الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

ابحث عن يوم ممل...

نشر بتاريخ: 26/02/2018 ( آخر تحديث: 26/02/2018 الساعة: 12:06 )

الكاتب: عيسى قراقع

ابحث عن يوم ممل، يمر طبيعيا طبيعيا، هادئا هادئا، الشمس منسرحة في فضائها، والارض تتنفس من شقوق جلدها، سماء تولد في احضان شجر اللوز، بياض في الروح عاليا كالأفق، وأن أصدق الغيم واكذب الدخان الاسود واشارات الموت السياسي والجفاف.
ابحث عن يوم ممل، لا يرن تلفوني المحمول ليخبرني ان الاسير ياسين السراديح قد اعدمه جيش الاحتلال بدم بارد في مدينة اريحا، اطلقوا عليه رصاصة مزقت اوردته وشرايينه وانهالوا عليه ضربا وحشيا، قتلوه ميدانيا وأخفوا الرواية، اصبح هذا اليوم جنازة مفتوحة لم تتوقف، تصعد اريحا فوق سطح البحر الميت تغسل عينيها بالملح وتتنهد.
ابحث عن يوم ممل، انا الفلسطيني الذي يعيش تحت نير الاحتلال الاسرائيلي منذ خمسين عاما واكثر، اسمع كل صباح عن حملات الاعتقال الواسعة في كافة المناطق الفلسطينية، اطفال وشبان ونساء وفتيات ، يستنفر عقلي واعصابي، يستنفر الاهالي، يستنفر المحامون بحثا عن المعتقلين في مراكز التوقيف والتحقيق ، وأن وجدوهم يعودون صامتين مدهوشين مصدومين.
ابحث عن يوم ممل، اجلس فيه مع اولادي وبناتي، اتمدد تحت شجرة في فناء البيت، اسقي شتائل النعنع وادعو جيراني للمشاركة في الاستماع لموسيقى الارض وحواسها السبع، نراقب مجرى النبع صافيا صافيا كأسمائنا وقلوبنا، لم يصادره المحتلون، لم يجرفوه ويدفنوه ويمنعوه من الجريان يغسل الحقل والمعنى.
أبحث عن يوم ممل ، إجازة طويلة من واقع الاحتلال، لا اسمع عن اعتداءات المستوطنين على الناس والمزارعين والمقدسات، لا اقتحامات للمسجد الاقصى وسقوط العشرات من الجرحى، لا اسمع هدير الجرافات تهدم البيوت والآبار والاماكن التاريخية، تجرف الاراضي وتلاحق النساء في العيسوية وشارع صلاح الدين، يوم ساكن لا رائحة فيه لحرب على الماء والشجر والطيور ووجوه الاطفال والقدس.
ابحث عن يوم ممل، يوم بلا جنازات وروايات مفزعة عن اعدامات ميدانية تعسفية يتعرض لها الشبان والفتيات في الشوارع وعلى الارصفة، رصاص حي وقنابل غاز واقتحامات ليلية، اريد ان لا يتغذى هذا اليوم على دم جثثنا وعذاباتنا، أن لا يصبح الحيّ قبل قليل ميتا بعد قليل، او سجينا او معاقا محمولا على عكازات وهواء ينتحب.
ابحث عن يوم ممل، لا يقف امام خطواتي جدار اسمنتي عال فوقه برج يصوب اسلحته على قلبي ورأسي ، جدار يحجب البحر وبقايا ظلي وذاكرتي ، لا ارى البعيد لأنهم القوا القبض على بصري، سماء مسيجة وعشب يابس ، غزلان تسقط في الفخاخ تطوق جسدي.
ابحث عن يوم ممل دون أسئلة، قدم الاسير محمد براش متعفنة مهددة بالبتر ، من اين نحضر قدما وادوية؟ تسألني امه في موجة حزن متكسرة ، لماذ لم تجر عمليات جراحية لإنقاذ الاسيرة اسراء جعابيص؟ يسألني ابنها الصغير وقد ضاقت به الامكنة، أين جثة ولدي عبد الحميد، تسألني أمه ازهار ابو سرور، حجزوه في مقابر الارقام او في الثلاجات الباردة، قتلوه وجمّدوا مواعيده القادمة.
ابحث عن يوم ممل، لا يستيقظ فيه الطفل في ساعات الفجر الاولى ، بنادق فوق رأسه، رعب وصراخ وكلاب وضرب، في السرير دم، على الحيطان دم، على الوجه والرأس والكتفين دم، اطلقوا الرصاص على الحلم والوسادة ونشيد المدرسة.
ابحث عن يوم ممل، لا أفاجيء كل لحظة بتشريع قانون عنصري جديد، حمّى مجنونة في البرلمان الاسرائيلي، الجرائم بقوانين، الفساد بقوانين، الاعتقالات والتصفيات والاستيطان وقرصنة الاموال واحتجاز الشهداء والانفاس والهمسات بقوانين، التهمونا وتوغلوا قتلا واستيطانا وانتقاما من صنوبر الكرمل حتى نخيل البادية.
ابحث عن يوم ممل، أفتح نافذتي ، لا ارى جدارا ومستوطنة ، اصغي لدقات قلبي العاشق، امشي دون ان يوقفني حاجز عسكري أو قناص يصوب فوهة بندقيته الى قلبي، التقي حبيبتي اينما اشاء، أشدّ يدها وأشدّ السماء، تنتبه الينا غيمة شاردة.
ابحث عن يوم ممل، ان لا تكون غزة محاصرة، الشهداء عادوا الى مقاعد الدراسة، ليسوا مجرد وصايا على الفيسبوك يكتبون ويرحلون، لا اشاهد العائلات في غزة تنام في الشوارع، ولا مجاري تتدفق الى البحر بعد ان تلوث الماء، ارواح الشبان تتعانق على السياج الحدودي، تتآلف وتتوحد بين الارض والسماء.
ابحث عن يوم ممل، اصلي في المسجد الاقصى المبارك يوم الجمعة، اقرع أجراس الكنيسة يوم الاحد، طريقي الى المعلوم وليس الى المجهول، مسيحيون مسلمون فلسطينيون كنعانيون، ذاكرة واحدة ، صلاة واحدة ، لا حاخام في بيتنا، لا مداهمة لصلاتنا ولا صليب يصلبنا، لا ننظر الى ساعاتنا، الوقت كله لنا، نمتليء بعبادتنا ونتجلى في حضور كثيف الحضور.
ابحث عن يوم ممل، يوم عادي، اشرب القهوة على مهل، ادخن سيجارتي على مهل، احلق لحيتي على مهل ، لا يستعجلني خبر جاء من سجن عسقلان او نفحة، لا يوترني صوت المذياع يعلن ان ام الاسير كريم يونس مريضة جدا تتمنى ان تراه بعد 36 عاما في السجن، اين الزمن الكسول؟ اين عقارب الساعة التي لا تدور في سجون الاحتلال؟ لماذا اتحرك بسرعة؟ اجري بسرعة ، كلي انتباه ، زمن الاحتلال يلتهمنا قبل ان نعبر الحلم على جسر الذاكرة.
ابحث عن يوم ممل، امشي طويلا، أرقص في الاعراس وأزور الاصدقاء، اقرأ الروايات والقصائد ، اوقظ التاريخ والنصوص النائمة، اكتب دون تأويل واستعارات، واضحا واضحا، لا اضجر من ان يكون الرثاء مديحا وموعدا لحياة متكاملة.
ابحث عن يوم ممل
افتح بوابة السماء
اعانق نهاري المطل
تحبل الحجارة من عناقنا
يولد الرجاء