الأحد: 19/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

التداعيات الداخلية والخارجية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

نشر بتاريخ: 20/06/2016 ( آخر تحديث: 20/06/2016 الساعة: 16:38 )

الكاتب: د. أمجد أبو العز

شكل مقتل النائبة البريطانية "جو كوكس" التي كانت من أشد المدافعين عن بقاء بريطانيا في الإتحاد الأوروبي على يد متطرف يميني بريطاني صدمة في المجتمع البريطاني، وانقلاباً في الفكر الديموقراطي البريطاني الذي تعود على الاحتجاج السلمي وكتابة الخطابات والعرائض كنوع من الاحتاج السياسي بعيداً عن أي عنف يرتبط بالصراعات السياسية. فهذه أول مرة في تاريخ بريطانيا تغتال فيه نائبة برلمانية في وضح النهار.عرفت النائبة كوكس بمواقفها الإنسانية وتأييدها للقضية الفلسطينية والسورية وترأست لجنة البرلمانيين لأجل سوريا وعملت في منظمات إغاثة دولية.

على أثر حادثة الإغتيال علقت حملات الإستفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي المقرر الأسبوع المقبل حدادا على كوكس وهي القضية الكبرى التي تقسم المجتمع البريطاني بحدة. ومن المرجح ان اغتيال النائبة سيقلب الطاولة على الداعين لانسحاب بريطانيا من النادي الاوربي، وسيرجح كفة المؤيدين لبقائها فيه. تذبب نتائج استطلاعات الراي وعدم حسم نحو 10% الى 15% من الجمهور رايهم خلق حالة من الحذر والترقب لاسيما ان استطلاعات الرأي تشير إلى تقارب في النتائج وتذبذب في تقدُّم معسكر البقاء تارةً وتقدُّم معسكرالخروج تارةً أخرى. إذا صوت البريطانيون للخروج من الاتحاد و"الطلاق" معه، فسيكون على رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، بموجب المادة 50 من اتفاقية لشبونة عام 2007، تقديم طلب رسمي بهذا الشأن إلى قمة الاتحاد التي ستُعقد في نهاية يونيو/حزيران الجاري.

على الرغم من ان فكرة الاستفتاء من بنات افكار رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون في حملته الانتخابية، الا انه من ابرز المعارضين لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي قائلا في خطاب ألقاه مؤخرا بالمتحف البريطاني في لندن، إن "الاتحاد الاوروبي ساهم في مصالحة بلدان خاضت حروبا طوال عقود، ونشعر بالندم اجلا ام عاجلا في كل مرة ندير فيها الظهر لأوروبا، إما ان نؤثر في اوروبا او أنها تؤثر فينا." السؤال كما طرحه الرئيس الروسي فلادمير بوتين، لماذا نظم (كاميرون) هذا الاستفتاء؟ لابتزاز أوروبا؟ أو لتخويفها؟ ما هو الهدف منه إذا كان هو نفسه ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.هل ارتكب كاميرون خطأ تاريخيا بطرحه مسألة استمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي على الاستفتاء.

في المقابل يواجه كاميرون انقلاباً داخل حزبة في ظل تزايد الأصوات في حزبه "المحافظين" الداعمة لفكرة "الطلاق الودي" مع الاتحاد الاوروبي، يأتي على راسهم عمدة اللندن السابق بوريس جونسون، واللورد ديفيد أوين وزير الخارجية والصحة والبحرية البريطاني الأسبق ومايكل جوف وزير العدل وغيرهم. صقور حزب المحافظين يعتقدون ان نمو الإرهاب الابيض" والفاشية واليمين المتطرف في القارة الأوروبية يعود الى مواقف الاتحاد الأوروبي واصفين الاتحاد "بنادي" للدول الغنية، تزيد سياساته وقراراته الاغنياء غنى والفقراء فقرا، وسياساته تقاد في غالبها من واشنطن، والخروج يعني التحرر من قيود عضوية الاتحاد وسيمكن بريطانيا من إنفاق أموالها وفق أولوياتها، وتحقيق نمو أسرع، لذا فالخروج من الاتحاد بمثابة الخروج من السجن.

كما يشتكي مناهضو الاتحاد من سيطرة دول منطقة اليورو الـ 17 على مجريات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، مما اثر على القدرة التنافسية حتى قبل أزمة قروض منطقة اليورو التي شلت الاقتصاد الأوروبي. ويعتقدون ان تدفق اللاجئين والهجرة غير الشرعية، سببها قوانين الاتحاد الأوروبي العاجزة عن كبح تدفق المهاجرين إليها الذين أصبحوا يشكلون عبئًا ماديًّا كبيرًا على الخدمات العامة مثل التعليم، والصحة، والضمان الاجتماعي. فالهجرة تتزايد كل عام باطراد، فأقلقت قطاعات واسعة من المجتمع البريطاني وهو يرى ساسته عاجزين تماماً عن وقفها؛ لأن مقتضيات العضوية في الاتحاد الأوروبي تؤكد حرية التنقل والإقامة والعمل للمواطنين الأوروبيين، بلا شروط ولا قيود، في أي بلد عضو في الاتحاد. يضاف الى ذلك التحديات الإقتصادية التي تواجه الاتحاد الأوروبي، وتعرُّض بعض الدول الأعضاء لأزمات اقتصادية كبيرة مثل اليونان، وأسبانيا، والبرتغال.

اما على المستوى الشعبي فنسبة كبيرة من مواطني بريطانيا يشعرون بالقلق ويرون ان الاتحاد سلب هويتهم الثقافية وأمنهم ووظائفهم ومستويات الدخل والمعيشة فضلا على سلب سيادة بلادهم وقدرتهم على المشاركة في اتخاذ القرارات بشكل شفاف وديموقراطي، لاسيما ان نحو 88% من القرارات المصيرية المتعلقة بحياتهم تتخذ خلف ابواب بروكسل المغلقة. ويرى الرأي العام في بريطانيا أن الخروج من الاتحاد هو السبيل الأفضل لوضع حد لتدفق اليد العاملة من بلدان أوروبا الشرقية، وللسيطرة أيضا على تدفق المهاجرين. ومحاولات بروكسل عقد اتفاقية تجارية مع واشنطن وإنشاء منطقة تجارة حرة معها من راء ظهور الاوربيين ولا سيما البريطانيين، والتي تفقد بريطانيا معها سيادتها الاقتصادية؛ ما سينجم عنه تقويض النظام الصحي وغيره من الخدمات الاجتماعية على حد وصف النائب البريطاني جورج غالاوي. ويعتقدون ان اوضاعهم يمكن ان تتحسن بمجرد عودة أوروبا إلى الحدود المغلقة والقومية الاقتصادية.

على الرغم من معارضة الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات والبنوك لخروج بريطانيا من الاتحاد، نجد في المقابل تأييد رؤساء الشركات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة في بريطانيا الذين يرون أن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي هو لصالح الشركات الكبرى، والمتعددة الجنسيات، أما الشركات الصغيرة فسوف يتم تدميرها شيئا فشيئا. وحسب مواقع اخبارية قام نحو 300 من رجال وسيدات الأعمال البريطانيين بنشر رسالة في صحيفة ديلي تلجراف البريطانية في 16 مايو الماضي اعربوا فيها عن تاييدهم لخروج بلادهم من الاتحاد لاعتقادهم ان ذلك سيؤدي لنمو أفضل لشركاتهم، واستعادة تقرير مصيرهم بأنفسهم. فالشركات الصغيرة حسب رايهم هي المتضررة بالبقاء وهي التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد البريطاني.

بالمقابل اكدت دراسات اقتصادية اعدها البنك الدولي على ان خروج بريطانيا من الاتحاد سيؤدي إلى خسارة بريطانيا لاتفاقيات التجارة الحرة وحوالي 224 مليار جنيهًا إسترلينيًأ، ن يؤدي الخروج إلى انكماش الاقتصاد البريطاني بنسبة 1.4% على الأقل بحلول 2019، ويفقدها القدرة على التاثير في الاتحاد الاوروبي على المستوى الاقتصادي والسياسي. سيعرض البلاد إلى موجات من المهاجرين غير الشرعيين بسبب تنصل دول الاتحاد من اتفاقيات الهجرة، منها إرجاع المهاجرينواللاجئين إلى أول بلد يصله المهاجر أو اللاجئ. سيفتح الباب أمام حرب تجارية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. سيجبر بريطانيا على إعادة التفاوض حول العديد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى مراجعة الكثير من التشريعات والقوانين التي أقرتها وهي داخل الاتحاد لتنفيذ قراراته. ستكون له تداعيات سلبية فورية على سوق المال والأعمال في لندن إذ ستخسر بريطانيا "حقوق بيع الخدمات المالية " لدول الاتحاد الأوروبي والتي تتيح للمؤسسات والهيئات المالية البريطانية أن تبيع خدماتها إلى الدول الأوروبية دون أن يكون لها فروع فيها..

وتتعرض بريطانيا حاليا الى ضغوط هائلة من حلفائها وعدد من العواصم الغربية والمؤسسات الدولية والمركز البحثية، تحذرها من الخروج من الاتحاد الأوروبي لما له من تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي المتقلب، وصعود اليمين المتطرف مستفيداً من حالة الخوف التي تنتاب المجتمعات الغربية. على سبيل المثال، حذّر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير مؤخراً ، من مخاطر "تفكّك" الاتحاد الأوروبي في حال خروج بريطانيا منه كما أعلنت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، أن العودة إلى سياسة الحدود المغلقة والانعزالية تشكل تهديدا خطيرا للمشروع الأوروبي وعدم استقرار وتقلبات شديدة في الأسواق المالية، فضلا عن انخفاض معدل نمو الانتاج وحذرت بريطانيا من الخروج من الاتحاد الأوروبي.

تتعدد التداعيات الداخلية والخارجية التي ستترتب في حالة التصويت لخيار الانسحاب من المنظومة الأوروبية، ابرزها ان انسحاب بريطانيا سيشجع دولاً أوربية أخرى على أن تحذو حذوها فتنفصل من الاتحاد الأوروبي. وابرز مثال على ذلك، ان مسالة الخروج من الاتحاد تناقش حاليا في هولندا وقامت سويسرا بسحب طلب انضمامها إلى الاتحاد الذي كانت قد قدمته عام 1992. وطالب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ورئيس الوزراء المالطي جوزيف موسكات حصول بلديهما على المزايا نفسها التي تسعى المملكة المتحدّة إلى التمتع بها على صعيد اتّفاقية دول الإتحاد الأوروبي الثماني والعشرين. كما سيضعف الانسحاب البريطاني الاتحاد الأوروبي ويؤثرعلى مكانته وقدرته على العمل ككيان موحَّد على الساحة العالمية، وسيشكل ضربة كذلك للتحاف البريطاني الامريكي وفقدان حليف إستراتيجي قوي في الاتحاد الأوروبي، إذ تعد بريطانيا أهم شريك للولايات المتحدة تعوِّل عليه في كثير من الأحيان لدعم مواقف تتسق مع مصالحها في بروكسل. كما سيعزز نفوذ معسكر الدول الأوروبية الشرقية، خصوصًا ألمانيا، على حساب الدول الأوروبية الغربية.

لعل مؤيدو الخروج من الاتحاد يمنون نفسهم بتمتع بريطانيا بوضع مشابه لسويسرا واتفاقية تجارة مع شركائها السابقين في الاتحاد الأوروبي. فإذا ما أرادت بريطانيا الخروج من المنطقة الاقتصادية الاوروبية فسيظل بإمكانها التفاوض حول اتفاقيات تجارية متبادلة مع الاتحاد الأوروبي مثل سويسرا، ولكن بالمقابل سويسرا لا تحظى بحقوق حرية تنقل الخدمات المالية إلى الاتحاد الأوروبي، ومن غير المرجح ان تحصل بريطانيا على اتفاقيات تجارية مع الاتحاد الأوروبي بمستوى تلك المبرمة مع سويسرا التي حصلت عليها عندما كانت تتفاوض على دخول الاتحاد الأوروبي وليس بعد الخروج منه.

اغتيال النائبة البريطانية جو كوكس افتتاح كأن بئر الكراهية واعادة هندسة الثقفة السياسة البريطانية
اغتيال النائبة البريطانية جو كوكس يشكل زلزالا سياسيا في الثقافة السياسية البريطانية ستساهم هذه الحادثة في اعادة هندسة الثقافة السياسة البريطانية . الغتيال لم يأت من فراغ فهو حصيلة الشحن الوطني والتحريض على الاتحاد الاوروبي والمهاجرين الذي قامت به وسائل الاعلام والاحزاب اليمينية على مدار الخمس سنوات الماضية. هذه المؤسسات دأبت على شيطنة الآخر، خاصة الجاليات المسلمة، لتمرير سياسات محددة وممنهجة تتعلق بالارهاب ووقف تدفق المهاجرين، لكن انقلب السحر على الساحر ليكون لذلك أثر عكسي بحيث قدم خدمة كبرى لخصومها من العنصريين اليمينيين الذين لا يتوارون عن تخوين معارضيهم واظهار العداء لهم، أياً كان هذا الآخر حتى ولو كان هو واحد منهم اي أوروبياً ومسيحياً أبيض. لا يمكن تحميل رئيس الوزراء مسؤولية مقتل النائبة، ولكن عندما يعكف اعضاء حزبه والمؤسسات الاعلامية المقربة منه على الحض على الغضب والكره وتخوين الاخر فلا عجب ان ينعكس ذلك على سلوك الناس. اعتقد كاميرون ان الاستفتاء سيبقى تحت السيطرة وستخدم مصالحة ومصالح حزبه، غير ان اغتيال النائبة مؤشر ان الامور بدات تخرج عن السيطرة لتستغل لتصفية الحسابات.
_________________________________________________
* محاضر في جامعة النجاح الوطنية متخصص في الشؤون الاوروبية