الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

محمود درويش.. فضاءات عالية للشعر

نشر بتاريخ: 15/03/2015 ( آخر تحديث: 15/03/2015 الساعة: 12:06 )

الكاتب: سليم النفار

في هذه الايام تمر ذكرى ميلاد , محمود درويش ... وفيها متسع للحديث عن الشعر وجمالياته وعن الاحلام الكبيرة ,والآلام التي مازالت ,تطحن قلب الانسان الفلسطيني , بل العربي ايضا.

من الاكيد انه في هذه العجالة , لن يسعفنا الوقت ,في قول ما نريد او ما يستحق القول فيه , فمحمود درويش ليس مجرد شاعر وحسب ,فهذا الشاعر الذي انطلق في ستينيات القرن المنصرم ,في الغناء للوطن ,من داخل اسوار فلسطين المعذبة , المبتلاة بأبشع انواع الاحتلالات في تاريخ الانسانية.. سرعان ما لمع نجمه وبهر صوته جموع الفلسطينيين والعرب ,فاصبح رسولا لعذابات الفلسطيني واحلامه ...ليس بالمعنى الوظيفي للشعر , بل بالمعنى التعبيري عن الذات الشاعرة , التي قبضت على احلامنا وعذاباتنا وتأملاتنا ,فابدع في خض ذلك كله ,داخل ذاته لتطفح بنهر الشعر المتدفق , متجاوزا حدود الجغرافيا , ملامسا شغاف الانسانية بكل مستوياتها ,وتعدد الوانها وجنسياتها ...لقد كان درويش وباقتدار عال : سفير الآمال والالام لإنسانية حالمة ومعذبة.

محمود موهبة متفردة في قدرتها, على صناعة العوالم الخاصة بقصيدته ,دون سواه ,ففي الفترة التي انطلق فيها من داخل فلسطين ,لم يكن بمفرده, فقد كان معه مجموعة من الشعراء ,غير انه بتفرد موهبته ,وقدرته العالية ,تجاوز الكل بحضوره ,وبروح نصه الذي مازال يشعل مساحات واسعة في وجدنا ,بل بالوجد الانساني...

ولكن محمود درويش صاحب انبل واعدل قضية سياسية و انسانية ,لم يتكئ عليها , بل صعد بها سفوح المخيلة الانسانية ,منافحا عنها وعارضا بارعا لأحلامها وهمومها ,دون ان يتنازل عن شرطه الفني .. فكيف يتنازل وهو الذي حذر مبكرا العالم ,من مغبة التعاطي مع الشعر الفلسطيني من باب الحب والعطف السياسي ,وله في ذلك مقولته الشهيرة : التي اطلقها في مقال في مجلة الطليعة في العام 1968.

-انقذونا من هذا الحب القاسي –
بمعنى انه ادرك منذ البدايات خطورة التعاطي مع الشعر ,من باب العطف لان نبل القضية لا يكفي لصناعة شعر عظيم ولان هذا الشعر الفلسطيني ليس هو الا جزء من الحالة الشعرية العربية ,والانسانية ولابد من النظر اليه ومحاكمته وفق المعاير الفنية للشعر , وليس لا ي شيء اخر ... من هذه الرؤية الواضحة استطاع محمود درويش ان ينطلق , ويتواصل في بناء صرح نصه الشعري ,المتجدد حيث لم يتوقف عن تطوير ادواته ,فكان دائما يفاجئ جمهوره بالجديد والجميل ,في الشكل والروح وحجم المعرفة ...فقد استطاع ان يسخر معارفه التاريخية المتعددة والاسطورية لصالح نصه ,وبسلاسة جدول الماء الذي ينداح من علٍ عبر ادغال واسعة ... نعم لقد انداح شعر درويش في مساحة واسعة جدا ملامسا حس الجماهير الفلسطينية والعربية والانسانية بكل تنويعاتها ومحاملها الثقافية.
فهو الذي قال:
يا دامي العينين والكفين ان الليل زائل
لا غرفة التعذيب باقية ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل
لم يتوقف عند فعل التحريض والحض على الثورة , ومقاومة الاحتلال ,على الرغم من انه قدم ذلك في شرطه الفني ,ولكنه دائما كان يمتلك قدرة التنقل من فضاء الى اخر , متسلحاً بحساسيته العالية ورؤيته الفذة :جمالياً وسياسياً في بناء النص المتجاوز و المدهش ,المتأمل للحالة التي تجعل من درويش دائم القلق في الحالة ذاتها ,ابداعيا وانسانيا ,فنراه يقول :
يطير الحمامُ / يحطُّ الحمامْ
أعدي ليَ الارض كي استريح
فاني احبك حتى التعبْ
أو في ديوانه أثر الفراشة :
أَثر الفراشة
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا الى الكلماتِ
باطننا الدليلُ


هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ…
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
أُثرُ الفراشة لا يزولُ!
هذا الشاعر الغنائي الملحمي حسب وصف ريتسوس الشاعر اليوناني استطاع بغنائيته ان يحشد كل الاصوات المختلفة بكل ثقافاتها داخل نصه بأفق ملحمي , مجسدا عذاباته واماله , والتي هي عذابات وامال شعب بل امه بأكملها , التاريخ مسرحه المفتوح حسب وصف الناقد –صبحي حديدي- يختار ما يناسب النص من شخوص وحالات , ليجسدها على دكة المسرح الخاص به ,في اسطر قصيدته التي تضج دائما بحلم الانسان ,بلحظة فرح...
لقد كان درويش عميق الانصات للحوار السري بين الانسان والطبيعة ,حسب وصف الناقد :شاكر النابلسي وسريع الالتقاط لهمسات المعاني الملتبسة في تراكيب اللغة...وهو صياد ماهر للحظة الشعرية في هذا الاتجاه ...وهذا ما يفسر احتلاله لهذه المكانة المرموقة في الشعر العربي والانساني ... فقد كان كما اسلفت رسول الآمال والالام لامة بأكملها ,ولكن في قصائده الاخيرة تشعر بعلو الحزن ,وبديمومة الترحال ,ربما لأنه ادرك بحسه العالي ,طول الرحلة المؤلمة وتواصلها ,وبان النهايات مازالت بعيدة المنال ,ويتضح ذلك في قصائده :يطير الحمام يحط الحمام ,اذا ينهي القصيدة هذه بقوله :يطير الحمام يطير الحمام...على الرغم من انه كان يدرك اتساع الرحلة منذ البدايات وقد تجلى ذلك في قصيدته مديح الظل العالي :

مديح الظل العالي
بحر لأيلول الجديد , خريفنا يدنو من الابواب
بحر للنشيد المر ,هيأنا لبيروت القصيدة كلها
بحر لمنتصف النهارِ
بحر لرايات الحمام , لظلنا ,لسلاحنا الفردي
بحر للزمان المستعار
ليديكَ , كم من موجةٍ سرقت يديك
من الاشارة وانتظاري
ضعْ شكلنا للبحر ,ضعْ كيس العواصفِ عند اول صخرةٍ
واحملْ فراغكَ وانكساري
واستطاع القلبُ ان يرمي لنافذةٍ ,تحيته الاخيرةْ
واستطاع القلب ان يعوي ,وان يعدَ البراري
بالبكاء الحر
بحر جاهز من اجلنا
دع جسمك الدامي يصفق للخريف المر اجراسا
ستتسع الصحاري