الثلاثاء: 07/05/2024 بتوقيت القدس الشريف
خبر عاجل
بوليتيكو: إدارة بايدن علقت إرسال قنابل دقيقة إلى إسرائيل

عبد الغافر والباب

نشر بتاريخ: 30/03/2016 ( آخر تحديث: 30/03/2016 الساعة: 15:34 )

الكاتب: نصير احمد الريماوي

عبد الغافر كان شابا في مقتبل العمر .. قوي البنية .. قصير القامة .. سمينا .. له كرش مفلطح، وبشرته مائلة إلى السُمْرَة مجبولة من تراب وطنه .. وعازفا بارعا على آلة اليرغول الموسيقية الشعبية النفخيَّة في الأعراس الشعبية، وكما تعلمون لا تحلو أعراسنا ومناسباتنا الجميلة إلا على أنغامه المعبِّرة عن مشاعر وأحاسيس كل فلسطيني وبث شجونه وحنينه للوطن الذي ارتوى من حبات عرقه، وغنّى على أنغامه الميجانا، وظريف الطول، والدلعونا وجفرا.. فهذه الآلة الحنونة تعتبر رمزاً من رموز إرثنا الثقافي الجميل فيطرب لسماعه الصغار قبل الكبار ويؤدون على أنغامه أجمل الدّبكات، والسّحجات الشّعبية..

لم تدرِ كم كان " عبد الغافر" يعشق الحياة، والعمل، ويرنوا بعيون الأمل لبناء مستقبل واعد له ؟.. تراه يخرج باكرا في كل صباح من صباحات حياته القصيرة في بلدته مسقط رأسه "بيت ريما" .. يذهب إلى عمله لكسب قوت عيشه، وبين الفينة والفينة يعطي الطفل "نبيل" -ابن شقيقه الذي يكبره- نقودا فلسطينية، من فئة الخمسة ملات أو العشرة ملات فضيَّة اللون وفي وسط قطع النقود هذه دائرة مفتوحة ..

تراه دائم الحركة.. منهمكا في جمع المال رغم قلّته - في تلك الفترة القصيرة التي عاشها- حتى تمكّن أخيرا من عقد قرانه على صاحبة الصّون والعفاف ابنة بلدته "فريدة شاور" التي كانت تلقب بـ "حمّورة" آنذاك، وتجهيز غرفته الوحيدة بالأثاث، ويحدوه الأمل بالزواج والعيش فيها !!! و لم ينقص هذه الغرفة الحجرية الوحيدة سوى الباب لإغلاقها وبذلك يكتمل عش الزّوجية، وكم كان سعيدا لهذا اليوم الذي انتظره 25 سنة.

من أجل حلّ هذه المشكلة قرر ذات يوم التوجه إلى قرية "قولة" - التي هجَّر سكانها جيش المستعمر البريطاني والعصابات الصهيونية بالقوة والقصف في عام 1948مما دفع السّكان الأبرياء والعزّل إلى الخروج مُكرهين تاركين خلفهم كل ما يملكون خوفا من لهيب النيران والقصف باتجاه القرى الشرقية على أمل العودة إليها .. على إثر ذلك لجأ كثيرون من أهالي القرى المهجَّرة إلى بلدتنا "بيت ريما" وفكانت علامات الألم، والخوف، والإرهاق، والجوع بادية عليهم فنُصبت لهم خيام، وبراكيات من الزنك على طول الشارع العام ووسط البلدة لإيوائهم .. بعد فترة وجيزة صار بعضهم يتسلل ليلا ويذهب إلى قراهم المنتشرة على الساحل الفلسطيني المُحتل على أمل تحرير ما أمكنهم من ممتلكاتهم الأسيرة من أنياب العدو .. فكان بعضهم يستشهد، ومنهم من يرجع مصابا بالجراح المتوسطة أو الخطيرة أو الطفيفة، والبعض الآخر يعود سالما مع ما يحمله ..

عزم "عبد الغافر" في ليلة قمريّة على شدّ الرِّحال ورافقه "مصطفى سطوف" و" أحمد ذيب" في رحلته المحفوفة بالمخاطر هذه من أجل مساعدته في إحضار باب خشبي من أبواب منزل بعض أصدقائه المهجور في قرية "قولة" التي تبعد قرابة (15) كيلو مترا غربا، ومن ناحية ثانية للإطلاع على ما حلّ بالقرية المنكوبة، وكان ذلك بالتحديد بعد أسبوعين من النّكبة الأولى مباشرة أي في نهاية شهر أيار من عام 1948..

خرجوا بإصرار وعزيمة لا تلين .. ساروا في الوهاد، والشّعاب، والوديان، والجبال متوجهين نحو " قولة" مُستهدين بنور القمر حتى وصلوا قرية "رنتيس" المجاورة .. تركوا دوابهم ترعى في حقولها بين أشجار الزيتون لحين العودة .. ثم واصلوا سيرهم مشيا على الأقدام خلسة حتى وصلوا القرية المذكورة تحت جنح الليل وفي ضوء القمر ..

مَشاهد القرية مخيفة .. لا حياة فيها سوى الدّمار، وأطلال منازل واجمة حزينة منتهكة حُرمتها .. مغتصبة، وحفيف أشجارها ينوح على الأهل، حتى الحيوانات الأليفة والطيور الدّاجنة هجرتها ولم يبقَ منها سوى آثار ريشها المخضّب بالدماء المتطاير هنا وهناك من الوحوش الضارية ..

تلمسوا دربهم نحو بيت بعض الأصدقاء حتى وصلوه .. وجدوه منهوبا .. وأبوابه مشرَّعة على مَصارعها .. لا أحد في الحوش ولا في الشارع سواهم .. ورائحة دماء الشهداء الزّكية وجثث المسنين الكبار المحروقة منتشرة تفوح في أحيائها .. منظر رهيب تقشعر له الأبدان. 

وسط هذا الصمت الرَّهيب قال" عبد الغافر" لزملائه : يا شباب خلينا نفك أحد الأبواب الخشبية السليمة بسرعة قبل بزوغ الفجر، وقبل أن ينكشف أمرنا للصهاينة، لتركيبة بابا لغرفة عُرسي إن شاء الله، وليكن هذا الباب أيضا الذكرى الشاهدة على جريمتهم النّكراء، كما سيبقى جزءا من تاريخ نكبة أهلنا، وستكون له رمزية خاصة تحكي قصة شعبنا، كأنه كتاب تاريخ يوثق بين طياته فصول الجريمة، وسيُذكّرني كلما فتحته صباحا أو أوصدته مساءً بقضيتنا .. نعم يا إخوتي سأضعه وساما على صدر الغرفة .. وكلما زارني زائر سأحكي له قصته .. سأكتب عليه "باب النّكبة " و تاريخها لتظل محفورة في الذّاكرة .. لكن المهم أن ننجح في نقله بسلام .. توكلنا على الله !! .

على وجه السرعة، بهدوء وخِفَّة تمكنوا من خلع أحد الأبواب وكان حبل بحوزتهم من النوع الليفي .. طلب عبد الغافر منهما وضع الباب على ظهره !! لكنهما نصحاه بضرورة المشاركة والتعاون في حمله لأن الطرق وعرة ومتعثرة، والليل غدّار، ولا يدرون ما يخبئ لهم .. إلا انه أصرّ على حمله لوحده غير عابئ بالمصاعب التي قد تواجههم .. لم يترك لهما مجالا أمام إصراره وعناده إلا موافقته الرأي على مضض.. حمّلوا الباب على ظهره ولفّوا حوله الحبل لتثبيته على جسده وأوثقوه جيدا .. ثم انطلقوا بيمن الله ورعايته ..

كان عبد الغافر يسير بالباب في المقدمة بخطىً ثابتة وهما يتبعانه من الخلف لمساندته .. أثناء خروجهم سيرا على الأقدام من القرية مع شقشقة الفجر لاحظهم جنود الاحتلال الصهيوني.. فتحوا نيرانهم نحو الثلاثة فأصابوا "عبد الغافر" بأعيرة نارية قاتلة .. هوى على الأرض فورا والباب على ظهره تلطخ بدمائه الطاهرة ، أما " مصطفى سطوف" فقد أصيب بجراح في يديه لكنّه تمكن من الهرب أما " أحمد ذيب" عاد ليستكشف أمر" عبد الغافر" .. اقترب من مكانه على بعد (50) مترا فشاهد جنود الاحتلال يلتفون حول الجثمان ودون حراك فأيقن أنه استشهد، فلحق بمصطفى الجريح باتجاه قرية "رنتيس" ونجيا بروحيهما، ولم يكن لديهما الوقت الكافي أو الفرصة ليتمكنّا من إحضار الجثمان بسبب مطاردة جنود الاحتلال لهما وسط كثافة الرصاص بعشوائية نحوهما .. فيما لفظ أنفاسه الأخيرة وسلّم روحه لخالقها واستشهد" عبد الغافر صالح عطية الريماوي" وهو لم يتجاوز من العمر خمسة وعشرين ربيعا، وبقي جسده يعانق الباب الذي أحبه وتراب الوطن السليب. من ناحيتهم جنود الاحتلال احتجزوا جثمانه الطاهر، وظلّ محتجزا منذ عام 1948 حتى الآن لم يعرف أهله وذويه في "بيت ريما" مكان احتجاز جثمانه ودفنه في مقابر الأرقام ... فصار الشهيد والباب معا ذكرى خالدة في أذهاننا، وجزءا من النّكبة التي حلم الشهيد بتخليدها وروايتها للأجيال ..
_____________________________________________________
*ملاحظة: الشهيد بطل القصة هو شقيق عبد الرؤوف عطية الريماوي، يطالب أهالي بلدة بيت ريما بإعادة جثمانه الطاهر لذويه. فما زال جثمانه معتقلا ومحتجزا منذ (68 )عاما في مقابر الأرقام الصهيونية. هذه القصة صفحة من صفحات تاريخ بيت ريما المجيدة، ويعتبر الشهيد من شهداء مقابر الأرقام الصهيونية.
*بعد مرور الوقت تزوج شقيقه الأصغر ويدعى" الخطيب" من خطيبة الشّهيد، ثم ذهبا إلى مدينة "صويلح" بالأردن للعيش معا والعمل هناك.
* للأسف الشديد لم استطع العثور على صورة شخصية له عند ذويه نظرا لعدم وجود كاميرات للتصوير حينئذ سوى مع المستعمر.
* مصدر المعلومات: نبيل عبد الرؤوف الريماوي ابن شقيق الشهيد، وعيد الريماوي .