال هدم بيت اللاجئ أبي يوسف، صديق والدها، والذي يبكي لأول مرة حسرة، بعد تكرار هدم بيته للمرة السابعة؛ فالصداع الذي يصاحبها يكون"نتيجة ارتفاع مستوى الشعور والعواطف"، لذلك تواصل انفعالها بحوادث العمليات التفجيرية لكل من هنادي وعرين، والشاب ذي الجاكيت الثقيل، بل وأحيها ابن ال13 عاما حينما يعتقل في طريقه لتنفيذ عملية تفجيرية، فتقرر تنفيذ مثل هذه العمليات، لكن قذيفة من طائرة استطلاع تغتال مقاوما تكون على مقربة منه، تنجو لكن تصير كالشبح وفاقدة للذاكرة. وفي الختام تنجو أخلاقيا ووجوديا حين تقرر كتابة رسالة إلى السجانة، التي قتلت أختها في عملية تفجيرية، ربما نوع من التفكير بجدوى العمليات، أو في الصراع نفسه، الذي يحصد أرواح الأبرياء.

ولكن لم يوضّح الكاتب لماذا تم اعتقالها بعد الحادث، هل يعود ذلك لاكتشاف أمرها حين قررت تنفيذ عملية تفجيرية مثل أخيها ابن ال13 عاما؟ ربما.

زوج إلهام والوهم الاقتصادي

لم يطلق عليه الكاتب اسما، ربما ليجعله ممثلا لمن وقع فريسة وهم الازدهار الاقتصادي ما بعد اتفاقية أوسلو.

بتأثير زوجته إلهام، يضطر إلى بيع ما يملك ليعود للاستثمار في بيت لحم، ثم لا يلبث أن يشعر بأنه تسرّع، ولولا إلحاح إلهام عليه، لما عاد بهذا الشكل. بعيش زوج إلهام وأسرته هذه التحولات، ويصير ضحية لها، حين يسطو تاجر على ماله بدعم قريبه، ويكاد يصير مجنونا لهول ما حدث معه، ويعالج فعلا بمستشفى الأمراض العصبية، وحين يحصل على شهادة من المستشفى بأنه مريض، فإنه يهدد التاجر بالقتل مبرزا له شهادة المرض، وبذا يصير الجنون أو تمثيل الجنون بداية خلاصه لاسترجاع حقوقه، وتلك مفارقة عجيبة!

في ظل الحديث عن أسرة إلهام اللاجئة في الأردن، ظهرت آلام اللاجئين وكيف ناضلوا اجتماعيا للبقاء.

فتاة الفنون والخلاص النفسي والاجتماعي

جاء ذكرها ضمن سرد شحصية سمر الفنانة التشكيلية صديقة الراوي عنها، سمر التي يطلب الراوي منها رسم لوحة لمرام، البطلة الرئيسية للرواية، حيث تربط سمر ما بين مرام الناجية من القصف و"فتاة الفنون" الناجية من الاستبداد الذكوريّ، وكلاهما لم تنجوا تماما بل تعيشان مرحلة جديدة.

تدرس "فتاة الفنون" في موسكو، فيسطو عليها زميلها جسديا باسم الحب، ثم تنجو بها سمر إلى كييف لتخلصها، فلا تلبث أن يسطو عليها آخر باسم الثورية. لا تترك سمر "فتاة الفنون" لقدرها، بل تقف معها للخلاص منه من ناحية، والتخرج بنجاح من ناحية أخرى. ولم تظهر جنسية "فتاة الفنون"، فظلت مموهة، تنطبق على أية فتاة مستلبة في هذا الكون.

فكان خلاصها ونجاحها هو عودة أحرى إلى الحياة التي كاد الاستبداد يودي بها.

المخلّصان: الأستاذ وسمر

حاول الفيلسوف الأستاذ والمفكر تخليص شعبه، لكن لم يستطع، حيث كان الانفعال سيد الموقف بسبب الحرب على المدنيين، فكان المجال للعقلانية محدودا.

لقد حاول الأستاذ تخليص الشباب من فكرة "العمليات التفجيرية" كما حاول تخليص المقبلين على وهم الازدهار الاقتصادي تحت الاحتلال، وحاول في ظل ذلك الخلاص الفكري والإنساني لكنه لم ينجح.

أما سمر الفنانة القادمة من عالم الفن والشعور، فقد ظلت تحاول حتى أحدثت تغييرا، فخلصّت فتاة الفنون بأقل قدر من الخسائر.

قصص قصيرة والتفسير الفني-الشكلاني

نثر الراوي حوالي 20 قصة تحدّث عنها، بعضها كانت شخصيات ثانوية، لها علاقة لها بمسار الرواية وبمسار شخصياتها الرئيسية، أما معظم قصص الشخصيات في قصص قصيرة متفاوتة من حيث الطول والشكل والعمق، لا علاقة لها بالأحداث، بقدر ما لها علاقة بالمكان والزمان من ناحية، وأسلوب الخطاب-السرد من ناحية أخرى.

فخلال تجوالهما الراوي وفتاة القبعة الحمراء، في بيت لحم والقدس، كان المكان والزمان يثيرا تداعيات الذكريات والحوادث والأحداث، إضافة إلى أنه ربما لجأ إلى ذلك تسلية للمستمعة بتلك القصص حتى لا تملّ، خصوصا أنه لم يكن يمضي في سردياته من البدء إلى النهاية، بل كان يعمد إلى ىالتقطيع المشوّق على طريقة ألف ليلة وليلة الموغلة في التراث الملائمة للحكواتي التقليدي.

جزء من هذه الحكايات تعد قصصا قصيرة متكاملة أو شبه ذلك. منها: جبل المحامل التي تروي قصة رسم لوحة الفنان سليمان منصور التي تحمل الاسم نفسه، ورجل قراءة الطالع، وفؤاد كحليشة بنوادره وارتباطاته ونظرته الوجودية تجاه الحياة ولجوئه للشراب والمتعة والسفر، وشواء الدبعي، ورجل البريّة وحكاياته عن الطيور والحيوانات، وامرأة البروليتاريا ببداياتها الرومانسية الثورية، ونهاياتها التراجيدية بالانتحار، وأبو يوسف اللاجئ، وعاشقة المقاوم، وربما أم سارة، وبدرجة أقل قصص كل من: شيخة، وإسماعيل والأفعى والرغبة، والعريدي، والخباز والهولندية، وخورخو وقارع الأجراس والمؤذن، وعبد المجيد مع زوجته المريضة. إضافة لأحداث توثيقية كالاجتياح ومقتحمي الشبكة العنكبوتية ومبعدي كنيسة المهد.

بل إن قصته هو، وقصة الفنانة سمر مع فتاة الفنون تقعان ضمن القصة القصيرة.

والشكل الفني؟

الحديث عنه متمم لما ذكرناه عن القصص والحكايات داخل النص. لقد كان إبداع الروائي في تقنية استخدامه أسلوبا جذابا مشوّقا خصوصا عن الشخصيات المحورية، حيث كان يسرد جزءا من القصة متحولا إلى قصص أخرى ليعود إلى الأولى ليواصل السرد حتى آخر الرواية، ناثرا قصصه الكثيرة داخل مسار السرد العام للرواية، فكانت التداعيات القصصية مثيرة وحيوية، وإن كثرت أحيانا بلا ضرورة عضوية وموضوعية سوى مبرر الزمان والمكان وأسلوب الحكاية، ويأتي السرد التاريخي أيضا ضمن هذا التفاعل والتداعي، كون المكان تاريخيا بامتياز، أو قل لا تستطيع الشخصيات الفكاك من أسر التاريخ.

لذلك جاء النص الأخير بعنوان "اليوم الحاسم"ململما للرواية، تحرر فتاة الفنون، علاج زوجة عبد المجيد، تغير قرار عرين شعيبات بعد مشاهدتها الطفلة الإسرائيلية، اختيار مرام للحياة، فكانت بذلك الصفحات الأخيرة إبداعية، لكنها احتاجت لتحرير أدبي لتخليصها مما علق بها دون حاجة.

"تريد سمر أن ترسم مرام، او ترسم عرين، أم ترسم امرأة في تخريجها الجامعي، تصعد درجا وتخلع ثوبها الماضي، بكل ما يحويه من الألم والخوف والضغينة والتردد، ترميه خلفها مثقل بكل همومها، تريد أن تحتضن الضوء وتغتسل تكمل صعودها نحو القمة، بحثا عن النور، عن الحرية، عن الخلاص، تستنشق الحياة من جديد."

يبحث الراوي عن "مقهى المقدسي"، في القدس القديمة، ليصل بنا إلى أحداث تكوّن القدس وبيت لحم مكانها، فتصير الرواية رواية مدينتين، كأن مقهى القدس مقهى جدّ مرام يقود إلى الربط بين المكانين، مع ربط بسيط بمدينة نابلس.

لذلك ظهرت القدس بحارة النصارى وحارة الأرمن ودرب الآلام والباب الجديد وسوق خان الزيت، ومن الملفت للنظر أن القدس المسيحية هي من ظهرت في الرواية، وإن لم يكن ظهورها معمقا كظهورها في بيت لحم، خصوصا في سرده عن الحصار واختبائه في بيت قسيس مع صحفي وطفله.

ولعل ذلك يقودنا إلى لغة الكاتب الإبداعية خصوصا في وصف تسلله إلى القدس، واللجوء إلى بيت رجل الدين، حيث كانت لغة حذرة بترقب وخوف وأمل وإرادة. وسر إبداعها أنها جاءت من المعايشة.

أما العزف على وتر السباعيات فظهر متكلفا لا ضرورة فنية له، إلا إذا أراد الكاتب أن تكتسي الرواية بمسحة تاريخانية.

وأخيرا:

لنا نقطتان حول المضمون أشعرتني بهما الرواية:

- نقده لأحلام إلهام حول الازدهار الاقتصادي وما قاد إليه من جنون "أحلام إلهام تشيه سياسيينا".

- التفوق الأخلاقي في الصراع، ولعله سؤال أكثر مما ظهر كإجابة في تغيير نظرة مرام تجاه العمليات التفجيرية، وهل هناك إمكانية للعقلانية الإنسانية في ظل الصراع مع طرف قويّ مسلح وشرس إلى أبعد الحدود؟

ذلك هو السؤال الأخلاقي، وهو سؤال التحديّ الإنساني لدى الفلسطينيين تحت احتلال بشع.



*منشورات جماعة الباب الأدبية-بيت لحم-فلسطين

لوحة الغلاف سمر غطاس

214 من القطع الصغير

الرواية الثانية لنافز الرفاعي بعد روايته الأولى: قيثارة الرمل