الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

طوال رحلة ذلك القارب خيّمتْ على متنه مشاهدُ الصّمت

نشر بتاريخ: 28/06/2016 ( آخر تحديث: 28/06/2016 الساعة: 15:27 )

الكاتب: عطا الله شاهين

في مشهد صامتٍ صعدَ اللاجئون الفارّون إلى القارب ذات ليلةٍ حالكة، وجلسوا على متن القارب بكلِ صمتٍ رغم أصوات الأطفال الرضع التي كانت تسمع لدقائق، إلا أن الصمت خيّم هناك أثناء بداية إبحاره. فهمْ أرادوا الهروبَ من جنونِ الحربِ الدائرة في بلدانهم، ووجهتهم كانتْ إلى أوروبا عبر بحرِ أيجة، فعيون الفارّين أخذت تنعسُ من شدة تعبهم، وغفا معظم اللاجئين دون أن يشعروا ..

فكلٌّ واحد مِنْ اللاجئين الهاربين على متنِ ذلك القارب أخذَ مكانه ونعس، وعمّ القارب صمتا رهيبا، حينما كان يبحر في العتمة، وفي زاوية بعيدة على متن القارب كانت تجلس امرأة عجوز، ألقتْ بعصاها جانباً واستلقتْ هناك في مكانها وراحت تشخرُ، وبجانبها جلسَ موسيقارٌ لمْ يأته النّوْم كباقي الناس، الذين غفوا على وقع الموج، وبدت الهموم على وجهه جلية، وكان يقلّب صورا بحيرةٍ تحت ضوء موبايله الثمين، ويتذكّر أحلاماً من ماضٍ عاشه في بلدٍ ما زال يحبّها ولكن تلك البلد ما زالتْ تدمّر، وأخذ ينظر إلى الصور تحت ضوء موبايله، وكانت دموعه تبلل ذقنه، ويسارع إلى دفنها في شنطته، وكان يطرق برأسه لوهلة، ويغوص في التأمل.. التقطَ من جيبِ قميصه الأسود كلمات أغنية وطنية كُتبتْ قبل أسبوع من مؤلفٍ غارق في مشاكله الاجتماعية، تمنّى لحظتها لو كان بحوزته آلة عود لكيْ يلحّنها قبل غرقه وموْته، ولكن ما من دربٍ أمامه سوى الانهزام لأحلامِ صحوته المنكودة.

في ركن آخر من ذلك القارب المُبحر في عتمته، كانتْ تجلسُ على مقعدٍ خشبي امرأةٌ ساحرة الجمال، تنظر في صورٍ فوتوغرافية، وكان يحرقها الكرْب وتغلبها دموع الآسى على فقدها لحبيبها الوحيد الذي عشقته وهامت به ذات زمن، كان ذاك الفقد الكبير لها متزامناً وعيد فلنتاين، عيد الحُبّ، وكانت تقول بصوت خافت فبينما كان حبيبي يسارعُ الوقت ليصلَ إلى عندي بباقةِ وردٍ أحمر، إلا أنَّ الموتَ صوبه كان أسرع، حينما فاجأته وحوش الليل، لقد ماتَ الرجل الذي أحببته وهو ممسكٌ باقة الورد، يا للخسارة، فها أنا أحمل في شنطة رحيلي عذابات مرارة رحيله ودموعاً لمْ تبرح خدّيّ. 

كان القارب يبحرُ ببطء، في عتمةٍ حالكة، ولم يسمع هناك سوى صوت الموج، حينما كانت تشقّ عباب البحر .. أما اللاجئون الفارّون فمنهم من ظلّ يغطّ في نومٍ عميق، ومنهم من ظلّ يجلسُ بصمت وخوف.. فكل اللاجئين الفارين كانوا يرسمون في أذهانهم تلك البلدان، التي سيصلون إليها، ففي النهاية همْ لا يريدوا سوى العيش بأمنٍ وأمان.. وأنْ يعاملوا باحترامٍ، وأنْ يُنظرَ إليهم كبشر فقطْ ..

كان مشهد القارب وهو يبحرُ بكل صمتٍ حزينا، لدرجة أن القارب اقتربَ من سواحل أحد البلدان دون أن يدري اللاجئون أين هم. فمشاهد الصمت ظلّت طوال الرحلة، ولكنهم حينما نزلوا فرحوا وبانتْ ثغورهم وابتسموا، لأنهم وصلوا بأمان، وفرّوا من موتٍ ما زال يحصد العشرات في حربٍ مجنونة لا يُرى أي أفق لتوقفها في القريب..