الجمعة: 03/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

مصر: نيل من الأصوات لا يؤخذ على مقصده البسيط

نشر بتاريخ: 02/01/2016 ( آخر تحديث: 03/01/2016 الساعة: 11:20 )

الكاتب: نداء يونس

يقول المكان: أحفظ أسماء العاشقين
كنت أعرف يقينا ان زيارة لمصر لا يمكن ان تمر دون أثر عميق تتركه فيَّ، لكن لم اكن اعتقد انها ستجلو روحي، وانني سوف أرتديها وتفاصيلها ظلا ليومي. لكنني عرفت منذ اللحظة الآولى ان لمصر صوتها الندي وهمسها الخفي، ولها روحها التي تحكي حكايا العاشقين للعاشقين.

في مصر لم احمل قلما ولا ورقة، لم يكن في نيتي ان اكتب شيئا، فما كتبه المصريون وما كتب عن مصر كثير، لكنني ادركت ان لهذا البلد سحرا قويا، وكل ما فيه يكتبك وتكتبه. في مصر القديمة، ضمنت الأبنية والنقوش وأوراق البردى والمسلات والنقوش الغائرة في الجدر، وتلك الملونة والتي يشتغل العلماء على ترميمها، الخلود لحضارة لا نزال نسعى الى اكتشاف اسراها. واليوم، تضيف النصوص التي تكتب حول مصر والصور التي نتداولها لأماكن بدأت منذ فجر الحضارة وحملت الى وقتنا الحاضر سحر البلاد وفرادتها العالية، الى ارث طويل من الدعوات المفتوحة الى تفاعل بصري مع مكونات المكان التاريخية والطبوغرافية والعمرانية والزمكانية، الا ان القليل من التوثيق يرتكز على، بل ويعمد الى استدعاء التفاعل السمعي مع المكان والزمان مع نيل الاصوات التي تأتي من كل لون ونقش وحجر وبناء وشارع ووجه مصري جميل.

في مصر رأيت، والاهم من ذلك أنني استدعيت تفاعلا سمعيا خاصا مع المكان، ثم مع الشخوص، ثم مع الزمان. كل شيء في مصر يحكي، وتصمت الضجة العالية. هكذا بدأت أعي مستويين للمكان وللاصوات وللشخوص وللصور. شيء ما شدني للباطني، رغم انشغال لم أُخْفه بكل ملموس، وانبهار بحداثة تعطي لمصر ديمومتها وتفتح افقها العالي الى المستقبل كأي شيء حي. كل طريق حكاية وكل حجر يروي تاريخا. الراوي متعدد، واحد في كثير وكثير في واحد. وكما تخرج الاغنية من صدر المغني، والهواء من قصب الناي والقصة من صدر الحكاء، تخرج الاصوات من الزمان ومن المكان، جليلة ومهيبة وجميلة وبهية، وتخرج خافتة احيانا واحيانا أخرى تكون مثل صوت الجلجلة. هل أسجل الصوت، ام أدون معناه؟ هي جدلية أزلية بين فعل التوثيق النقي وتداخل المعرفي والاسقاط الذاتي.

للضباب الذي يلف الابنية صوت العصافير الغائبة، وللشوارع التي سلكها الجنود والاحصنة، صوت جوقة عال، هناك صوتٌ فردٌ لكل من سقط من ذاكرة التاريخ، ولكل من نذكره، يمر هؤلاء محملون بهم، ويعودون من باب موارب الى عوالم غائبة. للنقوش الحاضرة على واجهات المباني وللنقوش التي سقط بعضها تعبا من الوقوف على حرف التاريخ المائل، لغة مكسورة، ضبابية وسائلة، هي تحكي، وانت تلم الصوت الكثيف حرفا، حرفا، وتكوي به الذاكرة.

في شارع المعز لدين الله تكاد تمسك التاريخ بيدك، وتدنو من فكرة لمِّ الصوت الذي يغسل غبار الوقت. في شارع شامبليون، وتلك الشوارع المؤدية الى ميدان محمد طلعت حرب، وغمامة الابنية القديمة جدا على طريق المطار- في شارع صلاح سالم، وعلى جانبي جسر 6 اوكتوبر او تلك التي تمتد على مرمى الافق خلف الحسين والازهر مثلا، يشدك صوت الالوان في الابنية القديمة، الالوان التي تنام كببغاء رمادي اللون، وتكرر ثغاءها الباهت خلف الألق الضائع.

للقباب وقع رقصة الصوفي، تنفتح على استدارة محملة بالنقش البديع، وتكتفي بارتفاعها المثير، تبدو لوهلة مثل الراقصين في حضرة الله، غائبة في الحضرة، حاضرة في التجلي الكثيف، وتبدو احيانا مثل قفير النحل، تفتح بابا من خيال على العسل الكثير، وترفع سماوات من زرقة وقطن. بعض القباب تضع عصبة من لون واحد، الوردي مثلا، كالمتحف المصري، وآخذها على مقصدها البسيط.

الكباري، تمتد لتسلم العابرين للعابرين، تلك هي وظيفتها الازلية، لكنها كثيرا ما تُتأتيء بلغة مبهمة، قف قليلا على كوبري قصر النيل، وفسر السلام والكلام والصوت الخفيض. باذج كلام الدرابزينات الضخمة القديمة المخضرة الجميلة التصميم المائلة احيانا على الكباري. هناك، حيث تبدأ اوركسترا ما، عزفها الطويل، تختلط ادوات صناعة اللحن بهمس عاشقين كتبا اسميهما على قاعدة احد اعمدة الكباري الكثيره، أو على الحديد الذي يقاوم الصدأ، يقول الكوبري: كان هنا عاشقان، وهنا ايضا كان عاشقان، ويبدأ بارشادك الى خارطة الاسماء الوالهة.

رغم اهتزاز، لم تخطئه آذاننا، خلال مرورنا راجلين على كوبري قصر النيل، الا ان فخامة ما لا زالت توحي بالثقة، فلم أخَفْ، تذكرت دعاية لاحدى مؤسسات مصر تؤكد لك ان حضن مصر آمن. تبدد الوحشة أصوات الازدحامات على الكباري مثل كوبري 6 اوكتوبر، والباعة بلون طين النيل، والشمس المائعة اللون خلف ضباب اقل تلوثا من الماضي، واسود حديدية ضخمة على مداخل الكباري، وتوحي بحياة تنفجر من رمل المكان. للالتواء الخفيف المتوحش المتوثب في اعناق الاسود الحديدية طعم العنفوان. هي هناك، لا لأنها فائض عن حاجة الاستخدام البسيط لليومي المشاع، ولا لأنها انعكاس لنرجسية المصمم الفذ على طوق النهر الكبير، أنا هنا، تقول، أحمى أسماء العاشقين على جسد الليل فيَّ. هي تقف حارسة لشيء ما، لوجودنا الحاضر، أو ربما للماضي الذي يجري تحت جسور ارواحنا، أو للماء المقدس حيث تنادي هميس، آخر عروس النيل، وآخر قرابين العذارى الحارسات المبتهلات للمطر.

التماثيل: حالة تجاوز لنقص
في كل ميدان ترك المصريون تمثالا: محمد طلعت باشا، الرجل الذي يؤشر باصبعه كما تسميه الدليل، تمثال النحاس باشا او تمثال صغير لسيمون بوفوار في جاردن سيتي، وآخر في مدخل الدقي سقط اسمه من ذاكرة مزدحمة، التماثيل تتعب حين يتعب التاريخ، كلها مفتوحة الأعين. جربت ان اسال احدها عن وجهة القلب، فانشطر. وهناك ايضا، تفترش الارض - في ساحة الحسين، مثلا - تماثيل لرجال ونساء، وتنتشر احيانا بين شجيرات تزين جُزراً خضراء في الميادين وتحتمي بورق شجرها الخفيف، تهرب من فقر الى نوم، أقول تماثيل وتكاد نصدق، لولا الرائحة.

شدتني اصوات تماثيل النساء المعلقات في فضاء مفتوح على كل شئ فى منتصف أقواس شبابيك ضخمة جدا لقصر شامبليون الفخم المهمل، الذي يقع خلف نقابة الصحفيين المصريين. ناداني تمثال رأس المرأة الحزين المعلق، خيل الي انه حزين، رأس وحيد تخلص النحات من جسده بلا سبب واضح، ماذا يفعل رأس دون فورة الاعضاء، ماذا يقول دون قدرة على دعوة الحياة الى الرقص في مجاري الدم، هو مجرد رأس مشلول غير قادر على تجاوز نقصه، وغير قادر على ترك غضبه على قدر البتر وتظاهر السادة الغارقين في التخيل والتمني بالحزن الجليل. الكمال يحيط بنقص وسؤال، على الجانبين تمثالان كاملان لامرأتين جميلتين ترتديان غلالتين شفافتين تكشفان عن انوثة، تفرض نفسها من نقش الحجر في اعلى الاقواس وتبشر بقيامة الورد المقدس من تحت القماش، لكنهما يشكوان تعلق المارين بالوجه الحزين. ماذا تعني هذه المسرنمات غير دورة كاملة للنقص في نصف قوس، وبماذا توحي؟ أراها تنحاز لـ، "لو"، وتنكسر دواما لمن لا يرى سوى الانحناء في قوس الالوان.

ابتكار وخفة روح: باذنجانة في معرض غزل
تتعبك الاصوات الباطنية، تغلق روحك قليلا، كي لا تذبحك الاسئلة التي ليس لها اجابات. الاصوات المعتادة ومخارج الحروف التي تشرح نفسها بخفة مباشرة تبدأ بالعلو. يعاكس رجال في ميدان التحرير نساء عابرات، هناك سمعت اغرب "قفشة" غزل على الاطلاق. الرجل الذي يجلس جهة اليمين، وخلفه المتحف المصري، يحاول أن يجتهد في لفت انتباه جميلتين متعبتين تسيران في الميدان، يحاول ان يجرب "قفشة" جديدة جاذبة، وتسمعه يرمي الكلام الغريب: "تعبانة تعبانة، بس بتننجانه"، باذنجانه، تخيله يقولها بعفوية هكذا، وحاول ان تستوعب ان توصف امرأة بالباذنجانة، وان ترد كلمة كهذه في معرض غزل! ضحكت طويلا، تخيلت أنني ارمقه بغضب، مثلا، وتخيلته يرد "دي ما طلعتش بتنجانة، دي طلعت بابا غنوج". دائما تذهلنا قدرة الشعب المصرى على اجتراج النكته وتركيب الصور الجديدة، ونقع غالبا في سباق المسافة الى روح النكتة العالية.

تحبهم، شعب مصر، من قلبك: لا تملك إلا أن تحب الاء رفعت، الصحفية في وكالة الانباء المصرية، حين تأتي بتلك المصطلحات الفريدة لتختصر الكلام العادي، يسهل ان اتذكر من ضمنها:" اتدلق زي الجردل"، والورق "باش" يعني تبلل، او "راشقة". أحب مخارج الحروف السلسة في لهجتها المصرية الجميلة وانتقاداتها الدائمة لي " انت بتتكلمي مصري كويس، كلمة "يختي" دي لوحدها تديك الجنسية، بس احنا بنقول مسا الخير او السلام عليكو، مش يسعد مساك"، اتعلمي بقى، وتضحك.

كان قمر مصر عاليا جدا، وكانت هند مختار، الصحفية ايضا في نفس الوكالة، تمشي في الشارع مثل فراشة، كاميرا جوالها توثق كل لحظة ممكنة، تشرح بفرح كل ما تعرفه عن تاريخ نمر به، تقول "دي تعتبر حديثة جدا بالنسبة للآثار الفرعونية أم سبع تلاف سنة". تبتسم امام مسجد جميل التصميم يسمى مسجد برقوق، وتقول: سمي برقوق "لانه كان جاحظ العينين"، ونضحك. نسير بالعكس من الاحدث الى الاقدم، نمشي في أزقة خان الخليلي ونخرج الى شارع المعز، ونسير طويلا وصولا الى بوابة مصر القديمة، أحسست اننا فعلا انتقلنا بالزمن الى تاريخ سابق، حتى لكأنني رأيت ان حصانا يخرج من البوابة حاملا فارسا ضخما. ماذا الذي سيفعله فارس من زمن غابر في شارع المعز؟ يمتهن السياسة، ربما يلقي نكتة عابرة؟

تذكر الصديقتان الساحرتان اسماء الامكنة، تناقش الاء معي مواضيع روايات مختلفة، ونتحدث عن اشياء لم أقرأها أنا واشياء لم تقرأها هي، وتصر هند على اهدائي مجموعة كتب، اشتريناها من معرض الربع الثقافي، حيث يعرض شبان بمبادرة منهم، عددا كبيرا من الكتب المتخصصة في الهندسة والزراعة والطب والادب وادب الاطفال، الخ، بلغات ثلاث: العربية والانجليزية والفرنسية. في شرفات المبنى الداخلية المطلة على ساحته المربعة، بعض الكتب القديمة، وقعت في يدي قواميس متخصصة صدرت عام 1967 او 1974 و1982، لكن اغلب الكتب حديثة، تباع بعشرين جنيها للكتاب واحيانا بعشرة، فيما تباع مجلة متخصصة للاطفال بجنيهين، ويقع هذا المعرض في مبنى قديم، بتصميم لم آلفه في الابنية المصرية واقصد شكله المربع الذي يرتفع لطابقين، وساحته الداخلية غير المبلطة والتي تحتوي على نقش مستطيل من بلاط مكسر، ربما هو بقية لارضية درست.

تصر آلاء على دعوتي الى اكل الحمام المحشي في "فرحات"، اقدم مطعم في مصر، يزيد عمره عن المئة عام، ولا يزال يحتفظ بشكله القديم دون تجديد او اضافات ديكور مغرية. لاحقا تناولنا الطعام في "قدورة" للسمك، والذي انشئ عام 1952، و"ابو شقرة"، الذي يعد ايضا احد اقدم مطاعم القرن العشرين والتي تقدم نفسها من خلال ديكور حديث وفي مواقع مميزة في شارع جامعة الدول العربية، المهندسين، وفي مكان لا يبعد كثيرا عن شارع سوريا، حيث يقدم طهاة سوريون أشهى الأطباق الممكنة.

دعتنا الاء الى جولة في النيل على سفينة سكاربيه التي تتخذ من كورنيش جاردن سيتي مرفأ دائما لها. كانت السماء والماء والكباري تتوارى خلفنا، وكنا نسبقها الى أماكن أخرى من مصر. اقتربنا من فندق سوفوتيل على طرف الجزيرة، تلك التي تقسم النيل في وسط القاهرة، الى ممرين أضيق، وتقام عليها اهم معالم القاهرة مثل ميدان التحرير والأمانه العامة لجامعة الدول العربية، الذي زرته هذه المرة ممثلة لفلسطين كرئيس لوفد الخبراء الاعلاميين العرب لتشكيل عضوية اللجنة الدائمة للاعلام العربي وتعديل النظام الاساسي لمجلس وزراء الاعلام العرب، وكذلك المتحف المصري ودار الاوبرا. تقترب المعادي منا بهدوء يشبهها، و نقترب منها بصخب ارواحنا، وتنخفض الابنية في المكان الراقي، ويصبح النيل اوسع.

المرايا: لعبة المكان الساحرة
على شاطئ النيل، اقيم "فرح مصري"، سمعت تلك الموسيقى "الصعيدية" التي عرفناها من الافلام المصرية، وتراقصت المفرقعات النارية في جهة اخرى. الماء لم يكن عاليا، كأن النيل يرحب بضيوفه على طريقته الخاصة ليلا، فيما يمكنك ان ترى انعكاس الشمس صباحا على سطح مائه كنجوم تدور مسرعة في مجرة. تحملك خطواتك الى هذا الجمال وترى وتصغي. وكما الموسيقى كان هذا الالتماع، قادرا على جعل روحي اكثر نقاء وجسمي اكثر خفة وقلبي اكثر فرحا. ازاء ذلك كله، قلت لمن معي: هناك الف سبب للموت، ربما، لكن هذا المنظر وحده، سبب كاف للحياة.

المقاهي، ظاهرة جميلة في مصر، يجلس الرجال والنساء على مقهى وادي النيل، والامريكان، والفيشاوي، والمقاهي المتناثرة في خان الخليلي، يشربون "البن المحوج"، والشاي "ابو فتله" والزنجبيل وطيف واسع من المشروبات.

مقهى الفيشاوي احد اقدم المقاهي في المحروسة، انشئ عام 1710، كما يظهر نقش بارز على باب غرفة داخلية، غرفة لا يرتادها احد من زوار المقهي الضيق المستطيل الشكل بسقفه المرفوع على اقواس جميلة، ويزدان بالنقوش والارابيسك والنحاسيات القديمة رغم ان مساحته لاتتجاوز 2م على اقصى تقدير. 1710 تاريخ ليس بالقريب، لكن المقهى لا يزال قائما، ويمتنع اصحابه عن ترميم تلك الاجزاء المتساقطة من السقف، أو اعادة دهان اطر المرآيا الضخمة التي تملأ جدران المقهى الداخلية والخارجية. في منتصف المقهى، مرآة بالغة الضخامة، يبرز لون الخشب الداخلي الفاتح من ثنايا صغيرة في لونها الابنوسي، وفيها كسر مائل يرتفع من منتصفها 20 سنتميترا تقريبا الى الاعلى ويبدو كعشبة جافة، او كنهر يسحب الكثير من رسائل الارض الى البلور. حين لمسته، تساءلت: هل يرتفع الكسر، هل هناك كسر يعلو، هل للكسر وظيفة أخرى خلاف ما نعرف؟

عادة ما يكون الكسر لئيما، لم يجبني حين سالته: ما الذي قصده حين لم يكتمل؟ هل كان هو وسيلة المرآة لذرف الدمع حين ينام المغني؟ هل كان ينوي اكمال طريقه ليصير طريقا لنا؟ كان البلور يبتلع الكسر تماما، وكان الكسر يبتلع ذاته ويسيح في اللوحة المتحركة. في اماكن كهذه، يمكن ان نجد اجابات مختلفة، ومفاجئة، وربما تتتعلم ايضا كيف تطرح الاسئلة.

يشعر اصحاب المقهى بالفخر، يشير احدهم مرحبا ومبتسما الى واجهة ملأى بالصور في الغرفة الداخلية، حيث تتناوب الصور والارابيسك على مهمة التوثيق، وتتبادل الادوار في منح القيمة. من يعطي الاهمية لمن؟ ويعدد الرجل اسماء ابرز الشخصيات التي زارت المقهى: الملك فاروق ونلسون مانديلا... يستمر فيض الاسماء، وانظر مجددا في المرآة الضخمة في الداخل، واحدق بما يشبه عيني البوم في منتصف اطارها الذي لا يوجد في المكان أعرض منه، أو أغمق منه لونا. شعرت بقليل من الارتباك، وتركت المكان.

في الفيشاوي، استعدت رابطا مع الخرافة. هناك، احسست ان للمرايا الضخمة ارواحا، تحتفي بالغبرة الغائرة في نقوشها العميقة، وتبتسم. المرايا ترحب بنا، احسست انها تبتلع المكان والزمان وصورنا. عالم مواز، والشخوص هناك يشبهوننا، يقلدون حركاتنا المائعة، ويقتربون من الاطر حين نهم بالرحيل. يسدل سيد المرايا الستار عن مشهد يحمل صورنا، ليبدأ مشهد آخر. ربما لو صمتنا قليلا لسمعنا اصواتها تحكي عمن مروا هناك، لو اصغيتُ قليلا لسمعتها، ربما، تذكر اسمي، ولربما سمعتها تضحك من مشهد سيدة جلست خلفي مباشرة، في الزاوية المطلة على الشارع الضيق، وهي تصرخ برعب بسبب قطة مرت اسفل مقعدها. للناس فوبياهم الخاصة، وللمرايا لؤمها الجميل.

في الفيشاوي، ينتظر الليل لينفتح باب في المرايا. سحبت شبيهتي، من الكسر المائل، وخرجنا. هي معي هنا، نكتب النص وتدهن الكلمات بالبلور والفضة المذابة، وتحمل حكايا الارابيسك، اواني النحاس، المذياع ذو الاصابع العاج في اعلى الزاوية عند المدخل الايمن، اطارات المرايا الضخمة التي تعاقب على حفرها نجارون مصريون تناسخ في ايديهم اسلافهم واقواس تحنو على العابرين.

أشياء تعلو على التاريخ وأخرى لا تعلو على المقدس
للبنايات في مصر فرادتها، عادة تبدو عالية جدا ومكتظة بالناس. ما خلا الابراج الحديثة، غالبية الابنية قديمة أو قديمة جدا أو آيلة للسقوط ، لكنها لا تزال تحفل بسكانهاا. كلما ظن الرائي ان الحداثة سادت الاحياء الجديدة في مصر، فوجئ بقصر بهي كانت تسكنه احدى الهوانم يختنق صمتا بين العمارات العالية، ويحتفي بمعماره المتفرد الانيق بأنفة وصمت. العشوائيات الواطئة تغص بالبشر وتمتد حتى تظن انها لا تنتهي، ككل شي في مصر.

برج القاهرة مرتفع جدا، هو لا يعلو على التاريخ بقدر ما يعلو على السياسة، يرتفع البرج 187 مترا . قال لي احدهم: اراد الامريكيون ان يساوموا عبد الناصر على بناء السد العالي، وعرضوا عليه عشرة ملايين دولار، أخذ الرجل المال، وبنى البرج ثم قام ببناء السد العالي. هكذا، لا يزال البرج يعلو على رغبة الذين لا تاريخ لهم ويريدون مصادرة مستقبل الاخرين، ويسعون الى تدمير كل تاريخ في المنطقة العربية يزيد عمره عن 500 سنة، لتتساوى الرؤوس في القدم/ الحدائة، ربما.

في خان الخليلي يقع الأزهر ومسجد الحسين، وحيث يخضع الأزهر لعملية ترميم، فإننا لم نتمكن من دخوله، فيما تجلت في الحسين سلطة دينية صارمة، يقررها الرجال كالعادة، فهم يمنعون النساء، من دخول الجزء الاعظم من المسجد بحجة انه مخصص لهم، تُمنع النساء من رؤية السقف المخشب المائل الى الاخضرار والذي يشبه الى حد ما سقف الممر المخشب الذي يؤدي الى المحراب في المسجد الاقصى، وكذلك الاعمدة البنية الكثيرة التي تملأ المكان، والثريات التي تدور حولها اقمار الضوء الزجاجية الموزعة بشكل دائري. المشهد ذكرني بعباءة الصوفي حين تصل اقصى اتساع لها، ويحصل الكشف، كيف رأيتها، وكيف أصفها؟ طبعا تحديت - بقدر ما يلزمني- الرجال الذين تدخل عدد منهم لمنعي من الوقوف بالباب الكبير، قابلتهم بحزم هادئ، ثم تجاهلت وجودهم، واستمروا بالنظر الي بحنق. بحزن تذكرت كيف تفتح كل المساجد الاثرية في سوريا واسطنبول والقدس ابوابها للجميع لمشاهده البدائع، اما هنا، فلا. بسعادة رأيت افلاك الضوء في مداراتها كأقمار الامسيات الرائقة، بينما الرجال ممتعضون. وقبل أن اودع المكان، فكرت بمن ذهب الى تقسيم بيوت الله.

النساء يحتشدن في الجزء الصغير المخصص لهن، والمقسم الى جزأين: مكان للصلاة بمحراب مزين بالرخام يستوطن طير من الحمام أحد شبابيكه العالية التي تطل بعين واحدة على الجزء المخصص للصلاة خارج الضريح، ثم، مكان الضريح الذي يقود اليه باب ضخم، يعلوه قوس غير مزين بالنقوش التي تراها تؤطر الباب. النساء يقرأن الفاتحة، برفقة اطفالهن، يستنجدن بالحسين، لقضاء الحوائج والشفاء من الامراض، بايمان وخوف وهدوء يميل الى الصمت الذي يتخلله بعض التدافع الخفيف بسبب ضيق المكان المقسم الى نصفين بفاصل من خشب الارابيسك يرتفع مترا او يزيد قليلا ويمتد من منتصف الضريح اسفل الشبابيك المسيجة، باتجاهين متعاكسين، ويفصل النساء عن الرجال في الجهة المقابلة ويحجب الضريح غالبيتهم عن الاعين، وبعضهم يُرى، فيما لا يفصل شيء عن الله، هؤلاء الرجال والنساء الذين قالت لهم الجدات أن الحسين يحمل دعواتهم ويحققها، تراهم يضيئون الشموع بخشوع وصمت. هنا، ينطق الصمت الذي لا تسمعه في شوارع القاهرة العامرة.

رجلان يجلسان على مدخل الباب المؤدي الى الضريح المجلل بالفضة وتتوسطه الثريات الكبيرة التي تحمل مصابيح دائرية، يبهر عيناك ضوؤها- ان نظرت الى اعلى، فتمسح يد من عتمة نقوشا بديعة وكثيقة في سقف المكان، لكنها لا تغطي على رخام ابيض مطعم بدوائر من الرخام البني مرسومة داخل مستطيلات عمودية من نفس اللون، تزنر المكان وتمتد على ارتفاع يزيد على المترين على طول محيط جدران المقام، اضافة الى مستطيلات مشابهة لها ومفرغة من الرسم والنقش، تمتد على الجدر بشكل افقي، ذكرتني وانا أتاملها بتلك النقوش التي تزين الجدران الخارجية لمسجد الجزار في عكا ومدخله الجميل.
أحد الرجلين اللذين فيما يبدو، يحق لهما دخول المكان، والجلوس به والاختلاط بالنساء، على العكس مما يحدث في الجزء المخصص للرجال، يعلق بابتسامة محذرة، فيما تشير يده الى كرتونة ورقية مفتوحة للتبرعات يحملها زميل له، " حاجة لله، بدال ما تصوري"، وارفض... لا مال يصل الى الله هكذا، ولا دعاء يصل الى الله من خلال احد، لكنني اعتدت ان اضيع بروحانية الامكنة.

في خان الخليلي، رأيت طالبة مدرسة سمراء صغيرة، تبلغ من العمر سبع سنوات، تقريبا، تشتري من بائع متجول قطعة حلوى، وتحمل على ظهرها حقيبة مربعة، جديلتاها نيلان صغيران، وابتسامتها تثير غيرة حورس في علاه، تمشي بثقة، كملكة، وتنظر الى السائحين بأنفة شهية عالية، تمنيت لو كلمتها، هن كذلك نساء مصر: شفافات، قويات، واثقات، واذا لزم الامر "بيْسيَحوا" لمن يمسهن بسوء.

هناك، في الخان، تسأل النساء البائعين عن بضائعهم، يساومن على سعر اقل، التقطت أذني امرأة حنطية تقول:" يعني الكلمة اللي تجيب البيع والشرا" ، لتحصل على سعر نهائي من البائع، اعجبتني الجملة، طلبت اليها اعادتها، تفاجأتْ وخجلتْ، لكنها اعادتها ببطء جميل، ضحك البائع وحفظتها.

في الشارع امام الحسين، سائق سيارة اجرة لم يقبل ان يقلنا، انتبه الى مسبحة اشتراها زميلي عبد الجابر النبالي، ورغم جمالها، فقد لفتت نظره حباتها التسعة والتسعين التي لا فواصل بينها، وعرض امامنا سبحته الخشبية "الاسلامية" التي تفوح منها رائحة عطرية. عبد الجابر، رد بذكاء: الله لا ينظر الى مسابحنا". سائق سيارة أخرى يقلنا الى شارع شهاب بالمهندسين ، يلخص الوضع في بلادنا العربية، فكرا وادارة، بقوله "كل واحد عندنا بياخذ باله من عياله بس، محدش له دعوة بعيال الجيران.. والصهاينة جايين بمشروع". الرجل الذي لم يحصل على تعليم كاف يختصر الحكاية ببضع كلمات، مضيفا:" ليس في مصر وحدها، بل في سوريا وفلسطين...".

المصطلح حنكة الخبراء والاعلام يسطح للوعي
للمصريين مصطلحاتهم الجميلة حتى اثناء ركن السيارة، يقولون، مثلا: "لِمِّ عجلك"، ولهم مصطلحاتهم الخاصة في كل شيء، وهو ما يميز هذه اللهجة، ويجعلها مختلفة ومبهرة ومفهومة في نفس الوقت، ويعكس قدرة المصريين على الابتكار، كما يعكس عمق ثقافتهم ووعيهم وقدرتهم على اثارة الدهشة دائما، الا ان ما تبثه بعض الاذاعات يثير الاستغراب والتساؤل. احدى الاذاعات التي استمعنا اليها على كوبري 6 اوكتوبر اثناء ازمة مرورية اعتيادية خانقة بثت صوتين لمقدمي احد البرنامج، شاب وصبية، يضحكان بشكل مستمر، لا يكفان عن مقاطعة بعضهما، ويتفوهان بلا أشياء، المأساة ان الشاب اعاد اربع مرات ما أسماه "اللغة المصرية"، تساءلت: هل يعي انه ينزع مصر ولهجتها الآسرة التي سرعان ما ننغمس في تقليدها- بعضنا بشكل اقرب الى الاتقان، على ما نأمل، وبعضنا بشكل يثير الضحك- من نسيجها العربي ويدمر ما نسميه الرابط اللغوي او وحدة اللغة، ويعمل على تسطيح الوعي المصري، ام انه يعي ويدرك فعلا ما يقول؟

الكثير من الاذاعات تبث اغاني على غرار "بحبك يا حمار"، لكن اذاعة الاغاني، تتخصص في بث الاغاني القديمة حيث تبدأ كل ساعتين وصلة بث لمغن فخم، الساعة التاسعة صباحا لفيروز والواحدة ظهرا لعبد الوهاب والثالثة عصرا لـ"ام كلثوم" او سومة كما يسميها المصريون، والخامسة لفريد اﻻطرش والسابعة لحليم وغالبا التاسعة مساء لمحمد فوزي وهكذا. سررت جدا.

نيل من الاصوات
الاصوات كثيرة في القاهرة: اصوات المتجمهرين على ابواب حلويات العبد في شارع طلعت حرب، والذين يقفون في صفوف امام بواباته وشبابيكه الاربعة لشراء حلوى العيد وعرائس المولد الشهية، السيدات اللواتي يرددن اغاني للحسين، اصوات الباعة في العتبة، اجراس الكنائس القديمة جدا قدم مصر، الآذان العالي في مساجدها الكثيرة التي تتزين للمولد النبوي، كما تتزين الكنائس لمولد السيد المسيح، صوت التاريخ من امكنة لم نصل اليها: الاهرامات التي لا تعني لي مشاهدتها شيئا بقدر ما تعنيه تجربة التجوال داخلها وتسلق احجارها الضخمة، وهو ما لم يكن ممكنا في زيارتنا القصيرة هذه، الاصوات القادمة من اسوان والسد العالي والاقصر ومعبد الكرنك، جنوبا، وهمس بحر الرمال في سيوة وخرير عين كليوباترا، غربا، وصوت النوبة، بلاد الملكات، حيث الاهرامات الصفراء تفترش شمال السودان وارض النوبة، تحمل عظمة الملكات وارثهن العظيم، كلها تصل مرحبة، ولا يسعفني الوقت القصير لها.

نيل من الأصوات يجري، ويلزمني الكثير من العمر لأسجل كل ما سمعت في موئل الاصوات العالية..الباقية.
للحضارات القديمة اسباب خلودها ورموزها المتشابهة، وتاريخها المبهر، زهرة اللوتس رمز اشتق اسمه من كلمة لوتاز التي تعني الجمال. في الديانة البوذية. اللوتس رمز، وكي يعيش الرمز، ينبغي ان يتم دفنه، هكذا يحيا بعد ذلك من جديد، والتقمص يدل على كل شي حي وميت في نفس الوقت، وتشير اليه زهرة اللوتس. في مصر، التي تبدو كزهرة لوتس عملاقة من الفضاء، يمثل اللوتس بنوعيه الازرق والذي تتفتح ازهاره صباحا وتقفل بتلاتها مساء، والابيض الذي يقفل بتلاته صباحا ويتفتح ليلا دورة الحياة والموت والبعث، زهرة اللوتس تتوج برج القاهرة وكل الاعمدة، وبنقوشها تمتلئ المقابر الفرعونية والمعابد.

لم أنج من المكان، ولا من الأصوات العالية، كما لم أنجُ وابنائي من الكتابة، كتب عمر ورغد وزينة لي خلال وجودي هناك رسائل محبة واشتياق ويوميات، وحين عدت، وجدتني اكتب لمصر محبة واشتياقا ويوميات سفر.