الأربعاء: 17/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الهاتف المحمول والسيميولوجيا

نشر بتاريخ: 06/02/2019 ( آخر تحديث: 06/02/2019 الساعة: 18:48 )

الكاتب: لبيب فالح طه

يعتبر التواصل بين البشر قديم قدم الإنسان نفسه، وهو مستمر ما استمرت الحياة، ويتم التواصل عبر الكلام أو الإشارات، وقد يستوجب الأمر استعمال الإشارات في حالة كون احد المتحاورين على الأقل أبكم، أو عدم وجود لغة مشتركة يتقنها الاثنان مثلا.
في حال الكلام المنطوق أو غير المنطوق هناك إشارات تحمل علامات ودلالات عديدة، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في عدة مواقع كما في سورة البقرة للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم ، وفي سورة الأعراف وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ، وفي سورة الأعراف أيضا: ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ، وفي سورة محمد: ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ، وفي سورة الرحمن: يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ، وفي سورة الفتح: سيماهم في وجوههم من أثر السجود .
يسمى الكلام المنطوق علم اللغويات، أما الكلام غير المنطوق فيعرف على أنه علم العلامات أو السيميائية او السيميولوجيا، وقد عرفت الموسوعة البريطانية السيميائية semiotics أو semiology بأنها دراسة العلامات واستعمالاتها، ومؤسس هذا العلم هو اللغوي السويسري فرديناند دي ساسور، وقد تلاه علماء فيما بعد منهم تشارلز موريس ورولان بارت وتوماس سيبوك وغيرهم.
تحفل تصرفات البشر بالكثير من العلامات، والهاتف المحمول- الذي يعتبر عالما قائما بذاته- يحتوي معظم ما يحتاجه الإنسان من خدمات الاتصال والتواصل والاطلاع على مختلف مستجدات العالم وأسعار العملات وأحوال الطقس ومواعيد الصلاة وخريطة المواقع وغيرها، بحيث أصبح من ضرورات الحياة التي قد لا يستغني الإنسان عنها في العصر الحديث.
يزخر المحمول بالكثير من السيميائيات؛ فاختيار الماركة التجارية والشكل والسعر والمظهر والخلفية ونغمة الرنين وحداثة الجهاز هي أشياء تحمل من الإشارات الشيء الكثير؛ إنها تشير إلى المستوى الاقتصادي والطبقي، وعمر الشخص ومستواه التعليمي، وذوقه وحسن اختياره وتركيبته النفسية، إنها تخفي عالما قائما بذاته للشخص الذي يحمل المحمول، وفي نفس الوقت يحمل استعماله له وطريقة حديثه بواسطته الكثير من الدلالات والمؤشرات.
في مجال الحديث عن الاتصال عبر الجهاز المحمول يتشعب الكلام كثيرا حيث أن طريقة الحديث تأخذ أبعادا شتى؛ السيميائيات التي تحملها نبرة الصوت ومدى ارتفاعه أو انخفاضه، الكلام بعفوية أو تصنع وتكلف، الرد على المتصل بصورة طبيعية أو التدقيق لمعرفة المتصل، الرد على الجميع أو الانتقائية في ذلك، تجاهل الاتصالات أو الرد عليها، إطالة الحديث أو الاختصار والإجابة بشكل موجز، التذمر قبل الرد على المتصل أو بعد ذلك، إعطاء الأولوية للمتحدث معه أو تركه والرد على الاتصال عبر المحمول، الحديث أثناء قيادة السيارة أو إيقاف السيارة للرد أو الرجوع للمتصل بعد النزول من السيارة، التكلم بوقار وجدية أو بنزق وانفعال، الحديث بالفصحى أو العامية، الحديث بلهجة المدن أو القرى ....الخ، كل هذه الأشياء وغيرها تزخر بالمعاني والعلامات التي هي مجال تحليل المحللين النفسيين والاجتماعيين والسلوكيين وغيرهم.
هناك مقولة تكلم حتى أعرفك أو تكلم حتى أراك ، والتي يختلف في شخصية قائلها؛ فمن قائل أنه سقراط إلى قائل أنه عمر بن الخطاب ورأي ثالث يقول أنه علي بن أبي طالب، وبغض النظر عن القائل فهي تعكس أهمية القول،وسواء كان القول منطوقا أو تصرفا عبر علامات دالة قد يختلف في تفسير مدلولاتها.
الهاتف المحمول أصبح صرعة العصر، ويشبه الإدمان للشباب والشابات خاصة، إنه يعكس توجهات اجتماعية وطبقية، يعكس حالة ثقافية وقيمية، ولا أظن أن هناك مبالغة لو قلت إن التعاطي مع الهاتف المحمول يعكس روح الفرد والمجموع وطموحاته مما يستدعي من الخبراء والعلماء دراسة هذه الظاهرة بموضوعية وتعمق، والاستفادة منها في مجالات علمية ومعرفية مهمة.