الثلاثاء: 07/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

أردوغان والكيان الموازي:انتهت المعركة وانتصر الزعيم

نشر بتاريخ: 30/10/2016 ( آخر تحديث: 30/10/2016 الساعة: 15:30 )

الكاتب: د.احمد يوسف

أحببت أن أتريث قليلاً وألا أتعجل الكتابة في هذا الموضوع لحساسيته، وغياب الحقائق والتفاصيل حوله من ناحية، ونظراً لأن فتح الله كُولن هو شخصية إسلامية لطالما قرأنا لها، وكانت حركته إلى وقت قريب تحظى بالكثير من المديح والإعجاب بين الإسلاميين في بلادنا العربية من ناحية أخرى، كما أن أنشطة الجماعة التابعة له، وخاصة التعليمية والدعوية في الفضاءات الإسلامية والعالمية، كانت تلقى قبولاً وترحاباً كبيرين.

نعم؛ تاريخياً تعود معرفتي بهذه الجماعة إلى سنوات الثمانينيات، حيث كان يظهر أفراد من هذه الجماعة خلال المؤتمرات والفعاليات الإسلامية، التي كانت تعقدها مؤسسات الجالية المسلمة في أمريكا، وكان هؤلاء الأفراد يشاركون في معارض الكتب داخل تلك المؤتمرات، حيث يقومون بالتعريف بأنفسهم وبالكتب التي تخص حركتهم، وهي في أغلبها – آنذاك - للمؤسس لهذا التيار الصوفي الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، والمعروفة بـ"رسائل النور".

في الحقيقة أن من قرأ تاريخ تركيا الحديث، سيأتي على صفحات من سيرة هذا الرجل العظيم، والذي تصدي بجراءة للكماليين، الذين عملوا على تغييب الإسلام في تركيا بعد إسقاط دولة الخلافة الإسلامية، وسيجد نفسه متعاطفاً مع هذه الحركة، وأسلوبها الهادئ في التربية والهداية.
لكن يبدو أن الجماعة قد تغيرت كثيراً بعدما آلت قيادتها إلى فتح الله كُولن، والذي حاول أن يبني تحالفاً مع أردوغان مع بداية تأسيسه لحزب العدالة والتنمية عام 2001، على إثر خلافه خلال المؤتمر التنظيمي مع إخوانه في حزب الفضيلة عام 2000.

ربما كانت مراهنات فتح الله كُولن أن أردوغان هو شاب طموح بدون خبرات، ولا يملك قاعدة جماهيرية مؤطرة إسلامياً، وهو؛ أي كُولن، كمفكر وقائد لجماعة كبيرة تحظى بهذا التأطير التنظيمي، ويتجاوز تعدادها الثلاثة ملايين، يمكنه في عدة سنوات الاستحواذ على الحزب، واحتوائه لصالح جماعته.
وعليه؛ استمرت علاقة التعاون والتنسيق بين الطرفين؛ أردوغان وكُولن، لحوالي ثمان سنوات، ثم راودت الشكوك رجب طيب أردوغان حينما كان رئيساً للوزراء في أهداف هذه الجماعة، وبدأت القطيعة تأخذ طريقها شيئاً فشيئاً وتتوسع بين الطرفين.
من المعروف أن كولن قد غادر تركيا إلى أمريكا في عام 1999 بدعوى العلاج، ولتجنب الاعتقال من قبل العسكر، واستقر هناك في ولاية بنسلفانيا، حيث أقام في قصر منيف يمارس من داخله أنشطته ومخططاته بعيداً عن الأنظار.

في عام 2012 - 2013، وبعد المحاولة التي تحرك بها أتباع كولن في جهازي الشرطة والقضاء بفتح ملفات حساسة تخص مقربين من أردوغان وتوجيه الاتهام لهم، وخاصة محاولة اعتقال رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، ثم بعض قضايا الفساد التي طالت عددٍ من الوزراء المقربين له، والتي أسمتها الحكومة التركية آنذاك "الانقلاب القضائي"، ثم أحداث حديقة "جزي"، الأمر الذي فطن معه أردوغان إلى خطورة تلك الجماعة (الخدمة - هزمت)، والتي أطلق عليها اسم التنظيم أو "الكيان الموازي"، واتخذ قرارات برصد ومراقبة قياداتها وكوادرها في مؤسسات الدولة، وشرع في ملاحقة مراكز ثقلها التعليمية والاقتصادية والإعلامية.
بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو 2016، لم يعد في القوس منزع بالنسبة لأردوغان، فتحرك بشكل قوي وسريع لتقليم أظافر هذا التنظيم في مؤسسات الدولة، وكانت قراراته التي أثارت زوبعة غربية بسبب تسريحه لعدد كبير من جنرالات وضباط الجيش، وكذلك شخصيات قيادية في الشرطة والقضاء بدعوى الانتماء للتنظيم.

في الحقيقة، بدا الأمر وكأنه عداوة شخصية وتصفية حسابات بين أردوغان وكُولن، إلا أن التحقيقات التي تمت مع عناصر هذا التنظيم في المؤسسة العسكرية والقضائية التي ألقي القبض عليها بعد فشل الانقلاب، أظهرت أن أردوغان كان على حق في الإجراءات التي سبق وإن اتخذها أو تلك التي كان يخطط لها، حيث تبين أن هذا التنظيم قد نجح في التغلغل كالأخطبوط في داخل كافة مؤسسات الدولة وبالأخص الجيش، وكان يبيت أمراً للتخلص من أردوغان وحزبه.

وفيما ذكره الكاتب التركي أحمد هاكان ما يوضح طبيعة تلك العلاقة بين أردوغان وتلك الجماعة، حيث يقول: "قبل استلام حزب العدالة والتنمية زمام الحكم، كانت جماعة فتح الله كولن تتنظم بشكل سري خوفاً من نقمة الكماليين عليهم، وكان حزب العدالة والتنمية على علم بذلك، وكان يرى في ذلك عذراً لهم، لكن بعدما استلم حزب العدالة والتنمية زمام الحكم وحلَّ محل الكماليين، أصبح من الضروري أن تتغير المفاهيم، ولهذا لم ير حزب العدالة والتنمية حرجاً في التحالف مع جماعة كولن.. في البداية، كان كل شيء على ما يرام، ولكن بعد فترة من الزمن لاحظ حزب العدالة والتنمية أن جماعة كولن يتصرفون وكأن الكماليين على رأس الحكم، يحتالون وينتظمون خفية، ويسيطرون على المؤسسات، إلى أن أحسَّ أردوغان بذلك، وقال لهم: توقفوا. وعندها بدأ الصراع معهم". ( صحيفة حرييت، 14 يوليو 2016)

إن الرجل الذي رفع شعار "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والسياسة"، المقتبس عن الشيخ سعيد النورسي؛ مؤسس جماعة النور الأم، والذي آثر أن تكون جماعته مبتعدة عن العمل السياسي الحزبي، ومكتفية بالتحالف مع الأحزاب السياسية في مقابل الدعم والامتيازات، وعاملة على التغلغل في مؤسسات الدولة والتقدم في المناصب الهامة. وقد اعتبر كولن أن الجهل هو أكبر مشاكل تركيا الحديثة، فأسس جماعة تربوية دعوية خدمية تعنى بالتعليم والطلاب، ولكنها تحولت مع الزمن إلى إمبراطورية ضخمة، وقد قدرت عريضة الادعاء بحق التنظيم ميزانيته بـ 150 مليار دولار أميركي. (سعيد الحاج نقلاً عن صحيفة يني شفق)

وبالتوازي مع هذه الإمبراطورية الناشطة في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، عملت الجماعة - وفق تعليمات زعيمها - على التغلغل في كل مؤسسات الدولة للسيطرة عليها، وقد كان لها ذلك في عدد منها، وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية؛ الشرطية والقضاء وجهاز الاستخبارات، ثم المؤسسة العسكرية، كما اتضح من التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية مع العناصر التي تمَّ القبض عليها بعد العملية الانقلابية الفاشلة.

كولن وجماعة الخدمة: إفادات وشهادات
في سياق تفسير العملية الانقلابية الفاشلة، قدَّم خلوصي أكار؛ رئيس الأركان، إفادته أمام النيابة العامة في أنقرة، والتي جاءت في ست صفحات، وذكر فيها تفاصيل ما جرى خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة، وأنهى شهادته بالقول: "أعتقد أن كل من خطط لمحاولة الانقلاب هذه إنما هو من منسوبي منظمة فتح الله كولن، وأعتقد أنهم قاموا بذلك استباقاً لما كنا ننوي القيام به خلال جلسة شورى الجيش في أغسطس 2016، وأنهم سعوا إلى إحباط الخطوات المتقدمة التي اتخذها القضاء في سبيل مكافحة هذا التنظيم الموازي". (صحيفة حرييت، 27 يوليو 2016)

أما الباحث والمحلل السياسي في معهد الفكر الاستراتيجي التركي؛ جاهد طوز، فقد أوضح بأن هذه الجماعة كانت دعوية وحركة إسلامية تميزت بالدراسات والتعليم، واستقطبت مجموعات كثيرة من الشعب التركي، الذي قدم لهم المساعدة لاسيما من رجال الأعمال. وأشار إلى أن هذا التنظيم أسس المدارس والجوامع في تركيا، ولديه أنشطة في جميع مجالات العمل، وله دور في الداخل التركي عن طريق الشركات ورجال الأعمال، معتبراً أنه استغل وضعه في السابق كحركة دعوية وإسلامية وفتح الكثير من المدارس في دول العالم.. وقال إن هذه الجماعة كانت لا تعمل وفق قوانين الدولة، وانتشرت بشكل سريع في جميع مؤسساتها، وتقلد أعضاؤها المناصب العليا سواء في المؤسسات القضائية أو الجيش أو التعليم أو المؤسسات الأخرى لاسيما الأمنية.( وكالة الأنباء الكويتية، 17 يوليو 2016)

أما لطيف أردوغان؛ أحد القيادات التي انشقت عن هذه الحركة عام 2009، فقد أصدر قبيل محاولة الانقلاب الفاشلة كتاباً بعنوان "الوجه الشيطاني لكولن"، شرح فيه النوايا والخطط والأعمال التي وصفها بـالشيطانية لفتح الله كولن، من خلال تجاربه التي عايشها عن قرب طوال العقود الماضية، والتي كان فيها مقرباً من زعيم المنظمة. كما تنبأ لطيف في الكتاب ذاته بقيام محاولة انقلاب. وقد أشار في مقابلة تلفزيونية على فضائية الجزيرة بأن فتح الله كولن لم يكن في شبابه من طلبة الشيخ سعيد النورسي، الذين كانوا يسمون "الحلقة الصلبة"، إلا أنه تأثر بكتابات الأخير وسيرته الشخصية، حتى أنه عزف عن الزواج تشبهاً به وتفرغاً للدعوة. وفي النصف الثاني من القرن الماضي، كان كولن من الرواد الذين كوَّنوا الجيل الثاني من الحركة النورسية بعد تفرقها، منشئاً ما سمي لاحقاً بحركة "الخدمة" أو "جماعة كولن".. هذا ويعرف عن كولن تبحره في العلوم الإسلامية المختلفة، وبراعته في الخطابة، إضافة إلى غزارة إنتاجه العلمي، حيث ألف أكثر من 70 كتاباً، وقد بزغ نجم كولن في تركيا بعد انقلاب عام 1980 الذي أيده ومدح قياداته العسكرية، بينما وجدت فيه القوى الحاكمة بديلاً للإسلام السياسي، لكن شهر العسل لم يدم فتمت ملاحقته لست سنوات بتهمة تهديد النظام العلماني ومحاولة إقامة نظام إسلامي، الأمر الذي دفعه إلى مغادرة تركيا والإقامة في أمريكا.

ويتبنى كولن مفهوماً غير مسيس للدين، فهو يرى أن "الإسلام ليس أيديولوجية سياسية أو نظام حكم أو شكلاً للدولة"، ولذلك فقد كان دوماً على خلاف كبير مع رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان؛ زعيم حركة الإسلام السياسي في تركيا، لدرجة تصريحه بشكل علني أن "روحيهما لم تأتلفا بل اختلفتا".
وأكد لطيف أن كولن ليس صوفياً بل يعادي الصوفية بشدة، وظل يخدع الناس لسنوات على أنه متصوف، ومئات الآلاف من أتباعه لا يعرفون عن الإسلام إلا ما يقوله هو لهم، معتبراً أن ما كان يقوله كولن هو مسرحية، فالرجل لم تكن له هموم إسلامية بل كان مشغولاً بالسيطرة على الدولة التركية، وقد سُمح له بذلك لصالح أمريكا.

وقال لطيف أردوغان إن هناك غراماً وحباً من نوع خاص بين غولن وأميركا وإسرائيل، مضيفاً أن حب أميركا وإسرائيل هو من المبادئ الأساسية لكولن وجماعته.
وقال إن كولن أسس الجماعة بترتيب مع النظام العلماني في تركيا والنظام الدولي الذي تديره أميركا وإسرائيل، وإن الاستخبارات التركية كانت تتبع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وتتابع تنفيذ كولن للأوامر. وأوضح لطيف بأن كولن استغل واستخدم "رسائل النور" وسيلة للوصول إلى الناس وتكوين جماعته، وتخلى عن الرسائل، وبدأ يعمل من أجل تأسيس الجماعة عام 1971، مشيراً إلى أن المرحلة الأولى لتأسيس الجماعة كانت بين عامي 1968 و1971، وأن النظام العلماني آنذاك غض الطرف عنها، وأن هناك علاقة خفية بينه وبين النظام سمحت له بممارسة أنشطته دون ملاحقة.( برنامج "بلا حدود" 10 أغسطس 2016)

بالطبع، فإن حقيقة مثل هذه الاتهامات سوف تثبت مصداقيتها إذا تمنَّعت الإدارة الأمريكية فعلاً عن تسليم كولن لتركيا أو طرده منها، خاصة بعد تقديم كل الأدلة التي تدينه، وتثبت بالدليل والبرهان بأنه العقل المدبر الذي يقف خلف المحاولة الانقلابية.
هناك ملاحظة أوردها د. سعيد الحاج؛ الخبير في الشأن التركي، بشأن عناصر هذا التنظيم، وأجدني متفقاً معها، وهي أن الحكومة التركية تعرف قبل غيرها بأنه لا يمكن القضاء على أي مجموعة أيديولوجية ذات حاضنة شعبية سيما إن كانت مسلحة، وتدرك بالتأكيد أن هذه المحاولة الانقلابية قد لا تكون الجولة الأخيرة مع التنظيم، وبالتالي فالقرار الاستراتيجي ينبغي أن يدور حول كسر جموح قوتها وطموحها الخارج عن إطار القانون، واحتواء الأنصار والأتباع في سياقات تخدم الدولة والمجتمع، وتستثمر عاطفتهم وحيويتهم وعملهم الدؤوب، وأن هناك في المجتمع التركي من التيارات الدينية والفكرية ما يمكن أن يملأ الفراغ الفكري الدعوي الذي سيحتاجه هؤلاء باقتدار على المدى البعيد.

هذه هي الحقيقة التي عايشنا مشاهدتها كإسلاميين، حيث تعرضت الحركات الدينية وأنشطتها الدعوية والحركية لأذى الأنظمة الحاكمة في المنطقة، ولكنها ومع كل جبروتها لم تسطع كسر إرادة هؤلاء، وظل الصراع قائماً معهم لعقود طويلة، ولكن بعض هذه الأنظمة قد نجح في تطويعهم واستيعاب طاقاتهم وإمكانياتهم داخل النظام، من خلال السماح لهم بإنشاء أحزاب سياسية تمارس قناعاتها وأفكارها على المكشوف، ودونما حاجة للتآمر والعمل السري.
لم يعد هناك من لديه - اليوم - شبهة بأن جماعة كُولن هم من كانوا خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة، وهذا ما صرَّحت به الكثير من الجهات الغربية، بل إن بعضهم انتقد الدعاية السلبية التي تقوم بها وسائل الإعلام الغربية ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقد اعتبر جيل مارتن شوفيه؛ رئيس تحرير مجلة (باري ماتش) الفرنسية، بأن ذلك يصب لصالح أردوغان، وأنه يقدم مؤشرات بأن الرجل على الطريق الصحيح، وقال: "بتنا متأكدين أن جماعة كولن هي من نفذت تلك المحاولة الانقلابية".

ختاماً.. لقد انتصر أردوغان وخرج من هذه المعركة مع الكيان الموازي أقوى مما كان، وقد نجح في إعادة هيكلة الجيش والمؤسسة الأمنية والقضائية، وقد استتبت له الأمور - نسبياً - داخل البلاد، والتحدي الذي أمامه بشكل واضح وصريح هو الإرهاب، بسبب حالة الفوضى التي تعم المنطقة ودول الجوار التركي، والتي إذا ما استقرت أوضاعها السياسية والأمنية، فإن تركيا أردوغان هي من سترسم ملامح خريطة المنطقة المستقبلية، وذلك بتوافقات مع دول أخرى مركزية بالمنطقة مثل إيران، وبالتنسيق مع القوتين الأعظم؛ روسيا وأمريكا.