الأحد: 28/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

ريماس وسارة عصفورتان في هذا الوطن المنكوب

نشر بتاريخ: 28/04/2016 ( آخر تحديث: 28/04/2016 الساعة: 14:32 )

الكاتب: رأفت صوايفه

أذكر أن أول فقيد لي كان عصفورًا سقط من عشه أمامي وأنا في الرابعة من عمري، كنت حينها الطفل الفضولي العابث كثير الجلبة بعينين واسعتين اجتاحهما سجم حزن وحنان بريء لينتابني الشعور بما أترجمه الآن بـِ كلمة كنتُ أريدُ نطقها له : " سأربيك .. " .

عاش طفلي اللطيف يومًا ونصف إلى أن نفق متأثرًا بحبة القمح في قاعِ معدته الصغيرة، اعتقدتُ بأني إن ربيت عصفورًا صغيرًا فإنه سيكبرُ ليطير بي في تحليقته الأولى، ولكنني أخطأت، فأمنيتي لم تتحقق ليس لأي سبب آخر سوى أن عصفوري "مات" ، أجهشت كثيرًا وأنا أواريه تلبية لرغبة أمي التي فسرت لي عدم تحركه وبرود جسده بأنه ذهب إلى الله، حثوتُ التراب على رأسي راكلاً بحقدٍ أكياس القمح المكدسة في مخزن بيتنا حتى ادَّاركتني أمي فهُرعت لتسديد خطاي مجددًّا على درب الاسلام، أذكر جيدًا نبرةَ صوتها المرتعش خوفًا وحذرًا من غضب الله عندما قالت: " هاذ نعمة يما، بلاش الله يحطك في النار"، كانت تلك المرّة الأولى التي حاول أحدهم أن يُقنعني بفقدان شيء .. وأنه لن يعود للأبد؛ ولكن بلا جدوى، لقد كان الفقدٓ الأول ومنذه صرتُ كلما أدار شخصٌ لي ظهره أتذكر انبطاحة العصفور الصغير.

ها أنا الآن في سن الخامسة والعشرين وما استطعت نسيانه، كان اسم عصفوري “ توتو “، والآن تحاصرني بنادق المحتل الهمجيّة ومن ضمنها بنادق "التوتو " والحي والمعدني المغلّف بالمطاط التي قتلت تسعًة وأربعين طفلاً وجرحت قرابة السبعمئة منذ بداية الهبّة إلى اليوم، الإحتلال يستهين بموت شعبي حتى أنه يطلق اسمًا ظريفًا على طلقة قاتلة !

كان توتو عصفوري الذي قد مات، والآن “التوتو” هي إحدى طرق الموت السريعة لعصافيرنا الصغيرة.

وبحزني الساخر بالبشرية الواجم المتجهم من سيئاتها منذ نشأتها حتى هذه اللحظة:
 
كان عمري بعمر ريماس ابنة الشهيدة مرام أبو اسماعيل التي أعدمتها يد المحتل المتوحشة لتسلب بسلاحها الدفء والحياة الوادعة من أحد وكنات هذا الوطن، أمي حاولت أن تخفف من فاجعة الفقد، ولكن من سيقوم بتلك المهمة الصعبة التي قامت بها أمي مع ريماس .. وأنا في عمرها لم أستوعب موت عصفور، فكيف ستدرك موت أمها !!

اليوم تركَ الاحتلال الغاصب - بلا أية رحمة - طفلتين في عراء هذا العيش، هذه الدنيا بمجتمعاتها - المحليّةً والعالميّة- التي تستخف بالانسان الفلسطيني، مجردةً إياه من حقوقه التي أقلها حقُّه بالحياة، تلك البنادق الحاقدة قتلت مع مرام عصفورتين (سارة بنت الستة أعوام وريماس بنت الأربع سنوات)، ومع ذبحِها لخالهما ابراهيم – الذي هو طفلٌ أيضًا- قطعت غصنًا كان من الممكن أن يخفف من مصابهما .

إلى أين نمضي ؟
هل سأنجبُ يومًا طفلاً يتيمًا ؟